شَرْحُ كِتَابِ العِلْمِ مِن صَحِيحِ البُخَارِيِّ لِسَمَاحَةِ الشَّيْخِ العَلَّامَةِ عَبْدِ اللَّـهِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ جِبْرِيْنٍ ـ حَفِظَهُ اللَّـهُ تَعَالَى ،ورَعَاهُ ـ [ أشرطـة مفرغـة، لم يراجعها شيخنا ] قام بتنسيق الشَّرح ونشره : سَلْمَانُ بْنُ عَبْدِ القَادِرِ أبُوْ زَيْدٍ ـ سَدَّدَهُ اللَّـهُ فِيْمَا يُخْفِيْ وَيُبْدِيْ إِنَّهُ بِكُلِّ خَيْرٍ كَفِيْلٌ وَعَلَى كُلِّ شَئٍ وَكِيْلٌ ـ مُقدِّمَةُ شَيْخِنا ابْنِ جِبرِيْنٍ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، صلى الله وسلم على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. من كتاب صحيح البخاري في هذه الليالي أربع ليالي في مثل هذه الليلة نقرأ في كتاب العلم من صحيح البخاري فالبخاري اختار في صحيحه الأحاديث الصحيحة التي لا مطعن في أسانيدها ولا في متونها؛ فهو أصح الكتب المصنفة. بدأ صحيحه بحديث في تصحيح النية، ثم بأحاديث فيما يتعلق بنزول الوحي، ثم بالأحاديث التي تتعلق بالإيمان، ثم بعد ذلك بكتاب العلم وهو إشارة إلى أن العلم أولى أن يعتنى به، وأن من العلم علم الحديث الذي يهتم بروايته ويهتم بتعلم معانيه، فنحب أن نقرأ في هذا الكتاب ولو كان الكتاب كثيرا -يعني لا نتمكن من قراءة الكتاب كله كتاب العلم-؛ لكن نقرأ منه ما تيسر. نستمع إلى كلام البخاري بابا بابا، كلما قرأنا بابا وما تحته من الأحاديث والآثار علقنا عليه بما تيسر ولو كان كلام الشراح أوسع بكثير، ولكن نقتصر على الإيضاح للدلالة على المعاني، فأولا نستمع المتن ثم بعد ذلك نتكلم عليه. بَاب فَضْلِ الْعِلْمِ بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- قاضي الحديث وجبل الحفظ وإمام الدنيا في صحيحه : كِتَاب العِلْمِ. بَاب فَضْلِ الْعِلْمِ وَقَوْلِ اللَّـهِ تَعَالَى : ﴿ يَرْفَعْ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾[ سورة المجادلة ، الآية : 11 ] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾[ سورة طه ، الآية : 114 ] قال ـ رحمه الله تعالى ـ : بَاب مَنْ سُئِلَ عِلْمًا وَهُوَ مُشْتَغِلٌ فِي حَدِيثِهِ فَأَتَمَّ الْحَدِيثَ ثُمَّ أَجَابَ السَّائِلَ. قَالَ أبُوْ عَبْدِ اللَّـهِ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ قَالَ : و حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي هِلَالُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّـهُ تَعَالَى عَنْهُ ـ أَنَّهُ قَالَ : بَيْنَمَا النَّبِيُّ ﷺ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ : مَتَى السَّاعَةُ ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللَّـهِ ﷺ يُحَدِّثُ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ : سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ لَمْ يَسْمَعْ ، حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ : أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَنْ السَّاعَةِ ؟ قَالَ : هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّـهِ ، قَالَ : فَإِذَا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ . قَالَ : كَيْفَ إِضَاعَتُهَا ؟ قَالَ : إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ ، فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ. « الشَّـرْحُ » : بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على محمد البخاري يذكر فضل العلم ويذكر طريقة تحصيل العلم ، ففي الباب الأول ذكر آيتين في فضل العلم آية في سورة المجادلة قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّـهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾[ سورة المجادلة ، الآية : 11 ] يقول: إن قوله: ﴿ يَرْفَعِ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ﴾ قال بعض المشائخ: أي منكم أيها الصحابة ثم قال: والذين أوتوا العلم منكم ومن غيركم يرفعهم الله درجات وهذه الدرجات يراد بها درجات الآخرة. بمعنى أن الله -تعالى- يرفعهم في الآخرة درجات كما قال تعالى: ﴿ لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾ [ سورة الأنفال ، الآية : 4 ] وفي الحديث أن « في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض » فكلما ارتفع أحدهم في الجنة كان ذلك أعلى لمكانته وأرفع لمقامه، وأكثر نعيما له، هذا الرفع في الآخرة. وكذلك أيضا الرفع في الدنيا بمعنى أن طالب العلم والمحصل له يرفعه الله على غيره كما في قوله تعالى: ﴿ لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾ أي منازل بعضهم أفضل من بعض، فطلب العلم يرفع الله -تعالى- به طالبه، أما الآية الثانية قوله تعالى: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ النبي -صلى الله عليه وسلم- علمه الله قال تعالى: ﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾[ سورة النِّساء ، الآية : 113 ]. امتن عليه بأن علمه ما لم يكن يعلم، فدل هذا على فضل العلم إذا كان الله -تعالى- علم نبيه ومع ذلك أمره بأن يطلب ربه المزيد أن يقول: ﴿ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ لا شك أن هذا دليل على محبة التزود أن كل عابد يحسن منه أن يتزود من العلم أن يقول ﴿ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ في كل ساعة يطلب ربه أن يزيده علما ولا يقتصر على العلم الذي قد رزقه فإنه قليل بالنسبة إلى ما يجب عليه تعلمه: وليس كل العلم قـد حويته * * * أجل ولا العشر ولو أحصيته بَاب مَنْ سُئِلَ عِلْمًا وَهُوَ مُشْتَغِلٌ فِي حَدِيثِهِ فَأَتَمَّ الْحَدِيثَ ثُمَّ أَجَابَ السَّائِلَ. أما الباب بعده ففيه كيفية التعليم أو كيفية إجابة السائل؛ هذا الرجل أعرابي سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: متى الساعة؟ والنبي -صلى الله عليه وسلم- مشتغل بمسألة يعلمها أصحابه، كان يقص على أصحابه ويحدثهم ويتكلم معهم في مسألة علمية فكره أن يقطعها بإجابة هذا الأعرابي الذي سأل بقوله: أخبرني متى الساعة؟ أو أخبرني عن الساعة ؟ الصحابة لما رأوه لم يجبه لأول مرة، قال بعضهم: يمكن أنه لم يسمع كلامه -مع أنه قد سمعه لأنه صوت به- قال آخرون: يمكن أنه سمعه ولكن كره السؤال؛ لأنه سؤال عن أمر من أمور الغيب التي لا يعلمها إلا الله، وقال آخرون: يمكن أنه أخر الجواب. لا شك أنه كان يكره السؤال على الأشياء الغيبية التي لا يعلمها إلا الله ولهذا لما سأله جبريل في الحديث المشهور: أخبرني عن الساعة؟ قال: « ما المسئول عنها بأعلم من السائل » أي لست أعلم منك أي أنا وأنت في علمها سواء أي في العلم بها متى تقع، كذلك في هذا أنه لما انتهى من حديثه الذي كان يحدث به أصحابه؛ أجاب السائل بعد ذلك فأخبره بقوله: « إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة » ، معلوم أن علم الساعة عند الله قال تعالى: ﴿ يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّـهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ﴾ [ سورة الأحزاب ، الآية : 63 ]. وقال -تعالى- : ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ﴾ [ سورة الأعراف ، الآية : 187 ] يكثر سؤالهم متى الساعة؟ متى تقوم الساعة؟ علمها عند الله قال -تعالى- ﴿ إِنَّ اللَّـهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ﴾ [ سورة لقمان ، الآية : 34 ] أي لا يعلمها إلا هو وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله في قوله تعالى: ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ﴾ [ سورة الأنعام ، الآية : 59 ] أولها علم الساعة ومع ذلك فقد أخبر ببعض أشراطها؛ إذا وسد الأمر إلى غير أهله؛ فإن ذلك من إضاعة الأمانة، إذا ولي على المسلمين من ليس بأهل، وكان الولاة كلهم في جميع البلاد غير أكفاء للولاية وغير أهل لها فعند ذلك يقرب أن تأتي الساعة بغتة.نستمع إلى كلام البخاري. قالَ أبُوْ عَبدِ اللَّـهِ ـ رحمه الله تعالى ـ : بَاب مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْعِلْمِ. قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنْ عَبْدِ اللَّـهِ بْنِ عَمْرٍو ـ رَضِيَ اللَّـهُ تَعَالَى عَنْهُمَا ـ أَنَّهُ قَالَ : تَخَلَّفَ عَنَّا النَّبِيُّ ﷺ فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلَاةُ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ : « وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ » ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. « الشَّـرْحُ » : في هذا الباب من رفع صوته بالعلم الحديث يتعلق بالطهارة، ذكر الصحابي أنهم كانوا في سفر، وكانوا يتوضئون؛ إما أنهم يحملون الماء أو أنهم يتحرون أن يصلوا على ماء، فتأخر عنهم قليلا وقد أرهقهم وقت الصلاة، فلما جاء إليهم ورآهم يتوضئون وضوءا خفيفا، في بعض الروايات، أن أرجلهم لم تتبلغ بالماء وبالأخص مؤخرها -الذي يسمى العقب الذي هو فوق العرقوب-فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار، وكرر ذلك هذه فائدة علمية رفع بها صوته؛ يدل على أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يحرص على أن يعلم الناس بالفائدة التي يريد أن يبينها لهم، وأنه أيضا يكرر الفائدة مرة أو مرتين أو ثلاثا حتى يتبلغ بها الحاضرون؛ وحتى يسمعوها ويعقلوا المراد بها. فهذا من الفوائد العلمية أفادهم حتى لا يتسرعوا في الطهارة ولا يخففوا الوضوء؛ بل يسبغون الوضوء، ففي هذا جواز رفع الصوت بالعلم إذا رأى إنسان من يخل بعبادة فإنه يرفع صوته أيها الناس: عليكم بكذا وكذا لا تتساهلوا بأمر كذا عليكم بالمحافظة على كذا فيرفع صوته حتى يسمعوه وحتى يبين لهم ما أخطئوا فيه. بَاب قَوْلِ الْمُحَدِّثِ حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَأَنْبَأَنَا وَقَالَ لَنَا الْحُمَيْدِيُّ كَانَ عِنْدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَأَنْبَأَنَا وَسَمِعْتُ وَاحِدًا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّـهِ ﷺ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ . وَقَالَ شَقِيقٌ عَنْ عَبْدِ اللَّـهِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ كَلِمَةً. وَقَالَ حُذَيْفَةُ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّـهِ ﷺ حَدِيثَيْنِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُمَا ـ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ. وَقَالَ أَنَسٌ ـ رَضِيَ اللَّـهُ تَعَالَى عَنْهُ ـ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّـهُ تَعَالَى عَنْهُ ـ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ. قالَ أبُوْ عَبدِ اللَّـهِ ـ رحمه الله تعالى ـ : حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّـهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللَّـهُ تَعَالَى عَنْهُمَا ـ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ ﷺ : « إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ ؟ » فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي ، قَالَ عَبْدُ اللَّـهِ : وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَاسْتَحْيَيْتُ، ثُمَّ قَالُوا : حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّـهِ ؟ قَالَ : « هِيَ النَّخْلَةُ ». « الشَّـرْحُ » : لما اشتغل العلماء برواية الحديث كان أحدهم يرويه عن شيخه بقوله: سمعت الشيخ فلان. وبعضهم يقول: حدثني شيخي فلان. وبعضهم يقول: أخبرني فلان. وبعضهم يقول: أنبأنا فلان. وبعضهم يقول: روى لنا فلان. ثم اختلفوا هل مدلولها واحد، أم بينها اختلاف؟ وذلك لأن بعضا منهم صار يتساهل في الرواية ويروي ما لم يسمعه؛ فلذلك اصطلح بعضهم على بعض الاصطلاحات، وبعضهم سوى بينها. فالبخاري وكذلك شيخه الحميدي وشيخ شيخه سفيان بن عيينة يرون أنه لا فرق بين أن يقول: سمعت وحدثني وأخبرني أن جميع المؤدى واحد يقول: إذا رويت عن شيخك حديثا فإنك ترويه بأحد هذه العبارات، كثيرا ما يروي البخاري -مثلا- عن شيخه الحميدي واسمه عبد الله بن الزبير صاحب المسند المطبوع مسند الحميدي فيقول: حدثنا الحميدي أو حدثنا عبد الله بن الزبير يعني الذي هو الحميدي حدثنا سفيان -يعني ابن عيينة - حدثنا الزهري حدثني سالم حدثني ابن عمر فهذا من أحاديثه. البخاري –مثلا- يجوز عنده أن يقول: حدثني وأخبرني، كثيرا ما يأتي بـأخبرنا حكاية لما قاله شيخه غالبا إذا جاء شيخه بعبارة فإنه يأتي بها كما جاء بها حرصا على أن يؤديها كما سمعها، فيقول –مثلا- حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب -يعني الزهري - فشعيب يخبر بأبي اليمان الحكم بن نافع أخبرنا شعيب فدائما أبو اليمان يقول: أخبرنا ولا يقول حدثنا. أما مسلم صاحب الصحيح فإنه يفرق بينهما؛ فدائما يذكر عبارات مشائخه. فإذا روى عن ثلاثة مشائخ بيَّن من قال: حدثنا ومن قال: أخبرنا، فيقول: -مثلا- حدثنا يحيى بن يحيى و يحيى بن أيوب و قتيبة بن سعيد و علي بن حجر قال يحيى بن يحيى أخبرنا، وقال الآخرون: حدثنا. يعني أتى بعباراتهم أن يحيى بن يحيى يقول دائما: أخبرنا، والبقية يقولون: حدثنا مع أن الجميع سمعوه من شيخهم سواء، ولكن بعضهم يعبر بـأخبرنا بعضهم يعبر بـحدثنا وأكثرهم اصطلحوا على أن حدثنا إذا سمع الحديث ومعه غيره من كلام الشيخ، إذا قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر فمعناه تكلم بهذا الحديث ونحن نسمع ونحن جماعة وإذا قال: حدثني إسماعيل بن جعفر فمعناه أنه حدثنيه وأنا وحدي سمعته من كلامه. وإذا قال: أخبرنا فإنه قرئ عليه الكتاب أو الحديث وهم حاضرون؛ فجاء الخبر إليهم كأنه كتب الحديث في رسالة أو كتبه في أوراق وأعطاه واحدا منهم، وقال: هذه أحاديثي التي حدثتها –مثلا- التي حدثنيها مشائخي، اقرأها يا أحدهم فإذا قرأها عليهم والشيخ يسمع وهم يسمعون ويقر ذلك فإنهم يقولون: أخبرنا إسماعيل -مثلا- أو أخبرنا وكيع هذا اصطلاح من الإمام مسلم وغيره. أما البخاري فعنده أنها سواء واستدل بأنها مستعملة عند كثير من الصحابة فابن مسعود روى حديثا في القدر وقال: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق، فاستعمل كلمة حدثنا. وحذيفة يقول :حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، « حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال » إلى آخر الحديث يتعلق بالأمانة وبنزعها، رواه مسلم كاملا، وكذلك في حديث عبد الله بن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتي مرة بجمار فأكل منه بعض أصحابه جمار النخل ثم قال: « إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المؤمن حدثوني ما هي؟ حدثوني يعني تكلموا بذلك فخاض الناس في شجر البوادي الإيضاح في البوادي يقول ابن عمر ووقع في نفسي أنها النخلة ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله » . فالحاصل أنه قال :حدثوني وقالوا: حدثنا يعني تكلم بذلك أمامنا. كذلك أيضا كلمة عن جاءت في هذه الأحاديث يرويه عن ربه، يرويه عن ربكم -سبحانه وتعالى- اصطلح المحدثون على أن العنعنة أقل رتبة من التحديث، فإذا قال –مثلا- عن الزهري عن سالم عن أبيه احتمل أنه سمعه من الزهري أو لم يسمعه بل بينه وبينه واسطة؛ فلذلك لا يقبلون العنعنة إلا إذا كان ذلك المعنعن غير مدلس. المدلس هو الذي يسقط شيخه ويروي الحديث عن شيخ شيخه الذي قد لقيه ولكنه لم يسمع منه ذلك الحديث، فأحيانا سفيان بن عيينة -رحمه الله- يستعمل التدليس أحيانًا، فإما أن يقول: عن الزهري أو يقول: قال الزهري أو يقول: الزهري عن نافع عن ابن عمر أو عن سالم عن ابن عمر وكثير من الذين يستعملون التدليس يقولون: لا يقبل الحديث عنهم إلا إذا صرحوا بالتحديث، إذا قالوا: حدثنا الزهري وعلى كل حال هذه من عبارات المؤلفين أنهم يستعملون حدثنا وأخبرنا وسمعت وعن وأنبأنا لرواية الحديث عن مشائخهم. قَالَ ـ رَحِمَهُ اللَّـهُ تَعَالَى ـ : بَاب طَرْحِ الْإِمَامِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَصْحَابِهِ لِيَخْتَبِرَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ. قالَ أبُوْ عَبدِ اللَّـهِ : حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّـهِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللَّـهُ تَعَالَى عَنْهُمَا ـ: عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ : « إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ حَدِّثُونِي مَا هِيَ ؟ ». قَالَ : فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي ، قَالَ عَبْدُ اللَّـهِ : فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ ، فَاسْتَحْيَيْتُ .ثُمَّ قَالُوا : حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّـهِ ؟ قَالَ : « هِيَ النَّخْلَةُ ». قَالَ ـ رَحِمَهُ اللَّـهُ تَعَالَى ـ : بَاب مَا جَاءَ فِي الْعِلْمِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى : ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [ سورة طه ، الآية : 114 ]. الْقِرَاءَةُ وَالْعَرْضُ عَلَى الْمُحَدِّثِ وَرَأَى الْحَسَنُ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ الْقِرَاءَةَ جَائِزَةً ، وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الْعَالِمِ بِحَدِيثِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ ـ رَضِيَ اللَّـهُ تَعَالَى عَنْهُ ـ قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ : أَاللَّـهُ أَمَرَكَ أَنْ تُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ قَالَ : « نَعَمْ ». قَالَ فَهَذِهِ قِرَاءَةٌ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ أَخْبَرَ ضِمَامٌ قَوْمَهُ بِذَلِكَ فَأَجَازُوهُ ، وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِالصَّكِّ يُقْرَأُ عَلَى الْقَوْمِ فَيَقُولُونَ أَشْهَدَنَا فُلَانٌ ، وَيُقْرَأُ ذَلِكَ قِرَاءَةً عَلَيْهِمْ وَيُقْرَأُ عَلَى الْمُقْرِئِ فَيَقُولُ الْقَارِئُ : أَقْرَأَنِي فُلَانٌ . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْوَاسِطِيُّ عَنْ عَوْفٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : لَا بَأْسَ بِالْقِرَاءَةِ عَلَى الْعَالِمِ. وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفَرَبْرِيُّ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّـهِ بْنُ مُوسَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ : إِذَا قُرِئَ عَلَى الْمُحَدِّثِ ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ : حَدَّثَنِي . قَالَ وَسَمِعْتُ أَبَا عَاصِمٍ يَقُولُ : عَنْ مَالِكٍ وَسُفْيَانَ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْعَالِمِ وَقِرَاءَتُهُ سَوَاءٌ. قالَ أبُوْ عَبدِ اللَّـهِ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّـهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدٍ ـ هُوَ الْمَقْبُرِيُّ ـ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّـهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ : بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْمَسْجِدِ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ : أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ ؟ وَالنَّبِيُّ ﷺ مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ ، فَقُلْنَا : هَذَا الرَّجُلُ الْأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ . فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ : يَا ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ : « قَدْ أَجَبْتُكَ » ، فَقَالَ الرَّجُلُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: إِنِّي سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي الْمَسْأَلَةِ فَلَا تَجِدْ عَلَيَّ فِي نَفْسِكَ .فَقَالَ : « سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ » ، فَقَالَ : أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ أَاللَّـهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ ؟ فَقَالَ : « اللَّهُمَّ نَعَمْ » قَالَ : أَنْشُدُكَ بِاللَّـهِ أَاللَّـهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ؟ قَالَ: « اللَّهُمَّ نَعَمْ » قَالَ : أَنْشُدُكَ بِاللَّـهِ أَاللَّـهُ أَمَرَكَ أَنْ نَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنْ السَّنَةِ ؟ قَالَ : « اللَّهُمَّ نَعَمْ ».قَالَ : أَنْشُدُكَ بِاللَّـهِ أَاللَّـهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ : « اللَّهُمَّ نَعَمْ ».فَقَالَ الرَّجُلُ : آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ. وَرَوَاهُ مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ المُغِيرَةِ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ بِهَذَا. « الشَّـرْحُ » : المعلم أحيانا يلقي على التلاميذ إلقاء فيقول: من العلوم كذا ومن الأحاديث كذا ومن الفوائد كذا وكذا، يسردها عليهم وفي هذه الأحوال قد يغفل بعضهم؛ فلذلك يحسن أن يسألهم فيقول: أخبروني عن مسألة كذا، من يعرف حكم هذه المسألة؟ هل منكم أحد يجيب عن هذه المسألة؟ يختبر بذلك ذكاءهم أو يختبر معرفتهم أو يثير انتباههم، إذا قال: من يعرف هذه المسألة؟ أخبروني بهذه المسألة؟ مثل إلقاء النبي -صلى الله عليه وسلم- السؤال على أصحابه، سؤاله عن تلك الشجرة التي لا يسقط ورقها، فهذا من كيفية تعليم العلم أن يلقي سؤالا على الحاضرين. ثم أحيانا يعرض المسألة يعرضها بعضهم عليه؛ فيقرها فيكون ذلك أيضا إقرارا للعلم؛ كأن يقول لبعضهم أو يقولون له: أليس إذا حصل كذا وكذا أليس الحكم كذا؟ فإذا قال: نعم. أو أشار برأسه أو قال: صدقت كان ذلك من التعليم الذي يتفطن له والذي يستفاد منه فمن ذلك : « أن رجلا قال: يا رسول الله، أرأيت إن صليت الصلوات الخمس وصمت رمضان وأحللت الحلال وحرمت الحرام أأدخل الجنة؟ قال: نعم » ولم يكرر عليه بل قال: نعم، فهذا دليل على أنه قد يكون التعليم بالسؤال. السائل يسأل عن مسألة والمعلم يقتصر على قوله: نعم، يعني الحكم كذا وكذا، ويكثر هذا فيما يجري من الصحابة سؤالهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- واقتصاره على الجواب، اقتصاره على أن يقول: نعم أو حقا أو ما أشبه ذلك، فإذا أقرهم على هذا السؤال كان هذا تعليما، وإن كرر كلامه كان ذلك أيضا تأكيدا. سأله رجل وقال: يا رسول الله، أرأيت إن قاتلت في سبيل الله ثم قتلت أأدخل الجنة؟ قال: نعم. ولم يكرر عليه ما قال؛ إذا قاتلت صادقا فإنك تدخل الجنة وإن كان في بعض الروايات أنه كرر، قال: نعم، إذا قاتلت في سبيل الله محتسبا مقبلا غير مدبر ثم قتلت فإنك تدخل الجنة. تكرير لما قاله السائل وتأكيد له، وهكذا أيضا في هذا الحديث حديث ضمام بن ثعلبة أنه -صلى الله عليه وسلم- أقره لما سأل، لما جاء إليه وهو من بني سعد بن بكر من هوازن؛ لما قال: له إني سائلك فمشدد عليك فلا تجد علي أي لا تغضب، فأولا في بعض الروايات أنه قال: أسألك بالذي رفع هذه السماوات وبسط هذه الأرضين ونصب هذه الجبال وأرسل هذه الرياح وسخر هذا السحاب آلله أرسلك؟ قال: نعم، ولم يقل: إن الله أرسلني، ولما قال:كذلك قال: بعد ذلك: أسألك بالذي أرسلك آلله أمرك أن تأمرنا أن نصلي هذه الصلوات الخمس في أوقاتها؟ قال: نعم. أقره على ذلك ولم يقل أمرني الله أن أصلي أو أن آمركم أن تصلوا هذه الصلوات في مواقيتها بل اقتصر على عرضه أو أقره على ما عرضه، وكذلك قال في الصدقة وفي الصيام وفي بقية أركان الإسلام، فهذا فيه كيفية التعليم -كمثلا- إذا قرأت فائدة كتبها أحد المشائخ وأعطاك تقرأها فقرأتها عليه وأقرها؛ فإنها تكون فائدة مأخوذة منه، كذلك أيضا إذا سئل أحد المشائخ أو المعلمين وقيل له: -مثلا- أليس الذي ينقر صلاته لا تقبل منه صلاته؟ فقال: نعم كان هذا تعليما كأنه يقول: لا تقبل صلاة من ينقر الصلاة وإن كان قد ورد في ذلك أدلة، وهكذا لو سأله وقال: أليس الذي لا يسبغ الوضوء ولا يتعاهد مثلا أعضاءه بالوضوء فيبقى بعضها لم يمسه الماء لا وضوء له؟ فإذا قال: نعم. كان هذا أيضا تعليما، فالتعليم يكون بإلقاء الكلمات على المتعلمين، ويكون بسؤالهم وإقرارهم على ذلك السؤال الذي يعتبر كأنه جواب. قَالَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ ـ رَحِمَهُ اللَّـهُ تَعَالَى ـ : بَاب مَا يُذْكَرُ فِي الْمُنَاوَلَةِ وَكِتَابِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْعِلْمِ إِلَى الْبُلْدَانِ. وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : نَسَخَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ الْمَصَاحِفَ فَبَعَثَ بِهَا إِلَى الْآفَاقِ. وَرَأَى عَبْدُ اللَّـهِ بْنُ عُمَرَ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ ذَلِكَ جَائِزًا ، وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ الْحِجَازِ فِي الْمُنَاوَلَةِ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ حَيْثُ كَتَبَ لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ كِتَابًا ، وَقَالَ : لَا تَقْرَأْهُ حَتَّى تَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمَكَانَ ، قَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ وَأَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ. قَالَ أبُوْ عَبدِ اللَّـهِ : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّـهِ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّـهِ بْنِ عَبْدِ اللَّـهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُ ـ أَنَّ عَبْدَ اللَّـهِ بْنَ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُمَا ـ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّـهِ ﷺ بَعَثَ بِكِتَابِهِ رَجُلًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ ، فَدَفَعَهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى فَلَمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ. فَحَسِبْتُ أَنَّ ابْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ : فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّـهِ ﷺ أَنْ يُمَزّ َقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ. قَالَ أبُوْ عَبدِ اللَّـهِ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّـهِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : كَتَبَ النَّبِيُّ ﷺ كِتَابًا أَوْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ ، فَقِيلَ لَهُ : إِنَّهُمْ لَا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلَّا مَخْتُومًا ، فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّـهِ ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِهِ فَقُلْتُ لِقَتَادَةَ : مَنْ قَالَ نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّـهِ ؟ قَالَ : أَنَسٌ. « الشَّـرْحُ » : هذا فيه دليل على أن من التعليم الكتابة؛ وذلك لأنها تقوم مقام التحديث، ولأنه قد لا يتيسر لكل أحد أن يحضر عند العالم حتى يسمع من كلامه مباشرة، فلذلك يكتب بعضهم إلى بعض ثم يستفيدون من تلك الكتب، ويستدلون بفعل النبي-صلى الله عليه وسلم- وكذلك بفعل من بعده من الذين يقتصرون على الكتابة ويقرءونها وتقوم مقام القراءة أو مقام السماع، كان بعضهم بينه وبين الآخرين مسافات طويلة لا تقطع إلا بمشقة، فإذا كان عند أحد المشائخ حديث وهو مثلا في مصر - فمن المشقة أن يسافر من المدينة أو من مكة إلى مصر لأجل سماع ذلك. فيكتب إليه أن اكتب لنا بما عندك من الأحاديث التي رويتها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو رويتها عن الصحابة، فذلك العالم المصري يكتبها فيقول: حدثني جابر بكذا وكذا، وحدثني ابن عباس بكذا، وحدثني أنس بكذا وكذا فيختم هذه الكتب –مثلا- أو يطويها أو يقرؤها على الذين حضروا ويقول: اشهدوا أن هذه أحاديثي التي أرويها عن فلان فبلغوها إلى تلميذي –مثلا- قتادة أو مجاهد أو عكرمة أو نحو ذلك، فهذا الذي سمعها الذي هو –مثلا- قتادة ما سمعها من كلام الشيخ ولكن قرئت عليه من هذه الورقة. ففي هذه الحال له أن يقول: أخبرني، أو له أن يقول: كتب إلي –مثلا- الأشعث بن قيس أو أخبرني أو روى أو نحو ذلك، فتكون هذه من تيسير نيل العلم. بعض العلماء قالوا: إن هذا أقل حالة من التحديث إذا سمعه –مثلا- من شيخ وبعضهم قال: كلها سواء يختار ذلك البخاري وبعضهم يقول: الكتابة أقوى وذلك إذا تحقق أن هذا كتاب شيخه وأنه كتبه بيده فإنه أقوى؛ وذلك لأن الكتابة لا يكون فيها رواية بالمعنى يرويه وينقله من هذه الورقة من هذه الصحيفة كما هو ولا يحدث من حفظه؛ وذلك لأنه إذا حدث من حفظه فقد يزيد وقد ينقص وقد يغير، فلذلك كان الرواية من الورقة أولى. مشاهد أنهم لما كانوا يعتمدون على الحفظ كثرت رواياتهم بالمعنى وكثر تبديل كلمة مكان كلمة وتقديم جملة على جملة، فالذين فيما بعد ينقلون الأحاديث من الأوراق اتفقت روايتهم ولم يبق فيها شيء من التغيير ولا من الرواية بالمعنى؛ فنجد –مثلا- الذين يحدثون عن الدارمي يحدث هذا –مثلا- يروي عنه مسلم حديثا ثم يرويه عنه البخاري ويرويه عنه أبو داود وتتفق روايتهم إذا رووه عن الدارمي ؛ لأنهم ينقلونه من كتابه، وكذلك الذين يحدثون –مثلا- عن سعيد بن منصور ينقلون من كتابه الذي ألفه، وكذلك إذا حدث مسلم عن ابن أبي شيبة وحدث عنه أيضا ابن ماجة عن ابن أبي شيبة حديثا واحدا لم يكن فيه اختلاف، وهكذا مثلا إذا حدث الإمام أحمد عن عبد الرزاق وحدث عنه محمد بن رافع لم يكن فيها اختلاف لماذا؟ لأنهم ينقلونه منه نصا يعني من الكتاب بدون زيادة وبدون تغيير أو نقص أو نحو ذلك؛ فهذا يرجح أن رواية الحديث مكاتبة أنها أقوى. ومع ذلك فكثير من المحدثين لا يقبلون الحديث الذي يكون كتابة؛ من ذلك ما رواه الحسن البصري عن سمرة بن جندب -يكثر تحديث الحسن عن سمرة - ثم يطعن بعضهم فيه ويقولون: الحسن ما سمع من سمرة قد يكون ما سمع منه إلا مرة أو مرتين؛ ولكن كان يكاتبه يرسل إليه أحاديث مكتوبة يكتبها له فيرويها الحسن عن سمرة و الحسن ليس بمتهم لأنه من ثقات التابعين ومن علماء الأمة. فلا يقول: قال سمرة أو عن سمرة إلا ما تحققه، فيحكم بأن روايته عنه ثابتة، وكذلك رواية الحسن عن أبي هريرة يقولون: إنه ما لقي أبا هريرة مع أنه ولد في عهد أو في آخر خلافة علي بن أبي طالب أو في آخر خلافة عثمان ونشأ في المدينة و أبو هريرة في المدينة ولكن أكثر روايته عنه مكاتبة، فعلى كل حال الصحيح أن رواية الكتابة مقبولة ولا عبرة بمن طعن في رواية الراوي بأنه ما لقيه إذا كان يكاتبه، أو يروي عنه بواسطة ويحذف تلك الواسطة إذا كان ذلك الحاذف لها من ثقات التابعين ومن علماء الأمة. الكتب الآن أصبحت متوفرة وأصبح الناس ينقلون عنها ويعتمد على نقولهم، وفي القرن الثاني عشر أو في الثالث عشر كان هناك عالم تصدر للفتوى ولكن لم يكن عنده مراجع اسمه جمعان بن ناصر في الوادي وادي الدواسر أو ما حوله فلم يكن عنده كتب فكان يكتب إلى المشائخ الذين في الرياض يكتب إلى حمد بن ناصر بن معمر ويكتب إلى عبد الرحمن بن حسن وتجدون كتبهم له في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية فيقول: من حمد بن ناصر إلى جمعان بن ناصر سؤالك الأول عن كذا وسؤالك الثاني عن كذا وسؤالك الثاني جوابه كذا، وهكذا أيضا يكتب له فحصل على علم وهو ما وصل إليهم لبعد المشقة؛ لأنه لا يستطيع فيقتصر على هذه الأسئلة وتأتيه مكتوبة فلا شك أن هذا وسيلة من وسائل تحصيل العلم. قالَ المؤلف ـ رَحِمَهُ اللَّـهُ تَعَالَى ـ : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّـهِ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّـهِ بْنِ عَبْدِ اللَّـهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّـهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّـهِ ﷺ بَعَثَ بِكِتَابِهِ رَجُلًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ ، فَدَفَعَهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى فَلَمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ. فَحَسِبْتُ أَنَّ ابْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ : فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّـهِ ﷺ أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ. « الشَّـرْحُ » : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، في هذا الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما فتح الله عليه بلاد العرب وأهل الجزيرة رأى أيضا أن يدعو غير العرب، وكان أهل الشام نصارى يقال لهم: الروم، وأهل العراق مجوس، أهل العراق وأهل إيران وما وراء النهر يقال لهم: الفرس ولا يزالون إلى الآن يتسمون بأنهم فرس، وأن بلادهم بلاد فارس ، فكتب إلى قيصر الذي هو ملك الروم واحترم كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وقبله، وهمَّ بأن يسلم ولكن خاف على ملكه فلم يدع عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وكتب إلى كسرى الذي هو ملك الفرس وكان مجوسيا فلما جاءه كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- مزقه ولم يهتم به، دعا عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يمزقه الله كل ممزق فمزق الله -تعالى- ملكه. وذلك لأن الروم بقي لهم ملك مئات السنين استقروا في تركيا في القسطنطينية وهي إسطنبول وبقي لهم ملك، وأما الفرس انقطع ملكهم، الصحابة -رضي الله عنهم- فتحوا العراق وواصلوا فتحا فتحا إلى خراسان وإلى ما وراء ذلك حتى قتل ملكهم واسمه يزدجرد وانقطع ملكهم. الشاهد من هذا الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسل كتابه وأنهم في بعض الروايات قالوا: إنهم لا يقرءون الكتاب إلا مختوما فاتخذ خاتما نقشه محمد رسول الله ثلاثة أسطر، وختم كتابه وأرسله فقبلوا كتابه قبلوه، ولما قبلوه قرءوه ولكن غضب ذلك الملك، فاستدل بذلك على أنه تقبل الكتابات ولم يزل على ذلك المحدثون؛ إذا كان- مثلا-أحدهم في مصر كتب إليه التلاميذ الذين في المدينة أو في مكة أو في صنعاء أو غير ذلك فكتب إليهم: حدثني فلان قال:حدثني فلان إلى أن يكتب لهم الأحاديث التي عنده تأتيهم ويقبلونها، لكنهم ما يقولون: حدثنا فلان، ما يقولون:- مثلا -حدثنا الليث بن سعد عالم مصر ولكن يقولون: أخبرنا أو أنبأنا أو عن الليث ؛ لأنه ما حدثهم مشافهة هذا اصطلاح كثير منهم والبخاري يبيح ويجوز أن يقول: حدثنا وإن كان مكاتبة. اتخاذ الخاتم في الكتابات قَالَ أبُوْ عَبدِ اللَّـهِ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّـهِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : كَتَبَ النَّبِيُّ ﷺ كِتَابًا أَوْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ ، فَقِيلَ لَهُ : إِنَّهُمْ لَا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلَّا مَخْتُومًا ، فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّـهِ ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِهِ فَقُلْتُ لِقَتَادَةَ : مَنْ قَالَ نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّـهِ ؟ قَالَ : أَنَسٌ. « الشَّـرْحُ » : اتخاذه لهذا الخاتم لأجل أن يوثق به أن يتحققوا أنه كتابته أو أنه خطابه ونهى أن ينقش أحد على نقش خاتمه، وجعل كتابته محمد رسول الله ثلاثة أسطر؛ وذلك لأن أولئك الملوك قد لا يقبلونه ولا يصدقون، به إلا إذا كان مختوما فلذلك كان يختم كتاباته بهذا الختم. بَاب مَنْ قَعَدَ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ وَمَنْ رَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا. قَالَ أبُوْ عَبدِ اللَّـهِ : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّـهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّـهِ ﷺ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ إِذْ أَقْبَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّـهِ ﷺ وَذَهَبَ وَاحِدٌ. قَالَ : فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللَّـهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا . فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّـهِ ﷺ قَالَ : « أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ ؟، أَمَّا أَحَدُهُمْ ، فَأَوَى إِلَى اللَّـهِ ؛ فَآوَاهُ اللَّـهُ ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا ؛ فَاسْتَحْيَا اللَّـهُ مِنْهُ ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ ؛ فَأَعْرَضَ اللَّـهُ عَنْهُ ». « الشَّـرْحُ » : نستفيد من هذا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يجلس لأصحابه ليعلمهم، وأنهم يتحلقون حوله تارة يكونون حلقة أو حلقتين أو ثلاثا يستديرون حوله، وإذا ضاق بهم فإنهم يتوسعون، أمرهم الله -تعالى- بذلك في قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّـهُ لَكُمْ ﴾ [ سورة المجادلة ، الآية : 11 ] إذا كانوا –مثلا- ستة تحلقوا حلقة فإذا جاء ثلاثة توسعوا حتى تكون الحلقة تسع التسعة، ثم إذا جاء آخر ابتعدوا وتوسعوا وربما تكون الحلقة من عشرين، ولكن إذا كانوا بعيدين تقاربوا وجعلوا حلقة أخرى وراءهم وحلقة ثالثة ورابعة، ويقولون: إن هذه الحلقات إنها تشبه حلقات الملائكة، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر بأن « لله ملائكة سياحين في الأرض يلتمسون حلق الذكر » ؛ حلق يعني القوم الذين يتحلقون للذكر أو للعلم. في هذه القصة ذكر أبو واقد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان مرة في المسجد وحوله أصحابه، وكان يحدثهم حديثا لم يذكره أبو واقد وكأنه يتعلق بالأحكام يتعلق بتعليم حكم من الأحكام أو خبر من الأخبار أو ما أشبه ذلك، ثم في أثناء تحديثه دخل ثلاثة المسجد، دخلوا من باب واحد وهم ثلاثة، ولما رأوا الحلقة اثنان منهم أقبلا وواحد خرج ولم يأت إلى الحلقة، وقفا على الحلقة رأى أحدهما فرجة فجلس فيها، الآخر رآهم متزاحمين ولم يحب أن يفرق بينهم فجلس خلفهم. ذكر أبو واقد أنه بعدما انتهى النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديثه المتعلق بحكم من الأحكام تكلم عن هؤلاء الثلاثة. قال: أما أحدهم: فآوى إلى الله فآواه الله. هذا هو الذي جلس في تلك الفرجة؛ آواه الله يعني حفظه ووفقه من آواه الله -تعالى- فقد وفقه، يعني حفظه وحرسه وزاده خيرا؛ لأنه لجأ إلى ربه التجأ إليه فعند ذلك آواه الله يعني وفقه. أما الثاني: فاستحيا أن يزاحمهم فاستحيا الله -تعالى- منه كما يشاء، وصفة الحياء صفة مدحها النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: « الحياء خير كله »، « الحياء لا يأتي إلا بخير » ، « الحياء من الإيمان ». ووصف الله -تعالى- به مثل سائر صفاته نؤمن بها ولا نكيفها؛ جاء في حديث عن سلمان في سنن الترمذي وغيره أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: « إن ربكم حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا » فوصف الله -تعالى- بأنه حيي كريم، فالحياء خلق فاضل يحمل على ما يجمل ويزين، وعلى ترك ما يدنس ويشين، وإذا كان كذلك فإن هذه الصفات نؤمن بها ولا نكيفها كسائر صفات الله -تعالى- ؛ وذلك لأن الله -تعالى- يوصف بما وصف به نفسه أو بما وصفه به نبيه -صلى الله عليه وسلم- من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تكييف ولا تأويل. وأما الثالث: فأعرض؛ فأعرض الله عنه؛ لما أنه لم يرغب في العلم بل خرج وقدم هواه على التعلم، وعلى الحلقات العلمية عوقب بأن الله -تعالى- أعرض عنه، وصفة الإعراض، أيضا في هذا الحديث نثبتها على ما يليق بالله- تعالى- ولا نؤولها، تكلف بعض الشراح حتى ابن حجر وأولوا هذه الصفات استحيا أولوها، وأعرض أولوها؛ يعني صرفوها وفسروها بتفاسير بعيدة، والأولى أن يقال: نثبتها على ما يليق بالله -تعالى- في سائر صفاته. والحاصل أن في هذا الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقيم حلقات في مسجده، وكان الصحابة يحضرون عنده ويتحلقون حوله ويقرأ عليهم القصص والآيات ويعلمهم الأحكام، ثم إنه أيضا إذا عرض عارض فلا يقطع حديثه بل يستمر في حديثه حتى ينهيه، ثم بعد ذلك يتكلم في ذلك الذي اعترض. تقدم قصة الأعرابي الذي جاء والنبي -صلى الله عليه وسلم- يحدث أصحابه فاعترض وقال:يا رسول الله متى الساعة؟ ولم يجبه ولم يقطع حديثه فاستمر في حديثه حتى أكمل ما هو يحدثهم به ثم بعد ذلك أجابه أجاب ذلك السائل عن سؤاله، فيدل على أنه يكره أن يسأل المعلم إذا كان يتكلم في قصة أو في حكم حتى يفرغ، وإذا كان عند أحد سؤال -يعني يتعلق بجملة من تلك الجمل التي يقصها المعلم- فإنه يحفظها إلى أن يفرغ من حديثه كله ثم بعد ذلك يسأله، فيقول: قلت في كذا وكذا فما المراد؟ أو تكلمت بكذا أو ذكرت حديث كذا أو ذكرت جملة كذا وكذا فأخبرنا عن سببها ونحو ذلك؛ لأنه يحب أن يتواصل الحديث الذي له أول وآخر وألا ينقطع فقد يكون انقطاعه يشوش عليه إذا كان –مثلا- يتكلم عن تعريف الحمد ﴿ الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾[ سورة الفاتحة ، الآية : 2 ] يحب أن يتواصل كلامه إلى أن يتم معه الآية قد يبدو لأحدهم تعريف آخر للحمد أو لموجبه أو ما أشبه ذلك، فإذا انتهى المعلم من كلامه على الآية رفع إليه السؤال ففي هذا الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يتكلم عن حكم هؤلاء الثلاثة حتى أنهى حديثه. بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ. حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ : ذَكَرَ النَّبِيَّ ﷺ قَعَدَ عَلَى بَعِيرِهِ وَأَمْسَكَ إِنْسَانٌ بِخِطَامِهِ ـ أَوْ بِزِمَامِهِ ـ قَالَ : « أَيُّ يَوْمٍ هَذَا ؟ » فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوَى اسْمِهِ. قَالَ : « أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ ؟ » قُلْنَا : بَلَى .قَالَ : « فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا ؟ » فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ ، فَقَالَ : « أَلَيْسَ بِذِي الْحِجَّةِ ؟ » قُلْنَا بَلَى . قَالَ : « فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا ، لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ ». « الشَّـرْحُ » : الحديث -كما عرفنا- تكلم به النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع وفي يوم النحر اليوم العاشر من ذي الحجة؛ وذلك لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يخطبهم في أيام مواسم، فخطبهم في يوم التروية بمنى وفي يوم عرفة بعرفة وخطبهم في يوم النحر، وخطب أيضا في اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر؛ وذلك لأنهم اجتمع جمع كبير فأحب أن يخطبهم ويعلمهم في بعض الروايات: أنه لما خطبهم في منى فتح الله له الأسماع فسمعوه مع بعدهم؛ يعني يمكن أنهم سمعوه وهم في أقصى منى كانت خطبه كلها تعليما في أمورهم بما يتعلق بالحج، وبما يتعلق بغيره. كان من جملة ما حدثهم به وخطبهم هذه الخطبة، سألهم: أي يوم هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. سكتوا وسكت حتى ظنوا أنه سيسميه بغير اسمه؛ فسماه باسمه يوم النحر وهو من شهر حرام، أي شهر هذا؟ فسكتوا أو قالوا: الله ورسوله أعلم، سكت حتى ينبههم ويلفت انتباههم فقال: أليس شهر ذي الحجة؟ قالوا: بلى. سألهم بعد ذلك رواية: أي بلد هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم سكت ثم قال: أليس بلد الله الحرام؟ في رواية: أليس البلدة؛ وذلك ليقررهم أن اليوم يوم حرام والشهر شهر حرام والبلد بلد حرام، وذلك لأنهم يعرفون هذا قبل الإسلام يعرفون البلد مكة أنها حرام لا يقاتلون فيها يلقى أحدهم قاتل أبيه ولا يهيجه ولا يقتله، إذا دخلوا مكة ألقوا السلاح ولا يقاتل أحد لاعترافهم بحرمة البلد وبكونها بلد البيت الحرام وبكونها حرم الله، وكذلك الأشهر الحرم وهي أربعة: شهر رجب في وسط السنة لا يقاتلون فيه؛ لأنهم يعتمرون فيه في وسط السنة الذين يكونون قريبا يسافرون في شهر رجب إلى العمرة وهم آمنون ويسمى رجب مضر لأن مضر القبيلة المشهورة يحترمونه، والثلاثة الأشهر التي فيها الحج ذو القعدة وذو الحجة والمحرم يحترمون هذه الثلاثة يحجون فيها، شهر ذي القعدة يسافرون فيه وشهر ذي الحجة يقيمون فيه بمكة أو حولها وشهر محرم يرجعون فيه إلى أهليهم فيكونون آمنين، فهذه أشهر حرم شهر حرام ويوم حرام وبلد حرام. النبي -صلى الله عليه وسلم استفتاهم وسألهم فلما قالوا: حرام أو قال لهم حرام أكد عليهم تحريم بعضهم على بعض فقال: إن دماءكم وأموالكم، وفي رواية: وأعراضكم عليكم حرام؛ أعني حرام على بعضكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ولا يكون ذلك خاصا بالأشهر الحرم بل بقية السنة وبقية العمر، احترموا بعضكم بعضا ولا يتجرأ أحد منكم على قتال المسلمين في شهر حرام أو في غير شهر حرام هكذا أكد عليهم. ذكر بعضهم أن هذا الحديث ناسخ للأشهر الحرم اختصاصا كأنه يقول: إنكم ما تعترفون إلا بأربعة أشهر تتركون القتال فيها، وإن الإسلام جعل الأشهر كلها والسنة كلها حراما فاحترموا بعضكم في جميع الوقت في الأشهر الحرم وفي غيرها، فدماؤكم دماء بعضكم على بعض محرمة، وأموال بعضكم على بعض محرمة، وكذلك أعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ولما بلغهم هذا قال: ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب؛ الشاهد يعني الحاضر منكم والذي سمع هذا الكلام؛ حيث إن هناك أناسًا غائبين، فعليك يا أيها الحاضر أن تبلغ الغائبين وتخبرهم بما سمعت من هذا الكلام ومن هذا التحريم، فرب مبلغ أوعى من سامع هكذا أمرهم بالبيان وبالتبليغ وهو عام في كل من حمل علما أن يبلغه إلى من لم يحمله أو لم يسمعه. وهكذا أيضا قال في خطبته في عرفة فإنه خطبهم خطبة بليغة وذكرهم بأشياء فقال لهم- مثلا- إن كل دماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضعه دم ابن أبي ربيعة أحد أقاربهم.... ... ثأرا بدم جاهلي أبدا ثم قال: « وإن ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس » العباس كان له ربا على كثير من الناس فوضعه، يعني لا يطالب به لقول الله -تعالى- : ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ وأوصاهم بالنساء وقال: « إنكم أخذتموهن بأمانة الله » إلى آخره، ثم قال بعد ذلك: « ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب؛ فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه » واستشهدهم وقال: « إنكم مسئولون عني فما أنتم قائلون؟ فقالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال: اللهم هل بلغت، اللهم اشهد- كرر ذلك مرارا- ». فذلك من بيانه ومن تبليغه أمر بأن ينقل عنه، وأن لا يكتم العلم من علمه ورأى له مستحقا ورأى أنه بحاجة إليه، فأنت إذا حملت حديثا أو آية ورأيت من يجهلها أو من يعمل بخلافها فلا يسعك السكوت، عليك البيان عليك أن تبلغه عملا بهذا، « ليبلغ الشاهد منكم الغائب » الشاهد الحاضر السامع، والغائب الذي لم يسمع ولم يحضر فإنه قد يكون محتاجا إلى علم فهذا دليل على وجوب التبليغ وتحريم الكتمان. بَاب الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ لِقَوْلِ اللَّـهِ تَعَالَى : ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ ﴾[ سورة محمّد ، الآية : 19 ]. فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَرَّثُوا الْعِلْمَ مَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّـهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ . وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ : ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾[ سورة فاطر ، الآية : 28 ]. وَقَالَ : ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾[ سورة العنكبوت ، الآية : 43 ]. ﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾[ سورة الملك ، الآية : 10 ]. وَقَالَ ﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾[ سورة الزّمر ، الآية : 9 ]. وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: « مَنْ يُرِدْ اللَّـهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ ، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ ». وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ : لَوْ وَضَعْتُمْ الصَّمْصَامَةَ عَلَى هَذِهِ ـ وَأَشَارَ إِلَى قَفَاهُ ـ ، ثُمَّ ظَنَنْتُ أَنِّي أُنْفِذُ كَلِمَةً سَمِعْتُهَا مِنْ النَّبِيِّ ﷺ قَبْلَ أَنْ تُجِيزُوا عَلَيَّ لَأَنْفَذْتُهَا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : ﴿كُونُوا رَبَّانِيِّينَ ﴾[ سورة آل عمران ، الآية : 79 ] حُلَمَاءَ فُقَهَاءَ ، وَيُقَالُ الرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ . « الشَّـرْحُ » : هكذا أورد البخاري هذه الآثار وهذه الآيات، والأدلة كثيرة؛ منها ما هو على شرطه ومنها ما ليس على شرطه، فيقول: باب العلم قبل القول والعمل يعني العلم يبدأ به قبل العمل لماذا؟ لأن العمل بلا علم جهل، الذي يعمل بلا علم يتخبط في الجهالة، فلا بد أنك تتعلم ثم بعد ذلك تعمل. ذكر ذلك الشيخ محمد بن عبد الوهاب في ثلاثة الأصول يقول: إنه يجب علينا أربع مسائل، تعلم أربع مسائل: الأولى: العلم وهو معرفة الله .. وأهمه معرفة الله ومعرفة نبيه ومعرفة دين الإسلام بالأدلة. الثانية: العمل به. الثالثة: الدعوة إليه. الرابعة: الصبر على الأذى فيه. ذكر من الأدلة هذا الباب. قال البخاري -رحمه الله- باب العلم قبل القول والعمل والدليل قوله تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾[ سورة محمّد ، الآية : 19 ] فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، الله -تعالى- أمر نبيه والأمر لجميع الأفراد ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ ﴾ يعني اعلم ذلك وتحققه. ذكر بعض أبناء أئمة الدعوة أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب يقول: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يعلم معنى لا إله إلا الله حتى نزلت عليه هذه الآية مع أن الآية مدنية، وهذا كذب ما قال ذلك إنما استدل بالآية على فضل العلم، وأنه يقدم على العمل وأن الخطاب وإن كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- لكنه لكل فرد من أفراد الأمة. فالعلم يقدم ثم بعد ذلك يتبعه العمل ويكون العمل نتيجة مفيدة، نتيجة للعلم وثمرة له يقول بعض العلماء: العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل؛ يعني العلم الصحيح يأمر صاحبه بأن يعمل به فإن عمل به بقي العلم وإن لم يعمل به ذهب العلم، وجعلوه ثمرته لكل شيء ثمرة وثمرة العلم العمل، ويقول بعضهم: العلم بلا عمل كالشجر بلا ثمر، وجاء في بعض الأحاديث: أن العلماء الذين لا يعملون بعلمهم يعذبون قبل عبدة الأوثان، فيقولون: كيف نعذب قبل عبدة الأوثان؟ فيقال: ليس من يعلم كمن لا يعلم . والأدلة على العلم كثيرة؛ منها هذه الآيات وغيرها، الله تعالى مدح العلم ومدح أهله من ذلك قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾[ سورة فاطر ، الآية : 28 ] إنما للحصر أي لا يخشاه حق الخشية إلا العلماء به الذين يعلمون عظمته ويعلمون جلاله، ويعلمون كبرياءه ويعلمون أحقيته وهؤلاء هم أهل الخشية الذين يخشون الله -تعالى- حق خشيته ويخافونه حق خوفه، هذا دليل على فضل العلم وكذلك قوله تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾[ سورة الزمر ، الآية : 9 ] الجواب ماذا؟ الجواب: لا يستويان، لا يستوي عالم وجاهل وبذلك إذا فسر قول الله تعالى: ﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ﴾[ سورة فاطر ، الآية : 19 ] الأعمى هاهنا هو الجاهل والبصير العالم لا يستويان؛ وذلك لأن العلم نور تذكرون قول الشافعي: شــكوت إلى وكيع سوء حفظي * * * فأرشدني إلى ترك المعاصي وقـال اعلـم بأن العـلم نـور * * * ونــور الله لا يؤتاه عاصي فجعل العلم نورا وذلك لأنه ينور لصاحبه؛ فلذلك لا يستوي العالم والجاهل، كذلك ذكر الله-تعالى- العلماء مع الملائكة للشهادة به على وحدانية الله في قوله تعالى: ﴿ شَهِدَ اللَّـهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ ﴾ [ سورة آل عمران ، الآية : 18 ] لم يستشهد إلا بأهل العلم دل ذلك على أنهم يحملهم علمهم بالله -تعالى- وبأسمائه على أن يشهدوا له بوحدانيته هذا دليل على فضل العلماء، والمراد بهم العالمون بالله، العالمون بوحدانيته والعالمون بأسمائه وصفاته والمعترفون بها، والعالمون بأمره ونهيه وبوعده ووعيده، والعالمون بأحكامه هؤلاء هم الذين ذكر الله أنه يرفعهم: ﴿ يَرْفَعِ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [ سورة المجادلة ، الآية : 11 ] يرفعهم درجات في دنياهم وفي أخراهم؛ في دنياهم يكون لهم شرف وفضل على غيرهم بحيث يحترمون، وفي الآخرة يرفعهم الله في درجات الجنة. وكذلك اعترف الملائكة بفضل العلم فضل آدم ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ﴾ [ سورة البقرة ، الآيتان : 31 ، 32 ] ففضل الله تعالى آدم لما علمه تلك الأسماء، أسماء الحيوانات والأدوات وما أشبهها فدل على فضل العلم. وكذلك من فضله ما جاء في هذا الحديث ولكنه لم يصح على شرط البخاري فجعله في الترجمة، حديث صحيح مروي في السنن وفي المسند، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: « من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله به طريقا إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع وإن العالم ليستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر ». هذا الحديث شرحه العلماء أفرده ابن رجب بشرح في رسالة مطبوعة، شرح هذا الحديث مما يدل على أنه صحيح وأطال في شرحه، كذلك الذين شرحوا البخاري لما أنه استشهد ببعض جمله أطالوا أيضا في شرحه مما يدل على أهميته، فالمراد بالطريق من سلك طريقا المسلك والجادة والسبيل سواء كان بعيدا أو قريبا، ولهذا كان طلبة العلم يقطعون المسافات للتعلم يقطعون المسافات البعيدة والقريبة لأجل التعلم، ويغيب أحدهم عن أهله سنة أو سنوات لا يأتيهم خبره يتعلم حرصا على أن يسلك الله به طريقا إلى الجنة، وكذلك أيضا يعدون هذا العلم الذي هو علم الوحيين وعلم الشريعة يعدونه أشرف العلوم وأنه ميراث الأنبياء. الأنبياء لم يهتموا بالدنيا لم يورثوا دينارا ولا درهما ولم يهتموا بكسب الدنيا إنما ورثوا العلم، إنما خلفوا العلم الذي بلغوه قد يقول القائل: أليس لهم تركات ولهم أموال؟ نقول: نعم، ولكن لا تورث عنهم، جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: « لا نورث ما تركنا صدقة » لا نورث أي لا يكون لنا تركة تقسم وقال: « لا يقتسم ورثتي بعدي درهما ولا متاعا » ومع ذلك فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يخلف دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا أمة ولا شيئا إلا سلاحه ومتاعه وأرضا جعلها صدقة. خالف في ذلك الرافضة الذين يطعنون على أبي بكر لمالم يعط فاطمة من ميراث أبيها، وكان أبو بكر -رضي الله عنه- قد صحب النبي -صلى الله عليه وسلم- وعرف كيف يتصرف في هذه الواردات؛ ما يرد عليه من الصدقات، وما يرد عليه من الزكوات، وما يرد عليه من الجزية، وكذلك الأرض التي كانت فتحت بدون قتال كبلاد بني النضير وفدك ونحوها، فيقولون: إن أبا بكر ظلم فاطمة ؛ ولأجل ذلك يكفرونه ويلعنونه، ومما يستدلون به يقولون: إن زكريا قال: ﴿ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ﴾ [ سورة مريم ، الآيتان : 5 ، 6 ] فطلب ولدا يرثه وإن سليمان ورث أباه قال تعالى: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ ﴾ [ سورة النمل ، الآية : 16 ] وما علموا أن الميراث هاهنا ميراث النبوة، وأن داود له أولاد كثير غير سليمان . وإنما سليمان هو الذي ورث النبوة، وكذلك زكريا ما طلب الولد لأجل يرثه المال وإنما يرث العلم ﴿ يَرِثُنِي ﴾ يعني يأخذ ما عندي من العلم ﴿ وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ﴾ يعني من العلوم التي كانت باقية بعد يعقوب وبعد أولاد يعقوب هذا دليل على أن الأنبياء لا تهمهم الدنيا ولا يهتمون بتوريث أولادهم منها وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر. من الأدلة أيضا على فضل العلم الحديث الذي أشار إليه قوله -صلى الله عليه وسلم- : « من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين » لا شك أن هذا أيضا حديث يدل على فضل التفقه والتعلم والحرص على تعلم العلم وتعليمه. كذلك أيضا ما ذكر عن ابن عباس في تفسير الرباني في قوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّـهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّـهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾[ سورة آل عمران ، الآية : 79 ] من المراد بالرباني الذي ذكر في هذه الآية: ﴿ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ ﴾ ؟ الرباني: هو الذي يربي بصغار العلم قبل كباره، يعني يعلم تلاميذه حتى يربيهم التربية هي التنشئة؛ يعني أنه يحرص على أن ينشئهم على العلم النافع فيعلمهم مبادئ العلوم شيئا فشيئا، ثم بعد ذلك يتوسع بهم إلى أن يحصلوا على العلم فيسمى ربانيا. والربانيون: هم العلماء الذين تربوا على العلم وربوا عليه غيرهم كان الصحابة يحرصون على نيل العلم وعلى تعليمه؛ فنقل عن أبي ذر وغيره أنه قال: لو وضعتم الصمصامة على هذا وأشار إلى رأسه، الصمصامة يعني السيف الحاد شديد الحدادة، ثم علمت أني أنفذ كلمة قبل أن تجيزوا علي لنفذتها؛ يعني لو رأيت الموت رأيت أني سوف أقتل ولكني سأتكلم بكلمة من العلم أو بفائدة أو بجملة قبل أن يجهز علي لنقلتها؛ يدل هذا على أي شيء؟ يدل على حرص الصحابة على البيان حرصهم على تعليم العلم وعلى نشره وبيانه مهما كان ولو في آخر لحظة من الحياة. وهكذا كانوا يخشون من كتمان العلم، ومع ذلك كانوا يحرصون على أن يبلغوا ما عندهم من العلم خوفا من معرة الكتمان. وذلك لأن الله -تعالى- توعد من يكتم العلم وعيدا شديدا اقرءوا قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّـهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾ [ سورة البقرة ، الآية : 159 ] الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والآيات والهدى بعد أن أنزله للناس فيكتمونه ويخفونه ولا يعلمون الناس وهم يعرفون أنهم بحاجة إليه، وقال الله – تعالى- في نفس السورة البقرة: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّـهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [ سورة البقرة ، الآية : 174 ] توعدهم بهذا الوعيد ، والآية وإن كان يراد بها اليهود ولكنها عامة. الآيات التي نزلت في اليهود يراد بها تحذير الأمة أن يفعلوا كفعلهم؛ لأنهم كتموا صفة النبي -صلى الله عليه وسلم- وكتموا كثيرا من كتبهم التي تخالف ما كانوا يعملونه والتي تكون حجة عليهم لماذا كتموها؟ لأنها تحرمهم شيئا من المصالح الدنيوية تحرمهم مناصب رفيعة تحرمهم دخلا يأتي إليهم من جهلتهم ومن عوامهم، فيقال: إن –مثلا- بعض الناس يعرف الأدلة ويعرف الأحكام ويعرف التحريم لهذا الأمر ويعرف الحلال والحرام ومع ذلك فإنه يكتم، ويفتي بغير ما يعلمه ويقول: إني إذا جهرت بالحق لم يقبل العوام مني وإذا خالفت ما يهوونه فإنهم لا يحترموني ولا يبقى لي منزلة عندهم، فأنا أكتم الدليل أو أكتم الحكم وأفتي بغيره حتى يكون لي شعبية، ويكون لي شهرة ويكون لي منزلة، إذا دخلت عليهم قاموا لي وأجلسوني في صدر المجلس ووقفوا علي وتمسحوا بي واحترموني وعرفوا مكانتي، فإذا قلت لهم –مثلا- لا يجوز التوسل بالأنبياء نفروا مني لأنهم ألفوا ذلك. وإذا قلت لهم: لا يجوز السفر إلى القبور مقتوني لأنهم يألفون ذلك قديما ولأنهم قد نشئوا عليه، وإذا قلت لهم لا تحيوا ليلة المولد نفروا مني وأبغضوني وعصوني، وإذا قلت لهم وجه المرأة عورة مقتوني وهجروني، وإذا قلت لهم: لا يجوز للمرأة السفر بدون محرم خالفوني وعصوني فأنا أفتيهم بخلاف ما أعلم في هذه المسائل وأوافقهم على ما يهوون ولو كان بدعا ولو كنت أعلم أني خاطئ حتى أكتسب عندهم منزلة وحتى يحترموني، فمثل هذا داخل في هؤلاء الذين يكتمون العلم. إذا كان هذا الصحابي يقول: لو وضعتم الصمصامة السيف الحاد على رأسي على أنكم سوف تقتلوني، وقدرت على أني أنفذ كلمة سمعتها من النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن تجيزوا علي يعني قبل أن تقتلوني لنفذتها حرصا منهم على البيان وعلى التبليغ الذي أمرهم به النبي -صلى الله عليه وسلم-. ثبت عنه أنه قال: « بلغوا عني ولو آية » يعني ولو لم تحفظوا إلا آية واحدة. نكتفي بهذا. س: هذا سائل يسأل عن حكم التحلق في المسجد يوم الجمعة لقراءة قرآن، أو سماع أحاديث هل يدخل في ضمن النهي عن التحلق قبل الجمعة؟ ج : لا يدخل، الذي جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة، أو التحلق للتحدث. قالَ المصنفُ ـ رَحِمَهُ اللَّـهُ تَعَالَى ـ : بَاب مَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَخَوَّلُهُمْ بِالْمَوْعِظَةِ وَالْعِلْمِ كَيْ لَا يَنْفِرُوا. قَالَ : مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : « كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الْأَيَّامِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا ». « الشَّـرْحُ » : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. في هذا الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتخولهم بالموعظة كراهة السآمة عليهم. الصحابة -رضي الله عنهم- قلوبهم رقيقة يتأثرون بالموعظة، ويكون لها وقع في نفوسهم، فإذا كانوا عنده بالمجلس وذكرهم وعرفهم رقت منهم القلوب، ودمعت منهم الأعين، وخشعت منهم الأبصار، واقشعرت منهم الجلود، وخشعوا واستكانوا، وأثرت الموعظة فيهم؛ فيكون من آثارها أنهم قد ينقطعون بالعبادة، وقد يتخلون من شهوات الدنيا، ومن ملذاتها من آثار تلك الموعظة. فكان- صلى الله عليه وسلم- لا يواصل الموعظة والتذكير ونحوه مخافة السآمة عليهم، ومخافة أن يتأثروا تأثيرا بغيضا؛ فلذلك كان يعظهم كل أسبوع مرة أو مرتين هكذا. والمراد بالموعظة هاهنا التذكير والتخويف؛ بحيث يذكرهم بالآخرة، ويذكرهم بمعادها، وما فيها من الوعيد ومن الثواب والعقاب، ومن الأقوال ومن النكال، ومن عاقبة الدنيا ومآلها وتقلبها بأهلها، ومن أحوال المكذبين ممن سبق، وما نزل بهم من المثلات، وما حل به من العقوبات، من آثار المعاصي والسيئات. فلذلك إذا ذكرهم فإنهم يخشعون، ويخضعون، ويسكنون، ويتأثرون بالموعظة تأثرا بغيضا؛ فكان يخشى عليهم من الانقطاع الكلي، وترك ما كان مباحا لهم، وقد وقع منهم قصص؛ فمن ذلك قصة حنظلة ؛ أنه جاء إلى أبي بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة ؟ قال: نافق حنظلة قال: ماذا تقول؟ فقال: إنا نكون عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيذكرنا الآخرة كأنا رأي العين، فإذا رجعنا إلى أهلينا عافسنا النساء والأولاد؛ فنسينا كثيرا مما كنا نعلمه، فقال أبو بكر والله إنا لكذلك. فعند ذلك جاء حنظلة إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- وقال له هذه المقالة، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- : « لو تدومون على ما كنتم عليه عندي لصافحتكم الملائكة في مجالسكم؛ ولكن يا حنظلة ساعة وساعة » يعني لا تدومون على الحالة التي كنتم عندي فيها؛ من حالة الخشوع والخضوع ولكن ساعة وساعة؛ يعني زاولوا شهواتكم، وزاولوا أمور مكاسبكم وصناعتكم وحظوظكم وأشغالكم وزاولوا دنياكم، وكذلك اجلسوا مع أولادكم ومع نسائكم، وتناولوا ما أحل الله لكم، وإذا كنتم عندنا فإنكم تخشعون وتخضعون وتتواضعون ولا يؤثر ذلك في خشوعكم، ولا يكون ذلك علامة على أنكم منافقون؛ وهم منزهون عن ذلك، وكذلك تأثر بموعظة النبي-صلى الله عليه وسلم –كثير. فمنهم عثمان بن مظعون كان من المهاجرين، هاجر معه أهله فتأثر بالمواعظ؛ فاعتزل امرأته، ويقال لها: الحولاء فبقي مدة لا يجلس معها ولا ينال منها شيئا، بقي أشهرا متتابعة؛ فلما رأت أنه اعتزلها لم تعتن بنفسها، وصارت تخرج أو تجلس وهي شعثة، مغبرة اللون، خلقة الثياب، فاستنكر ذلك منها بعض النساء؛ سألنها فقالت: إن زوجي ليس له رغبة في النساء؛ إنما هو مكب على العبادة، مكب على الدعاء والصلاة في الليل يقوم كله، وفي النهار يصوم. سمع بذلك النبي-صلى الله عليه وسلم - فعاتبه على ذلك؛ ما هذا التبتل؟ فأخبره بأن ذلك رغبة في الآخرة، ومحبة للنجاة في الآخرة، عند ذلك عاتبه وقال: لا يجوز لك هذا؛ بل تناول ما أباح الله لك، فبعد ذلك سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- وتناول ما أحل الله له. يقول ابن مسعود رد رسول- صلى الله عليه وسلم -على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا؛ أي تركنا الشهوات ومنها الدنيا، ولو لم نجد إلا أن نختصي حتى لا يكون لنا ميل إلى النساء، ووقائع لهم كثيرة. ففي هذه الأزمنة القلوب قاسية؛ وذلك لكثرة المغريات، ولكثرة الشهوات، فلو أنه ذكروا كل يوم مرة مرتين ثلاث مرات، ما خشعوا ولا خضعوا ولا بلغوا رتبة الصحابة-رضي الله عنهم- لما في الصحابة من رقة القلوب ومن الخوف والخشية الشديدة؛ فنقول: لا مانع من أن يوعظ الناس كل يوم أو كل يوم مرارا؛ سواء في المجالس أو بعد الصلوات في المساجد أو في الخطب أو ما أشبه ذلك، فإن القلوب تحتاج إلى ما يلينها؛ بخلاف ما كان عليه الصحابة، وما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-. وكان أيضا أصحاب ابن مسعود مثل الصحابة في رقة القلوب؛ فكان يعظهم كل يوم خميس، فقالوا له: لو وعظتنا كل يوم: فأخبرهم بحالة النبي -صلى الله عليه وسلم-أنه كان يتخولهم بالموعظة كل أسبوع مخافة السآمة عليهم أي مخافة المشقة التي تؤدي بهم إلى ترك الشهوات وما أشبهها. قَالَ أَبُوْ عَبْدِ اللَّـهِ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ : « يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا ». « الشَّـرْحُ » : هكذا جاء في هذا الحديث: يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا، وأوصى بذلك بعض الصحابة لما أرسل أبا موسى و عمارا إلى اليمن كدعاة قال لهم: يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتتطاوعا ولا تختلفا. التيسير معناه: ذكر سماحة الدين، وذكر يسر الإسلام، وذكر ما في الدين من السهولة والمرونة، وأنه ليس فيه صعوبات ولا تكليفات ولا غيرها؛ ولذلك وصف الله- تعالى –نبيه-صلى الله عليه وسلم- بقوله: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾[ سورة الأعراف ، الآية : 157 ] وفي قراءة: ﴿ويضع عنهم آثارهم والأغلال التي كانت عليهم﴾ ؛ وذلك لأن في دين بني إسرائيل آثارا وأثقالا وأغلالا ومشقات فجاء الإسلام بوضعها، وأزيلت بسهولات وغيرها. كان أحدهم إذا أصابت ثيابه نجاسة لا يغسلها بالماء وإنما يقرضها بالمقراض، ويرقع بدلها، لا يطهرها الماء، فجاء الإسلام بالطهارة وذلك من رفع الآثار والأغلال. وكذلك أيضا، إذا عمل أحدهم سيئة كتبت على بابه حتى يتوب؛ يكتبها ولاة الأمور، وغيرهم، وكذلك عندهم شدة في المحرمات، فحرم الله عليهم كثيرا من الطيبات قال تعالى: ﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ﴾[ سورة النّساء ، الآية : 160 ] حرم الله عليهم أكل لحوم الإبل، وأكل لحم بعض من الدواب كالنعام، وأكل شحوم السرب والبطن التي من الغنم والبقر، ذكر الله ذلك في قوله: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا ﴾[ سورة الأنعام ، الآية : 146 ] إلى آخره، فجاء الإسلام بإباحة ذلك. ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحب أن ييسر على أصحابه ولا يكلفهم ما يشق عليهم؛ فكان يحثهم على الرفق بأنفسهم وعدم المشقة والتكلفة عليها، ومن ذلك القصص، قصة عبد الله بن عمرو بن العاص كان في أول عمره زاهدا ورعا؛ فكان لما تزوج-زوجه أبوه- عزف عن زوجته؛ وذلك لانشغاله بالعبادة يسألها أبوه ما حالته؟ فتقول: نعم الرجل من رجل! لم يطأ لنا فراشا، ولم يفتش لنا كنفا. فلما طال ذلك عليه اشتكاه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له: كيف تصوم؟ قال: كل يوم، وقال كيف تختم القرآن؟ كل ليلة يعني أنه كل ليلة يقرأ القرآن كله في تهجده ويصوم دائم؛ فمتى يتفرغ لأهله؟! ومتى يتفرغ لشهواته؟! فعند ذلك قصره النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن يصوم يوما ويفطر يوما، وأن يقرأ كل ليلة سبع القرآن وقال له : « إن لنفسك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا، وإن لربك عليك حقا؛ فأعط كل ذي حق حقه». وكذلك « قصة الثلاثة الذين قال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الثاني: أنا أقوم ولا أرقد، وقال الثالث: أنا لا أتزوج النساء فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني » وكذلك « دخل مرة في إحدى بيوته، وإذا حبل معلق في السقف، ما هذا؟ قالوا: حبل ربطته زينب تصلي؛ فإذا فترت تتعلق به فقال: حلوه ليصلي أحدكم نشاطه، فإذا فتر اعترض ليرقد » ، وقال-صلى الله عليه وسلم- : « إذا نعس أحدكم في صلاته» -يعني في تهجده- فليرقد، فإنه لا يدري لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه وغير ذلك من الوقائع. فالإسلام جاء باليسر، وبالسهولة وبالإبعاد عن العسر والمشقة، ولذلك أمثلة منها، إباحة التيمم في السفر لفقد الماء؛ وذلك لأنه يشق عليهم أن يحملوا الماء معهم مدة طويلة، فقال الله تعالى: ﴿ مَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ﴾ [ سورة المائدة ، الآية : 6 ] فنفى عنهم الحرج لما فيه عليهم من مشقة بحمل الماء وأباح لهم التيمم. ومن ذلك الفطر في السفر في قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّـهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [ سورة البقرة ، الآية : 185 ] علم بأن عليهم مشقة في السفر، وصعوبة كانوا يلاقونها، وكذلك في المرض؛ فأباح لهم الفطر والقضاء من أيام أخر، وغير ذلك من سهولة الإسلام. فهذا معنى اليسر، يعنى في دعوتكم إلى الإسلام، لا تذكروا أن في الإسلام صعوبات ومشقات ونحو ذلك؛ بل إن هذا الدين يسر. ثم إن الناس انقسموا في هذا إلى ثلاثة أقسام : فقسم توسعوا : في بعض السهولات وصاروا يأخذون كل كلمة، الدين يسر فيتوسعون في ذلك توسعا زائدا؛ فيفطرون مع عدم المشقة عليهم، ويقصرون الصلاة مع كونهم مقيمين، ويتركون صلاة الجماعة مع أنهم يسمعون المؤذنين، وكذلك أيضا قد يتيممون والماء قريب منهم، أو يحملون معهم ماء ويتركونه ويلجئون إلى التيمم، وكذلك أيضا يؤخرون الصلوات لمجرد شغل -أدنى شغل-وإذا نصحتهم يقولون: الدين يسر، الدين فيه اليسر، لا تشددوا علينا. فنقول: إن هذا ليس من دواعي اليسر إن هذا تفريط وإهمال؛ فلا تتوسعوا في كلمة اليسر، فإن اليسر إنما يكون عند المشقة؛ فإن الله -تعالى- أباح عند المشقات ما تزول به تلك المشقة، فأباح –مثلا- أكل الميتة عند المجاعة وما أشبهها مما يدل على أنه لأجل سهولة الإسلام ونحوه. وكذلك أباح التيمم وما أشبهه؛ فلا يجوز التوسع، الله -تعالى- كلف العباد وأمرهم بالصيام إذا كانوا مقيمين، ولو كان عليهم في بعض البلاد صعوبة من طول النهار ونحوه، وفرض عليهم الصلاة ولو كانت المساجد بعيدة إذا كانوا مقيمين، وكذلك أيضا فرض عليهم الطهارة إذا كانوا مقيمين ولو كان يحصل عليهم صعوبة في نقل الماء، أو كان الماء باردا أو حارا فلا يجوز التوسع في ذلك. أما الذين تشددوا: فإنهم لم يبيحوا رخص السفر مع وجود أسبابها، فيكلفون أنفسهم فوق طاقتها من الأعمال التي فيها مشقة عليهم؛ مع أن الله تعالى أباح لهم ذلك، فيصوم أحدهم ولو كان مريضا؛ يشق عليه المرض، ويصوم أيضا في السفر ولو كان عليه مشقة وصعوبة، وقد « رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلا في السفر صائما، وقد سقط تحت ظل شجرة والناس حوله يرشونه، ويرشون الأرض حوله ويظللونه، فسأل فقالوا: صائم، فقال: عليكم برخصة الله التي رخص لكم-يعني افعلوا رخصه- وقال: إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته » فلا يجوز التشدد ولا يجوز التساهل؛ بل الأمر وسط بين ذلك. هذا معنى يسروا، يعني تيسيرا ليس فيه تفريط، ولا تعسروا أي لا تشددوا على الناس، وقد عاب الله -تعالى- الذين يتشددون في قوله تعالى: ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّـهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ﴾ [ سورة الحديد ، الآية : 27 ] وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : « لا تشددوا فيشدد عليكم؛ فإن قوما شددوا فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات، رهبانية ابتدعوها » ذلك لأن من تشدد النصارى ونحوهم انقطاعهم عن الدنيا، وانقطاعهم عن الكسب، وتفرغهم واعتكافهم في صوامع يتعبدون فيها، وفي ديارات وفي كنائس، وهذه الرهبنة لا يأتي بها الإسلام. يقول: يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا، التبشير يكون بالخير معنى ذلك أن عليكم أن تبشروا أهل الإيمان، وأن ترغبوهم في التوبة ونحو ذلك، فإذا رأيت –مثلا- بعض العصاة؛ فإياك أن تنفره عن التوبة، بل عليك أن ترغبه في التوبة، وتحببها إليه، وتقول له: ﴿ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [ سورة البقرة ، الآية : 222 ] وإن عليك أن تتوب إلى الله توبة صادقة. كذلك أيضا إذا رأيت من فعل معصية فلا تشدد عليه في الإنكار؛ فإن ذلك ينفره في قولك مثلا: أنت قد كفرت، وقد خرجت من الدين وقد خرجت على الإسلام، ولا خير فيك، ولا حاجة لله فيك، والله غني عنك، فبؤ بالخسار، فأنت من الخاسرين، وأنت من الضالين المضلين، وأنت فاجر وكافر، فإن هذا مما ينفره من قبول النصيحة، ويكون حاملا له على التمادي فيما هو فيه، ولا يقبل منك -بخلاف ما إذا نصحته ورغبته في الخير- ونحوه. ومن التنفير أيضا ما جاء في الحديث: « إن منكم منفرين » وفي حديث أن رجلا قال يا رسول الله إني لأتأخر عن الصلاة مع فلان أو عن الصلاة مما يطيل بنا فلان، فغضب النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: « أيها الناس إن منكم منفرين » يعني إذا كنتم تصلون بالناس فلا تنفروهم وتشددوا عليهم، وتطيلوا عليهم، وقال لمعاذ يا معاذ أتريد أن تكون منفرا؟! وذلك لأنه لما صلى بقومه صلاة العشاء، وكان جاءهم متأخرا -يعني بعدما مضى من الليل ثلاث ساعات أو أربع- وهم أهل عمل، وأهل حرب، فافتتح سورة البقرة؛ ليقرأ بها في الصلاة كلها، فتأخر رجل كان مرهقا وصلى وحده واشتكاه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال يا معاذ أتريد أن تكون منفرا؟! هلا قرأت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والسماء ذات البروج، والسماء والطارق، -يعني بوسط المفصل- في مثل حالتهم يرفق بهم، فهذا من التنفير، فالحاصل أن صور التنفير كثيرة، وصور التبشير ظاهرة. قالَ ـ رَحِمَهُ اللَّـهُ تَعَالَى ـ : بَاب مَنْ جَعَلَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَيَّامًا مَعْلُومَةً. حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ : كَانَ عَبْدُ اللَّـهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ .قَالَ : أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا. « الشَّـرْحُ » : هذا حديث ابن مسعود الذي تقدم ذكر أنه كان يذكرهم كل خميس، يعني كل أسبوع مرة، فعند ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- كان كذلك يذكرهم كل خميس أو كل أسبوع مرة، ذكر أنه كان يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا، يعني أنه يكره أن يسئمنا، السآمة يعني الضجر والملل، وقد ذكرنا أسباب ذلك. بَاب مَنْ يُرِدْ اللَّـهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ. قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ خَطِيبًا يَقُولُ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ : « مَنْ يُرِدْ اللَّـهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّـهُ يُعْطِي ، وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الْأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّـهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّـهِ ». « الشَّـرْحُ » : في هذا الحديث ثلاث جمل، الشاهد فيها الجملة الأولى قوله: « من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين » الفقه هو: الفهم أي: يرزقه فهما ويرزقه ذكاء ومعرفة؛ بحيث إنه يستنبط الأحكام من الأدلة، وبحيث إنه يكون معه قوة إدراك وقوة فهم واستنباط من الأدلة، وهذا ما وهبه الله -تعالى- لكثير من الصحابة ومن بعدهم، دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس بقوله: « اللهم فقهه في الدين » وفي رواية: « وعلمه التأويل » فكان كذلك، حتى ذكروا أنه فسر مرة سورة النور تفسيرا بليغا لو سمعه اليهود والنصارى والترك والروم لأسلموا، وهذا مما رزقه الله ومما فتح عليه. وكذلك كثير من الأئمة، تذكرون الحديث الذي فيه قوله -صلى الله عليه وسلم- : « مثل ما بعثتي الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكان منها طائفة قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء؛ فسقى الناس وزرعوا، وأصاب طائفة منها إنما هي قيعان لا تنبت كلأ ولا تمسك ماء؛ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثتي الله به من الهدى والعلم؛ فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ». فهذا الحديث يبين أن الناس ثلاثة أقسام: قسم رزقهم الله -تعالى- الحفظ والفقه، وقسم رزقهم الله الفقه والفهم، وقسم حرموا من ذلك كله، فمن أراد الله-تعالى - به خيرا فتح الله على قلبه وفقهه، وجعل في قلبه فهما للنصوص؛ بحيث إنه يستنبط من الآية عشرة أحكام أو أكثر، وكذا يستنبط من الأحاديث، وتجدون هذا في الشروح بحيث إن بعضهم إذا شرح الحديث استنبط منه عشرة أحكام، عشرين حكما قد تصل إلى مائة حكم وإلى مائة فائدة من فوائد الحديث، فهذا من الفهم ومن الفقه. أما الجملة الثانية قوله: وإنما أنا قاسم أقسم بينكم، كنيته -صلى الله عليه وسلم- أبو القاسم وكان في أول أمره ينهى أن يسمي أحد نفسه محمدا ويتكنى بأبي القاسم، يعني يجمع بين اسمه وكنيته ويقول: « إنما بعثت قاسما أقسم بينكم » كان إذا قسم بينهم شيئا يقسمه بالسوية، ويعدل بينهم، فهكذا جاء بعد موته، استباحوا ذلك فكثير منهم يسمي أحدهم القاسم، ويكنى بأبي القاسم ورأوا أن ذلك إنما خاص بحياته. أما الجملة الثالثة ففيها إخباره -صلى الله عليه وسلم- بأنه لا يزال من أمته طائفة منصورة، عاملة بالسنة، عاملة بالحق يظهرهم الله -تعالى- على غيرهم، ويمكنهم من إظهار الدين، ومن العمل به ومن الدعوة إليه، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تعالى، وهم الطائفة المنصورة والفرقة الناجية التي أخبر بها النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يلزم أن يكونوا في طائفة محددة، ولا أن يكونوا في مكان معين، بل قد يكونون متفرقين في شرق وغرب ونحو ذلك؛ فمتى كانوا عاملين بالسنة متمسكين بها، مظهرين لها ولو كادهم من كادهم ولو لقبوا بألقاب شنيعة؛ فإنهم والحال هذه يكونون هم أهل السنة ويكونون هم الفرقة الناجية. بَاب الْفَهْمِ فِي الْعِلْمِ. حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّـهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ : قَالَ لِي ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَلَمْ أَسْمَعْهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّـهِ ﷺ إِلَّا حَدِيثًا وَاحِدًا ، قَالَ : كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ فَأُتِيَ بِجُمَّارٍ ، فَقَالَ : « إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً مَثَلُهَا كَمَثَلِ الْمُسْلِمِ »، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِيَ النَّخْلَةُ ، فَإِذَا أَنَا أَصْغَرُ الْقَوْمِ فَسَكَتُّ . قَالَ النَّبِيُّ ﷺ : « هِيَ النَّخْلَةُ ». « الشَّـرْحُ » : سبق هذا الحديث، أورده هاهنا للدلالة على تورع الصحابة عن كثرة الحديث؛ مخافة أن يقعوا في خطأ، وذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حذر من الكذب عليه في أحاديث كثيرة ذكرها أو بعضها البخاري في هذا الكتاب؛ فلذلك كان كثيرون يتورعون من كثرة الأحاديث؛ مخافة أن يخطئ في كلمة أو يزيد أو ينقص أو ما أشبه ذلك، وهذا من الورع وإلا فإنهم قد يحدثون بأحاديث يذكرونها بالمعنى، لا باللفظ يعني: يحفظون المعنى الذي سمعوه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيؤدونه بقريب من اللفظ لا باللفظ وحده؛ لئلا يكتموا العلم ولينفعوا الأمة، ومع ذلك لا يكونون كاذبين؛ لأنهم حدثوا بما أو بقريب مما سمعوه. ففي هذا أن ابن عمر -رضي الله عنه- في هذا السفر الطويل من المدينة إلى مكة ما حدث بحديث مرفوع، كان حديثه مواعظ وتعليم وإرشادات، وما أشبه ذلك غير هذا الحديث في قصة النخلة وكونها مثلها كمثل المؤمن كما سبق. بَاب الِاغْتِبَاطِ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ. وَقَالَ عُمَرُ : تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّـهِ : وَبَعْدَ أَنْ تُسَوَّدُوا ، وَقَدْ تَعَلَّمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ فِي كِبَرِ سِنِّهِمْ. حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَلَى غَيْرِ مَا حَدَّثَنَاهُ الزُّهْرِيُّ قَالَ سَمِعْتُ قَيْسَ بْنَ أَبِي حَازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّـهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ ﷺ : « لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّـهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّـهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا ». « الشَّـرْحُ » : التفقه هو: تعلم العلم وتفهم معناه فيقول عمر -رضي الله- عنه: تفقهوا قبل أن تسودوا أي: قبل أن تكونوا –مثلا- سادة في مناصب رفيعة؛ فتحتشموا وتستحيوا أن تتعلموا؛ فإن هناك كثيرا فرطوا في التعلم وهم صغار؛ فلما صاروا أمراء، ووزراء وموظفين في وظائف رفيعة؛ احتقروا أن يتعلموا وقالوا: كيف نجلس نتعلم مع هؤلاء الشباب ومع هؤلاء العامة، ونحن قد ارتفعت رتبتنا، وقد كبرت أسناننا؛ فبقوا على الجهل، بقوا على جهلهم. فيقول لهم عمر -رضي الله عنه- تفقهوا قبل أن تسودوا -يعني قبل أن تكونوا سادة- مع أن هذا أيضا لا يجوز أن يمنعكم من التفقه -يعني كبر السن وارتداء الرتبة- ونحو ذلك، لا ينبغي أن يمنعكم من التعلم، بل عليهم أن يتعلموا ولو كانوا كبارا، ويأخذوا العلم ولو عن الأصاغر يتعلم أحدهم من ولده، ومن ابن أخيه ومن الصغار والكبار ونحوهم فإن العلم شرف لأهله، والجهل عيب وذل وصغار على الجاهلين، فما يجوز لأحد أن يبقى على الجهل وهو يجد من يعلمه ولو أصغر منه فلا يبلغ درجة العلم حتى يأخذه من الصغير ومن المتوسط ومن الكبير. ويقول بعض الصحابة: لا ينال العلم مستح ولا متكبر المستحيي الذي يقول: أستحي أن أسأل عن هذه المسألة وأنا في رتبة رفيعة، أستحي أن يقول الناس: هذا جاهل مع أنه رفيع المكانة مع أنه من الأثرياء، ومن أشراف الناس، أستحي أن أسأل، لا تستحيي اسأل. وقيل لابن عباس بم بلغت هذه الرتبة؟ يعني هذا العلم فقال: بلسان سئول، وقلب عقول. ذكر بعد ذلك أن الصحابة -رضي الله عنهم- تعلموا وهم كبار، ولم يمنعهم كبر السن من أن يتعلموا، أسلم بعضهم وهم في سبعين من العمر، وفي أقل أو أكثر، ومع ذلك تفقهوا، قالوا يا رسول الله: علمنا مما علمك الله، والذين أسلموا في آخر حياته تعلموا أيضا من غيرهم، لما فتحت مكة احتاجوا إلى من يعلمهم فجعل عندهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عتاب بن عسيل -مع كونه صغيرا- وأخذ يعلمهم ولو كانوا كبار الأسنان، يعلمه مما علمه الله لو كان صغيرا، وكذلك كان يبعث شبابا إلى البلاد البعيدة ويعلمونهم؛ بعث معاذا وهو لا يزال شابا، صار يعلم أهل اليمن بعثه داعيا ومعلما وقاضيا وجابيا للصدقات ونحوها، فهذا دليل على أن الإنسان لا يمنعه كبر السن عن التفقه في الدين فيبقى على جهله. كذلك في هذا الحديث ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- هاتين الخصلتين وسمى ذلك حسدا؛ ولكنه ليس بالحسد المذموم، بل هو حسد ممدوح ويسمى حسد غبطة أي: أن الإنسان الذي هذه حالته يغبطه الآخرون. في بعض الأحاديث أنه-صلى الله عليه وسلم- قسم الناس إلى أربعة أقسام: « رجل آتاه الله مالا وعلما، ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا، ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما، ورجل لم يؤته الله مالا ولا علما » ، ولكن في هذا الحديث اقتصر على العلم والمال، العلم هو: القرآن والسنة، فإذا آتاك الله -تعالى- علما بكتاب الله وبسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- فوفقك الله للتعليم وللتعلم وللعمل الصالح، وللقيام بأداء وبتعليم مما علمك الله؛ فإن هذه رتبة رفيعة شريفة يغبط عليها صاحبها، فإذا رآه من ليسوا كذلك غبطوه وتمنوا أن يكونوا مثله، فهذا يسمى حسد غبطة. آتاه الله -تعالى -علما فهو يعمل به ويعلمه يعلمه ليلا ونهارا، ويبذله لمن يحتاج إليه فيغبطه الآخرون ويتمنوا أن يكونوا مثله، ولا يحسدونه على منصبه حسد حرمان على ما آتاه الله، وذلك لأنه إنما آتاه الله تعالى هذا العلم لشرفه فهو يعلمه لميزته. الحسد المحرم: صفته أن يسعوا في إضراره وأن ينموا فيه ويتكلموا فيه بسوء، يقولون: هذا متقول، وهذا متكبر، وهذا متغطرس، ومتعجرف، ويكون بغير علم، وهذا جاهل ومتجاهل، وما أشبه ذلك، حتى يسعى فيه بالحرمان، ويمنع من التعليم ونحو ذلك. يقع هذا في كثير من أمثاله، حتى قال بعض العلماء: إن الحسد أكثر ما يكون في العلماء؛ بمعنى أن العالم إذا ارتفعت رتبته، وآتاه الله -تعالى- منزلة رفيعة ، فإن الآخرين قد يحسدونه إذا رأوا إقبال الناس وإكبابهم عليه ويسعون في الوشاية به ويقولون إنه يفعل كذا، وإنه وإنه، يريدون بذلك أن يمنع وأن يحال بينه وبين نشر العلم، فهذا هو الحسد المذموم. فنقول لهؤلاء: لا تمنعوه إذا كان ينشر ما أعطاه الله -تعالى- من العلم ويبينه للناس، عليكم أن تفعلوا كما فعل-إذا كنتم مثله- فعليكم أن تعلموا كما كان يعلم، ولكن إذا رأيتم الناس لا يتقبلون منكم ولا يقبلون كلماتكم ونصائحكم وحلقاتكم ومجالسكم؛ فإن ذلك ليس لنقص ولكن لأمر قدره الله-تعالى- روي أن مالك بن أنس -رحمه الله-آتاه الله -تعالى- رتبة ورفعة؛ فأقبل الناس عليه، فكان يقف في المنبر ويحدث وكان يقول: حدثني ربيعة بن أبي عبد الرحمن وربيعة موجود في المسجد، جاءه إنسان. فقال: -رحمك الله- هذا مالك يحدث عنك وأنت موجود، فقال يا بني: مثقال من دولة خير من حِمل علم يعني أن مالكا أعطاه الله دولة، يعني حظا وشهرة وسمعة ومكانة في الناس، وشعبية في الأمة فأحبوا مجلسه؛ مع أنه يروي عني مع أني شيخه الذي علمته كثيرا ولا يأتون إلي، وذلك لما له من هذه الدولة وهذه المكانة. فنقول: لا تحسدوا هذا الذي أعطاه الله-تعالى- هذه الشهرة فيما بين الناس وتقولون، لم لا يأتينا الناس مثل ما يأتون؟! نحن نقيم حلقات ولا يأتون إلينا بكثرة كما يأتون إلى هذا؛ فتسعون في حسده وتسعون في حرمانه، وتصغرون شأنه وأمره، الحسد موجود بكثرة بين العلماء؛ ومع ذلك فإنه لا يسقط من قدر بعضهم إذا تكلم في بعض. وجد ذلك في عهد مالك -رحمه الله- كان في زمانه محمد بن إسحاق -صاحب السيرة-وكان بينه وبين مالك بعض المناقشات، كل يدعي أنه أرفع رتبة وأنه أكثر علما، وأنه وأنه، فلما كان كذلك ؛صار بينهم شيء من المنافسة، فروي أن ابن إسحاق قال: ائتوني بكتب مالك أبيطرها-يعني أنقحها وأعالجها- يعني أنكم ترون أحاديثه ليست محققة وأنا البيطار، وأنا الطبيب، فسمع بذلك مالك فمقته وقال: هذا كذاب؛ فلا تأخذوا عنه فوقعت بينهما وحشة، وصار كل منهما يتكلم في الآخر، ولكن هل أسقطنا حديث مالك لما تكلم فيه ابن إسحاق ؟ هل أسقطنا كتب ابن إسحاق -ككتاب السيرة- لما تكلم فيه مالك؟ نقول: هذه من المنافسات؛ فلا ينبغي أن يقدح أحدهما في الآخر، كذلك وقعت منافسة بين البخاري وبين محمد بن يحيى الذهلي بحيث إنه كل منهما أخذ يتكلم في الآخر، ومع ذلك ما أسقطنا أحاديث البخاري ولا أسقطنا أحاديث الذهلي . كان مسلم -رحمه الله- قد روى أحاديث كثيرة عن الذهلي فلما تكلم في البخاري أسقطها، وجاء بها إليه وقال: خذ أحاديثك لا حاجة لي فيها، وأما البخاري فإنه روى عن الذهلي وإن كان لا يصرح باسمه . كذلك، المنافسات كثيرة، فمثلا بين شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وبين ابن الزملكاني في زمانه منافسات كثيرة، وكذلك بينه وبين السبكي منافسات، ومع ذلك كل منهما له رتبته، وهكذا أيضا وقعت منافسات بين ابن حجر وبين العيني -وكلاهما شرح البخاري- ومع ذلك ما أسقطنا شرح هذا ولا شرح هذا، وكل منهما يتكلم في الآخر، وكذلك بين السيوطي وبين السخاوي منافسات أيضا، وكل منهما تكلم في الآخر ومع ذلك ما أسقطت علوم هذا ولا علوم هذا. فنقول: لا ينبغي أن نسمع كلام هذا في هذا؛ إذا كان ذلك من باب المنافسة، فكذلك ما وقع في زماننا-قبله-من الحسد لبعض العلماء الذين لهم مكانة ولهم شهرة، حسدهم بعض أهل زمانهم أو أهل بلادهم فوصموهم بأنهم وأنهم، فأما الحسد الذي في الحديث فإنه ليس بمذموم، وذلك لأنه يتمنى مثله، يقول: فلان أعطاه الله هذا العلم، وأعطاه هذا الفقه، فليت لنا مثله فيحسدونه بمعنى: أنهم يتمنون مثل ما أعطاه الله. وأما الثاني: وهو حسد المال فصفته أو صورته أن يكون الله-تعالى-مَنَّ على إنسان وفتح عليه الدنيا، وأعطاه مالا؛ فسلطه على هلكته في الحق، فكان يتصدق، ويبني مساجد، ويصلح قناطر، ويبني مدارس، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويعين على نوائب الحق، ويقري الضيف، ويكرم جاره، ويعطي هذا وهذا؛ فيراه آخرون ليس لهم من المال مثل ما له ؛ فيغبطونه ويقولون: ليت لنا مثل ما أوتي. الحديث الذي ذكرناه أولا، ذكر فيه أنه يثاب على ما أعطاه، الله يقول في الحديث: إنما الدنيا لأربعة: رجل آتاه الله مالا وعلما فهو يعمل في ماله بعلمه ؛ فيصل منه الرحم، ويعطي منه المحروم، ويتصدق منه، ويعطي ابن السبيل، فهذا بأفضل المنازل. - الثاني: رجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا؛ فهو يقول: لو كان لي من المال مثل فلان لعملت مثل عمله -يعني تصدقت وبررت وأعطيت في وجوه الخير- يقول: فهو بنيته وقصده وهما في الأجر سواء، يعني أنه لما أن الله -تعالى- لم يعطه مالا أعطاه على نيته ؛لأنه يقول: لو كان لي مال لعملت مثل ما.... - الثالث آتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو ينفقه في.... قَالَ البُخَارِيُّ ـ رَحِمَهُ اللَّـهُ تَعَالَى ـ : بَاب مَا ذُكِرَ فِي ذَهَابِ مُوسَى ﷺ فِي الْبَحْرِ إِلَى الْخَضِرِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى : ﴿ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ﴾[ سورة الكهف ، الآية : 66 ]. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّـهِ : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ غُرَيْرٍ الزُّهْرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَهُ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّـهِ بْنَ عَبْدِ اللَّـهِ أَخْبَرَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللَّـهُ تَعَالَى عَنْهُ ـ : أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ خَضِرٌ .فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ، فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، فَقَالَ : إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ ، هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ ﷺ يَذْكُرُ شَأْنَهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّـهِ ﷺ يَقُولُ : بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلَإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ : هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ ، قَالَ مُوسَى : لَا ، فَأَوْحَى اللَّـهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى : بَلَى ، عَبْدُنَا خَضِرٌ .فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَيْهِ ، فَجَعَلَ اللَّـهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً ، وَقِيلَ لَهُ إِذَا فَقَدْتَ الْحُوتَ ، فَارْجِعْ فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ وَكَانَ يَتَّبِعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ فَقَالَ لِمُوسَى فَتَاهُ : ﴿ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ﴾ [ سورة الكهف ، الآية : 63 ]، ﴿ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا﴾ [ سورة الكهف ، الآية : 64 ]. فَوَجَدَا خَضِرًا فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا الَّذِي قَصَّ اللَّـهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ. « الشَّـرْحُ » : هذا دليل على الرحلة في طلب العلم، هذا موسى كليم الله، كلمه الله تكليما، ومع ذلك لما سأله رجل، هل تعلم أحدا أعلم منك؟ فقال: لا، عتب الله عليه؛ وذلك لأنه لم يقل: الله أعلم، فلما لم يقل ذلك قال الله: بلى، إن عبدا من عبيدي بمجمع البحرين ؛ هو أعلم منك فسأل موسى وقال: ربي كيف ألقاه وكيف أصل إليه فقيل له: احمل معك حوتا- هو السمك- فحمل معه حوتا في زنبيل، وقيل له: إذا فقدت هذا الحوت فإنك تجده، فقال لفتاه: لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا- يعني زمنا طويلا-. لما أنه تمارى ابن عباس والحر بن قيس في صاحب موسى من هو؟ ابن عباس جزم بأنه الخضر والحر لم يذكر ما قاله فمر بهما أبي بن كعب فسأله ابن عباس هل سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يذكر خبر صاحب موسى فقال: نعم وأخبره بهذا الحديث، وأن موسى لما سأل أن يلقى ذلك العالم؛ جُعل له الحوت علامة؛ فحمل الحوت وسار، ولما قرب من مجمع البحرين فقد الحوت، أحيا الله ذلك الحوت، ولما عاش الحوت دخل البحر؛ ولما دخل البحر كان مسيره يبسا، اتخذ سبيله في البحر يبسا، وكان لموسى ولصاحبه عجبا فصارا يتبعان أثر الحوت إلى أن وجدا الخضر ؛ فكان من شأنهما ما قص الله -تعالى- في كتابه . بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه وعلى آله وصحبه أجمعين. قَالَ المصنفُ ـ رَحِمَهُ اللَّـهُ تَعَالَى ـ : بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ. قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّـهِ ﷺ وَقَالَ : « اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ ». « الشَّـرْحُ » : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. هذه ميزة وفضيلة لابن عباس -رضي الله عنهما- ظهر أثرها واستجاب الله -تعالى- دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- له، وفيه أنه ضمه إليه، وقال: « اللهم علمه الكتاب » وفي حديث آخر: « اللهم فقهه في الدين » وفي رواية : « وعلمه التأويل ». الكتاب قد يراد به القرآن، وقد يراد به الشرع الكتاب والسنة، وفقهه في الدين يعني: ارزقه فهما في دين الله -تعالى- في آيات الله وفي أحكامه دليل على أن من الفضل العلم بالأحكام والعلم بالكتاب والعلم بالسنة، والعلم بالفقه في دين الله -تعالى- والفهم في ذلك أنه من أفضل الأعمال، وأنه مما يحصل به شرف وميزة وفضل لمن حصل له ذلك، ومنهم ابن عباس فإن الله -تعالى- وفقه ورزقه الفهم في الدين والحفظ، ذكر أنه لما توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: قلت لشاب من الأنصار هلم فلنتعلم ما دام صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- متوافرين نأخذ منهم، فيقول ذلك: قال ذلك الشاب عجبا لك يا ابن عباس أترى الناس يحتاجون إلى علمك وفيهم صحابة النبي، صلى الله عليه وسلم؟ يقول: فتركت قوله وأقبلت على التعلم، وكلما ذكر لي حديث عند أحد الصحابة طرقت بابه حتى أني آتي إليه وهو نائم وقت القيلولة، فيقال: إنه نائم فأجلس بالباب تسفي الريح في وجهي فإذا استيقظ وخرج ورآني قال: ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هلا أرسلت إلي فآتيك فأقول: لا، العلم أولى أن يؤتى له، فبعد سنوات وبعدما حفظ ما حفظه وفهم من القرآن ما فهمه، وإذا الناس يتوافدون إليه يسألونه ويستفتون منه ويتعلمون منه، فقال ذلك الشاب من الأنصار: أنت أفقه مني يعني أنه اعترف له بالفضل؛ حيث وفقه الله -تعالى- وحفظ العلم. ذكر ابن القيم وغيره أن الأحاديث التي سمعها وحفظها من النبي -صلى الله عليه وسلم- يمكن ألا تزيد على عشرين حديثا، بقية هذه الأحاديث أخذها من الصحابة؛ ولذلك لا يقول: سمعت إنما يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذلك بعد تأكده من صحة ذلك الحديث؛ لأنه أخذه من مصدره، وكان الصحابة يحفظون من النبي -صلى الله عليه وسلم- ما حضروه فيه، ولكن لا يكون هناك مناسبة؛ لأن ينتصبوا ويحدث كل واحد منهم وهو لا يحفظ إلا عشرة أحاديث أو ثلاثين حديثا أو نحو ذلك، ولكن جمعها فأخذ من هذا عشرة، وأخذ من هذا عشرة ومن هذا عشرين ومن هذا مائة ومن هذا.. إلى أن اجتمع عنده هذا الجم الكثير. فتجدون أحاديثه في مسند الإمام أحمد تزيد على الألف، وكذلك في غيره من الكتب، كلها استفادها بحرصه وبأخذه عن الصحابة -رضي الله عنهم- زيادة على ما فتح الله -تعالى- عليه من الفهم في القرآن فإنه كان يفسر القرآن بما فتح الله عليه؛ ولذلك يعتمد تفسيره. وممن اشتغل عليه مجاهد أحد تلاميذه، مجاهد بن جبر هذا مولى، ولكن رزقه الله العلم فهو يقول: عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته ثلاث عرضات أقفه عند كل آية وأسأله متى أنزلت؟ وفيم أنزلت؟ فيجيبه مما يدل على أنه قد فسر القرآن فسره كله التفسير الذي يناسبه، هاهنا تفسير مطبوع يسمى تفسير ابن عباس . جمعه بعض المتأخرين وهو الفيروزآبادي صاحب القاموس، ورواه بإسناده أو بأسانيده، ولكن ذكروا أن أسانيده فيها رجال ضعفاء فلا يعتمد كل ما جاء فيه، ولكن يرجع في تفسير ابن عباس إلى كتب المتقدمين الذين ينقلونها بأسانيدهم كثير منهم موجود، موجود تفسير ابن جرير وهو أوسع تفاسير المتقدمين، فإنه يتعرض للأقوال وترجيح بعضها على بعض والإعراب والاستنباط فهو بذلك فائق على تفاسير المتقدمين، ويوجد أكثر، تفسير ابن أبي حاتم الذي ينقل عنه ابن كثير بإسناده بقوله: قال ابن أبي حاتم حدثنا، وفقد بعضه والذين طبعوه كملوه بما وجدوه من النقول عنه، ويوجد تفسير عبد الرزاق شيخ الإمام أحمد ولكنه مختصر. وفي هذه التفاسير نقول كثيرة عن ابن عباس مما يدل على أن الله -تعالى- علمه الكتاب كما دعا له النبي -صلى الله عليه وسلم-. بَاب مَتَى يَصِحُّ سَمَاعُ الصَّغِيرِ؟. قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّـهِ بْنِ عَبْدِ اللَّـهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّـهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الِاحْتِلَامَ ، وَرَسُولُ اللَّـهِ ﷺ يُصَلِّي بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ ، وَأَرْسَلْتُ الْأَتَانَ تَرْتَعُ ، فَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ عَلَيَّ. « الشَّـرْحُ » : هذه قصة تتعلق بسترة المصلي أو المرور بين يدي المصلي، ابن عباس استدل بها على إقرار الصحابة له، إقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- له، ومحلها في كتاب الصلاة، وفي سترة المصلي، وفيما يقطع الصلاة، حيث ذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في منى وكان يصلي بأصحابه إحدى الصلوات الخمس، ولم يكن أمامه جدار لكنه عادة كان يأخذ أمامه حربة تسمى العنزة يجعلها سترة له ويكتفي بها. يصلي إلى جدار فلم يكن يصلي إلى جدار يستره، يقول ابن عباس إنه مر وكان راكبا على حمار أتان -يعني أنثى- ولما مر بين يدي الصف نزل ودخل في الصف وأرسل الأتان ترتع، ولم ينكر ذلك عليه أحد من المصلين؛ استدل به على أن مرور الحمار لا يقطع الصلاة، ولكن يظهر أنه كان بعيدا أعني: بينه وبين الصف نحو ثلاثة أمتار، أو أربعة وأطلق أنه مر بين يديهم، فهذا هو الأقرب. وأيضا بوب عليه البخاري في موضع آخر بقوله: باب سترة الإمام سترة لمن خلفه؛ يعني: كأن الإمام لما كان يصلي إلى سترة وإن لم تكن جدارا لكنه حجر أو عنزة أو نحو ذلك صار ذلك سترة لمن خلفه، والكلام على هذا محله كتاب الصلاة. قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنِي الزُّبَيْدِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ قَالَ : عَقَلْتُ مِنْ النَّبِيِّ ﷺ مَجَّةً مَجَّهَا فِي وَجْهِي وَأَنَا ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ مِنْ دَلْوٍ. « الشَّـرْحُ » : كأنه أراد بإيراد هذا الحديث تحديد سن التحمل فابن عباس يقول في حديثه: أنه قد ناهز الاحتلام، كان ابن عباس عندما مات النبي -صلى الله عليه وسلم- عمره ثلاث عشرة سنة؛ لأنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين فيكون ثلاث سنين قبل الهجرة وعشر سنين بعد الهجرة فيكون عمره عند موت النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاث عشرة سنة، ومع ذلك فإنه حفظ عنه وروى عنه أحاديث مباشرة يعني نقلها عنه. ومن ذلك هذه القصة قصة أنه مر بين يدي المصلي على تلك الأتان، ومثله هذا الحديث عن محمود بن الربيع أحد أولاد الصحابة، ما يعدونه من الصحابة يعني الذين حملوا الأحاديث، ولكن ذكر أنه عقل النبي -صلى الله عليه وسلم- يذكر أنه عقل من النبي -صلى الله عليه وسلم- مجة مجها في وجهه من دلو كان أو من بئر كانت لهم؛ فمعناه أنه يعد صحابيا لأنه عقل ذلك مات النبي -صلى الله عليه وسلم- وعمره خمس سنين، فدل ذلك على أن من حفظ شيئا ولو كان عمره صغيرا أنه تقبل روايته، وأنه يصح تحمله. وكذلك أيضا الحسن بن علي -رضي الله عنه- روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مات النبي -صلى الله عله سلم- وعمره سبع سنين ومع ذلك قد حفظ مثل حديث: « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » وحديث القنوت: « اللهم اهدني فيمن هديت».ومع ذلك قبلت روايته؛ لأنه حدث بذلك بعدما عقل وبعدما أدرك وبلغ وكلف فقبلت روايته، فما تحمله الصغير وأداه وهو صغير قبل سن التكليف لا يوثق به، ولكن إذا حمله وهو صغير وأداه بعدما عقل وبلغ وكلف قبل منه، ومثله الشهادة إذا أدرك شيئا وهو صغير قبل التكليف ثم أدى الشهادة بعدما كلف قبلت شهادته وبطريق الأولى أن تقبل روايته. كان كثير من العلماء إذا بلغ الطفل عندهم خمس سنين أحضروه مجالس العلماء، وأمروه بأن يكتب لهم سماعا أن يكتبوا له أنه حضر معهم وسمع فيقرءون مثلا في المجلس صحيح البخاري كله ثم يكتبون الذين سمعوه من أوله إلى آخره، قد يكون بعضهم ابن خمس سنين أو ست سنين يقولون: سمعه فلان وفلان وفلان حتى يعدوا الأطفال؛ لأنهم سوف يروونه بذلك الإسناد فيكتبون سماع الصغير إذا كان يعقل، أما إذا كان لا يعقل فإنهم لا يكتبونه كونه يعقل إذا كان يحفظ فهذا محمود بن الربيع حفظ وعمره خمس سنين. بَاب الْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ . وَرَحَلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّـهِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ إِلَى عَبْدِ اللَّـهِ بْنِ أُنَيْسٍ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ. قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ خَالِدُ بْنُ خَلِيٍّ قَاضِي حِمْصَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّـهِ بْنِ عَبْدِ اللَّـهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى، فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ، فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ : إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ ، هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّـهِ ﷺ يَذْكُرُ شَأْنَهُ ؟ فَقَالَ أُبَيٌّ : نَعَمْ ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَذْكُرُ شَأْنَهُ يَقُولُ : بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلَإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ : أَتَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ ؟ قَالَ مُوسَى : لَا ، فَأَوْحَى اللَّـهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى : بَلَى ، عَبْدُنَا خَضِرٌ ، فَسَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ ، فَجَعَلَ اللَّـهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً ، وَقِيلَ لَهُ إِذَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَارْجِعْ فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ ، فَكَانَ مُوسَى ﷺ يَتَّبِعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ. فَقَالَ فَتَى مُوسَى لِمُوسَى : ﴿ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ﴾[ سورة الكهف ، الآية : 63 ]. قَالَ مُوسَى : ﴿ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ﴾[ سورة الكهف ، الآية : 64 ]. فَوَجَدَا خَضِرًا فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا مَا قَصَّ اللَّـهُ فِي كِتَابِهِ. « الشَّـرْحُ » : هذه القصة ذكرها مختصرة، وفي هذا دليل على الرحلة في طلب العلم، فهذا نبي الله موسى أوحى الله إليه وأنزل عليه التوراة فيها هدى ونور، وكذلك علمه وكلمه، ومع ذلك أحب التزود لما ذكر الله له أن خضرا الذي هو عبد من عباد الله أعلم منه سأل السبيل إليه وقال: ربي أريد أن ألقاه، فجعل الله تعالى له هذا الحوت وقال: إذا فقدت الحوت فإنك تجده، وهو في مجمع البحرين ؛ فكان يمشي والحوت معه في مكتل -أي في زنبيل-. ولما بلغ مجمع البحرين انتفض الحوت وتحرك ودخل في البحر، وخرق البحر وصار طريقه يبسا، فاتخذ سبيله في البحر يبسا وكان لموسى وفتاه عجبا، يعني كيف أن هذا الحوت لما دخل في البحر صار الطريق الذي يمر عليه يابسا؛ بحيث إنه إذا تبعه وصل إلى مقصده؟! وهذه معجزة أيضا، كيف مضى في البحر حتى صار طريقه يبسا -طريق ذلك الحوت- ولما فقدا الحوت قال فتاه: ﴿ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ ﴾[ سورة الكهف ، الآية : 63 ] نسيه في ذلك المكان فقال موسى : ﴿ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ﴾[ سورة الكهف ، الآية : 64 ] هذا هو قصدنا ﴿ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ﴾[ سورة الكهف ، الآية : 64 ] فعند ذلك وجد الخضر وجد الخضر وفي القصة كلام طويل ذكره البخاري وغيره. بَاب فَضْلِ مَنْ عَلِمَ وَعَلَّمَ. قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّـهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ : « مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّـهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا ، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ ، فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ ، فَنَفَعَ اللَّـهُ بِهَا النَّاسَ ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا ، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً. فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّـهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّـهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا ، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّـهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ ». قَالَ أَبُو عَبْد اللَّـهِ : قَالَ إِسْحَاقُ : وَكَانَ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَيَّلَتْ الْمَاءَ قَاعٌ يَعْلُوهُ الْمَاءُ وَالصَّفْصَفُ الْمُسْتَوِي مِنْ الْأَرْضِ. « الشَّـرْحُ » : مثل ضربه النبي -صلى الله عليه وسلم- في الفقه والفهم وغيرهم، ذكر العلماء أن الأرض إذا نزل عليها المطر تنقسم إلى أربعة أقسام:- قسم: يكون فيها الماء والمستنقعات وتحفظ الماء وتنبت الأعشاب، فالناس يأتون فيها فيجدون الأعشاب، ويرعون ويحْتشُّون، ويجدون الماء على ظاهرها فيرتوون ويزرعون ويشربون، والماء أيضا في جوفها فيرتوون؛ فهذه أفضل البقاع. وقسم ثان: تنبت الكلأ والأعشاب، ولكن لا تمسك الماء يزل عنها الماء إلى غيرها يردها الناس يأتون فيجدون فيها النباتات والأعشاب فيرعون أغنامهم ويحتشون منها ففيها منفعة. وقسم ثالث: تمسك الماء على ظاهرها أو في جوفها يردها الناس ويرتوون ولكنها لا تنبت إما أنها حجرية صخرية غير قابلة للإنبات أو نحو ذلك ولكن تمسك الماء فينتفعون بالماء يرتوون ويسقون دوابهم ويشربون ففيها أيضا منفعة. القسم الرابع: الأرض السبخة تمتص الماء في ظاهرها، ولا تنبت نباتا ولا تمسكه في ظاهرها ولا في جوفها أرض قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. أربعة أقسام فالنبي -صلى الله عليه وسلم- ضرب المثل للناس بالنسبة إلى أخذ الكتاب والسنة، فهم أربعة أقسام أفضل الأقسام الذين يحفظون النصوص ويستنبطون منها الأحكام جمعوا بين الحفظ والفهم فهم أذكياء بحيث إن كل ما سمعوه فإنهم يحفظونه، وإذا حفظوه استفادوا منه، ومع ذلك يستنبطون منه كثيرا من الأحكام، قد يستنبطون من الآية عشر فوائد أو غيرها وكذا من الحديث يستنبطون منه مائة فائدة أو نحوها فيجمعون بين الحفظ للنصوص وبين الفهم وبين الاستدلال بها، يستدلون بها بهذه النصوص فيقولون في هذا الحديث دلالة على كذا وعلى كذا وعلى كذا فهؤلاء بمنزلة الأرض التي تنبت الكلأ وتمسك الماء، ففيها نفع مرتين فيهم نفع يحفظون للناس النصوص بما رزقهم الله، وفيهم نفع بالقدرة على الاستنباط وعلى الفهم ونحو ذلك هؤلاء خير الأقسام. القسم الثاني: الذين رزقهم الله ذكاء وقوة إدراك وقدرة استنباط وحسن تعليل ولكن ليس لهم حظ من حفظ النصوص إلا القليل -أعني الحفظ عندهم قليل- ولكن رزقهم الله -تعالى- فهما وذكاء في إدراك المعاني، وفي استنباط الأحكام وفي ذكر التعاليل وما أشبهها، فهؤلاء نفع الله -تعالى- بهم. والقسم الثالث: يحفظون أوعية للحفظ أعطاهم الله -تعالى- قوة الذاكرة فهم حفاظ، ولكن لم يشتغلوا بالاستنباط، وإنما يشتغلون بالحفظ يحفظون الأحاديث الكثيرة، وإذا سئلوا عن مسألة فقد لا يذكرون دليلا وقد لا يستنبطون من هذه الأدلة حكما، ولكن سخرهم الله -تعالى- لحفظ النصوص. والقسم الرابع: الذين حرموا هذا وهذا لا حفظ ولا فهم فنقول -مثلا- الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- والإمام مالك ممن رزقهم الله الحفظ والفهم بحيث إن أحدهم يحفظ ما سمعه ومع ذلك يستنبط منه الأحكام ويستنبط منه الفوائد، فهم ممن جمع الله له بين الأمرين، الإمام أحمد أحفظ؛ لأنه ذكر أنه كان يحفظ ويفتي يقول فيه الصرصري حوى ألف ألف من أحاديث أسندت * * * وأثبتها حفظا بقلب محصـل هذا في الحفظ ألف ألف مليون حديث مسندة وأثبتها حفظا بقلب محصل، ثم يقول في الاستنباط: أجــاب على ستين ألف قضية * * * بـأخبرنا لا عن صحائف نقل يعني سئل ستين ألف مسألة، ماذا يكون قدرها؟ إذا سئل بعض المتأخرين عن ألف مسألة وأجاب عنها استكثرها، فكيف بستين ألف قضية أجاب عنها بأخبرنا، لم يرجع إلى الصحف، ولم يرجع إلى كتاب، بل عندما يسأل يقول: الجواب ما حدثناه فلان عن فلان سواء كان حديثا مرفوعا أو حديثا موقوفا أو أثرا من الآثار، فيجيب على هذا كله. فهذا دليل على أن الله -تعالى- جمع له بين الحفظ والفهم. الإمام مالك -رحمه الله- إذا قرأت كتابه الذي هو الموطأ تستدل به على كثرة استنباطه كيف أنه أجاب على تلك المسائل الكثيرة التي في موطئه، وكذلك أيضا إذا قرأت كتاب المدونة خمسة أجزاء كبار تجد أن هذه كلها مسائل سئل عنها أغلبها إن كان بعضها من تلاميذه مما يدل على أن الله -تعالى- وهبه حفظا ووهبه فهما. الإمام الشافعي -رحمه الله- والإمام أبو حنيفة ممن رزقهم الله الفهم، أما الأحاديث فإنها قليلة للإمام أبي حنيفة يوجد له مسند يقولون: إنه مسند أبي حنيفة ولكن أكثره من الرواة عنه، ولكن رزقه الله الفهم بحيث إنه يجيب على المسألة فورا، ويذكر فيها الأدلة التي يستحضرها يعني الاستنباطات والتعليلات وما أشبه ذلك ولا يتلعثم في الجواب. ذكر مرة لهم حكم مسألة هل هي نفي أو إثبات؟ فقال: يمكن أن نثبتها ويستدل على إثباتها بكذا وكذا وكذا من التعليلات، حتى قال السامعون: هذا هو القول الصحيح. ثم قال: وإذا قلنا بالنفي فإننا نعلل بكذا وكذا وكذا حتى قالوا: هذا هو القول الصحيح، ثم قال: ويمكن أن يقال فيها قول ثالث وهو كذا وكذا وعلله حتى قالوا: يمكن أن هذا هو القول الصحيح! مما يدل على أنه قد أعطي قوة في الإدراك والفهم. الشافعي -رحمه الله- روى موطأ الإمام مالك وروى أحاديث غيره ضمنها كتابه الأم، ولكن أكثر كتابه تعليلات واستنباطات وفهم وغيره، ولم يكن يحفظ الأحاديث كثيرا ولكن كان يقول للإمام أحمد إذا صح عندك الحديث فأخبرنا حتى نعمل به مع أنه مات والإمام أحمد لا يزال شابا أو كهلا عاش الإمام أحمد بعده نحو سبعا وثلاثين سنة. فالحاصل أن هؤلاء منهم من جمع الله له بين الحفظ والفهم، ومنهم من خصه بالفهم، أما الذين اختصوا بالحفظ فكثير؛ مثلا يحيى بن معين رزقه الله الحفظ، ولم يكن ممن يشتغل بالاستنباط، وكذا علي بن المديني و يحيى بن سعيد القطان ونحوهم كانوا ممن اشتغلوا بالحفظ، ولم يكونوا يشتغلون بالاستدلال ولا بالاستنباط إنما جعلهم الله تعالى أوعية لحفظ السنة، ولكن مع ذلك فإنهم قد يجيبون بما يحفظونه من السنة. أما غيرهم الذين لم يشتغلوا بالأحاديث ولا بالسنة فهؤلاء هم المعرضون فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لما ذكر هذا المثال: « مثل ما بعثني الله -تعالى- به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير » هؤلاء هم الذين جمعوا بين الحفظ والاستنباط، « وكان منها أجادب أمسكت الماء فسقى الناس وارتووا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله فعلم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ». فالذين أعرضوا عنه إما اشتغلوا بدنياهم، وإما اشتغلوا بعلوم أخرى كالذين اشتغلوا بفلسفة أو الذين اشتغلوا بعلم الكلام، أو الذين اشتغلوا بالعلوم الجديدة المستنبطة أو المأخوذة عن اليونان ونحوهم، وترجموا كثيرا من كتب اليونان ونحوهم، فهؤلاء ينطبق عليهم أنهم أعرضوا عن الكتاب، وأعرضوا عن السنة لم يرفعوا بها رأسا ولم يقبلوا هدى الله الذي جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-. هذه الأقسام الأربعة تجدونها في كل زمان، تجدون من يشتغلون بالحفظ يرزقهم الله تعالى فيحفظون مئات الأحاديث أو ألوف ولكن يشغلهم الحفظ عن الاستنباط، وآخرون رزقهم الله الاستنباط، وآخرون جمعوا بين ذلك، وأكثر الناس الذين لم يشتغلوا بذلك. وذكر عن ابن مسعود أنه قال: الناس أربعة عالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، ومستمع ومحب، وسائر الناس همج رعاع، يغلون الآثار ويضيقون الديار. وفي بعض الروايات أنه قال: كن عالما أو متعلما أو مجالسا أو محبا ولا تكن الخامسة فتهلك، فانقسام الناس هذه الأقسام يدل عليه واقعهم. بَاب رَفْعِ الْعِلْمِ وَظُهُورِ الْجَهْلِ. وَقَالَ رَبِيعَةُ : لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ الْعِلْمِ أَنْ يُضَيِّعَ نَفْسَهُ. قَالَ : حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ ﷺ : « إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ وَيَظْهَرَ الزِّنَا ». « الشَّـرْحُ » : رفع العلم قد يكون بالإعراض عن تعلمه، وبالانشغال بأمور لا فائدة فيها أو علوم جديدة لا أهمية لها فيغفلون عن العلم الشرعي الذي هو العلم بالكتاب والسنة، ويشتغلون بغيره من العلوم الجديدة أو الشاغلة أو نحو ذلك. ذكر في هذا الحديث أشراط الساعة أن هذه من أشراط الساعة أن يرفع العلم ، وأن يقع الجهل يوضع ويحصل ويكثر، وهما ضدان، العلم والجهل لا يجتمعان ولا يرتفعان، إذا كان هناك جهل ارتفع العلم، وإذا كان هناك علم ارتفع الجهل، فلا يقال: هذا جاهل عالم -يعني العلم الشرعي- وقد ذكرنا بالأمس ما نقل عن الخليل بن أحمد في قوله: الناس أربعة: عالم ويدري أنه عالم فهذا كامل فسودوه، والثاني: عالم ولا يدري أنه عالم فهذا غافل فنبهوه. والثالث جاهل ويدري أنه جاهل فهذا مسترشد فأرشدوه، والرابع جاهل ولا يدري أنه جاهل فهذا مائق فاتركوه. والحاصل أنه أخبر في هذا الحديث أن من أشراط الساعة العلامات التي تدل على قرب الساعة ...... الشريعة، علم الديانة؛ فإنه الأولى بأن يكون هو العلم الصحيح، وما سواه من العلوم لا يصدق عليها أنها علم، وإن سمي أهلها بمخترعين وبأذكياء وبمستنبطين ونحو ذلك، العلماء المفكرون الجدد هؤلاء علماء دنيا بمعنى أنهم فكروا وصنعوا واخترعوا وأنشئوا هذه الأفكار الجديدة؛ الذي من آثارها هذه المخترعات الجديدة الكهربائية -صناعية أو اختراعات- أو أفكار ونحوها، ولكن هؤلاء -وإن كانوا أذكياء- فقد استعملوا ذكاءهم في أمور دنية ليست هي العلوم الشرعية. هكذا ذكر العلماء أن العلم الحقيقي هو ما ورث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن صحابته، في قول بعض الشعراء: الـعـلم قال الله قال رسـوله * * * قــال الصحابة ليس خلف فيه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة * * * بين النصوص وبين رأي فقيه إن العلم الصحيح هو علم الكتاب والسنة ، هذا هو الذي يرفع في آخر الزمان، وهو ميراث الأنبياء؛ ولهذا قال بعض الشعراء أيضا: كــل العلوم سوى القرآن زندقة * * * .......................... أنكر بعضهم كلمة زندقة وعبر بعبارة أسهل: كل العلوم سوى القرآن مشغلة * * * إلا الحديث وإلا الفقه في الدين الــعلم ما كان فيه قال حدثنا * * * وما سوى ذاك وسواس الشياطين فهذا هو العلم الذي يرفع علم الشريعة، وهو أهم العلوم الدينية، والذين فضلوا غيره إنما فضلوا ما كان وسيلة إليه، أنكر بعض العلماء على الشاعر الذي يقول في علم النحو: وإذا طلبت من العلوم أهمـهـا * * * فأهمها منهـا مقيم الألسـن فقال: لقد أخفق يقول: هذا الصحيح ولا مقـالة جاهل * * * فأهمهـا منهـا مقيم الألسن لــو كان ذا فقه لكان مجاوبا * * * فــأهمها منها مقيـم الأتلد يعني مقيم الدين، والعلم الصحيح الذي يكون أهم العلوم. وبكل حال ذكر أن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويوضع الجهل، ويراد به الجهل بالله تعالى، والجهل بأحكامه يعني يثبت ويتمكن الجهل، وأما البقية التي ذكرت فهي من أشراط الساعة ولها محل آخر. قَالَ : حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : لَأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لَا يُحَدِّثُكُمْ أَحَدٌ بَعْدِي ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّـهِ ﷺ يَقُولُ : « مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَقِلَّ الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ وَيَظْهَرَ الزِّنَا وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ وَيَقِلَّ الرِّجَالُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ ». « الشَّـرْحُ » : هذا مثل الحديث الذي قبله، والشاهد منه أن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، وأن يثبت الجهل، وأن يكثر الزنى، وأن يقل الرجال، ويكثر النساء إلى آخره. قد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- كيف يرفع العلم؟ ! في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: « إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من قلوب الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا؛ فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا » يعني قبض العلم بقبض العلماء، العلماء الذين حملوا العلم إذا ماتوا ولم يخلفوا من يخلفهم؛ فإنه يقل من يقوم مقامهم، العلم يقل في بعض الأزمنة، ثم يوجد في بعضها أيضا في منظومة لابن مشرف يرثي فيها العلم، يقول في مطلعها: على العلم نبكي إذ قد اندرس العلم * * * ولم يبق فينا منه روح ولا جسم ولكــن بقي رسم من العلم داثر * * * وعمـا قليل سوف ينطمس الرسم ولــيـس يفيد العلم كثرة كتبه * * * فـمـاذا تفيد الكتب إن فقد الفهم فعار علـى المرء الذي تم عقله * * * وقــد أملت فيه المروءة والحزم إذا قــيل ماذا أوجب الله يا فتى * * * أجاب بلا أدري وأنى لي العلم وأقــبح من ذا لو أجاب سؤاله * * * بجهـل فإن الجهل مورده وخم فكيف إذا ما البحر من بين أهله * * * جرى هو وبين القوم ليس له سهم تدور بهم عــيناه ليس بناطق * * * فغير حري أن يرى فاضل فـدم إلى آخرها هذا في زمن ابن مشرف الذي كان في عهد الإمام فيصل بن تركي -رحمه الله- يقول: إن العلم قد قل في زمانه وكاد أن يتلاشى مع كثرة الكتب، الكتب متوفرة وإن كانت الكتب تؤخذ وراثة ولكن يقولون: لــيس يفيـد العلم كثرة كتبه * * * فماذا تفيد الكتب إن فقد الفهم فما نراه من قلة الرغبة في العلوم الشرعية، ومن الاهتمام بالعلوم الجديدة، ومن كثرة الاشتغال بعلوم الآلات وبعلوم الصناعات وما أشبهها، وعدم الرغبة في العلم الشرعي إلا القليل يخاف أن هذا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أنه من أشراط الساعة أن يقبض العلم وأن يثبت الجهل، أما البقية فهي من أشراط الساعة. بَاب فَضْلِ الْعِلْمِ. قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّـهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّـهِ ﷺ قَالَ : « بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ ، فَشَرِبْتُ حَتَّى إِنِّي لَأَرَى الرِّيَّ يَخْرُجُ فِي أَظْفَارِي ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ».قَالُوا : فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّـهِ ؟ قَالَ : « الْعِلْمَ ». « الشَّـرْحُ » : فضيلة لعمر -رضي الله عنه- وفي هذا تعبير هذه الرؤيا، رؤيا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- رؤيا منامية، ولكن رؤيا الأنبياء وحي، كما جاء ذلك في أحاديث فرأى في منام هذه الرؤيا أنه أتي بهذا الشراب فشرب منه، هذا الشراب الذي هو اللبن من أفضل الأشربة، ومن أسباب الهداية في حديث الإسراء يقول: « لما أسري بي أوتيت بقدحين قدح خمر وقدح لبن فاستشرت جبريل فقال: خذ اللبن فشربت منه فقيل: هديت وهديت أمتك لو شربت الخمر لغويت أمتك » فجعل شرب اللبن من أسباب الهداية، كذلك في هذا الحديث ذكر أنه شرب من ذلك القدح يقول: « حتى إني لأجد في يخرج من أظفاري » أعني الامتلاء من هذا الشراب امتلاء من العلم بمعنى أن العلم الذي كان من آثار هذا الشراب عم جسده حتى وصل إلى أظفاره. العالم إذا قيل: إنه عالم، قيل: قد امتلأ جوفه من العلم، وإذا امتلأ فإن هذا العلم الذي في جوفه يمتد في بشرته، ويجري في عروقه، ويصل إلى لحمه وإلى عظمه، يعني كأنه يقال: هذا كله علم بشرته وجلده ولحمه وشعره وجوفه؛ هكذا يؤول هذه الرؤيا النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطى فضله عمر بن الخطاب سألوه ماذا أولت هذا؟ فقال: العلم، عمر -رضي الله عنه- من أعلم الصحابة، في زمانه كانت الفتيا إليه دائما أو كثيرا، وكان إذا نزلت به نازلة يسأل عنها من حوله من الصحابة فيضم علمهم إلى علمه، فوفقه الله -تعالى- ؛ يدل على ذلك كثرة فتاواه وكثرة أحاديثه،- وإن كانت أقل من غيره- وسبب قلتها بالنسبة إلى ابن عمر وغيره أنه مات متقدما قبل أن يشتغل التابعون بتتبع العلماء، وقبل أن يحرصوا على تعلم ما عندهم من العلم، فإن التابعين اهتموا بالعلم في زمن متأخر- يعني بعد عهد الخلفاء الراشدين- صاروا يحرصون على العلم، ويأتون إلى من عندهم علم من الصحابة ويأخذون من هذا ومن هذا ومن هذا. أما في العهد المتقدم فإنهم كانوا يكتفون بعلم الصحابة الموجودين، فيقولون: لا نحتاج إلى علم وهم موجودون، من حصل له مسألة أو احتاج إلى فتوى فإنه يأتي إلى فلان وإلى فلان من الصحابة فيجد عندهم ما يكفيه من الجواب السديد، ولكن بعدما قل الصحابة قالوا: لا بد أن نأخذ ما عند الباقين، حتى يحتاج إلينا فنعلم الأحكام عندما يحتاج إلينا كما احتيج إليهم، وإلا فعمر -رضي الله عنه- لازم النبي -صلى الله عليه وسلم- منذ أن أسلم في السنة الثالثة بعد النبوة –كما قيل- معنى ذلك أنه بقي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين بمكة وعشر سنين بالمدينة . مع هذه المدة الطويلة لا بد أنه تحمل عنه العلم الكثير، وقد اهتم بعلمه كثير من الصحابة كابن عباس -رضي الله عنه- فإنه كان يكثر من الرواية عنه، وإن لم يسمه، وكذلك أيضا عبد الله بن عمر كان ينقل عن عمر أحاديث كثيرة من التي حضرها عمر ولم يحضرها ابنه عبد الله وغير ذلك من فضائله. لعلنا نقف عند هذا، بقية الكتاب لعله في دورة أخرى معنا أو مع غيرنا -إن شاء الله- والله أعلم، وصلى الله على محمد . [ أسئلة وأجوبة ] س: هذا سائل يسأل: فضيلة الشيخ، في حديث ... عن جرثوم بن ناشر –رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء -رحمة بكم غير نسيان- فلا تبحثوا عنها يقول هل هذا الحديث يثبت صفة السكوت لله -عز وجل- مع أن الله –سبحانه- من صفاته صفة الكلام؟ ج : نقتصر في الصفات على ما ورد، ونثبت لله -تعالى- ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله -صلى الله عليه وسلم-. جاء في هذا الحديث: وسكت عن أشياء رحمة بكم -من غير نسيان- فلا تبحثوا عنها، فأثبت السكوت يعني أنه لم يبينها وذلك لأنه بين ما هو مجمل، فلا تبحثوا عن الأشياء التي إذا تبينت قد يكون بيانها فيه شيء من الغلظ، وما أشبه ذلك، فالسكوت هاهنا كونه لم يبينها ولم يفصلها تفصيلا -رحمة بكم- من غير نسيان، فنثبت لله هذه الصفة كما أثبتها، وتفسر هذه الجملة بالآية الكريمة في سورة المائدة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ ﴾ يعني: لا تتقعروا فتسألوا عن أشياء فينزل فيها حكم يشق عليكم، اسكتوا عما سكت الله عنه، واعملوا بما ظهر لكم من غير أن تتقعروا في المسائل. س: يقول سائل: ... وبعد يومين أحرم من جدة فهل عليه شيء؟ ج : من كان من خارج الحدود أو خارج المواقيت لزمه أن يحرم من الميقات إذا مر به وهو عازم على العمرة بحج أو عمرة رجلا أو امرأة، فإذا خافت المرأة –مثلا- أن يعرض لها عارض كحيض أو نفاس أو نحو ذلك؛ فإنها تشترط، وأما الذين لا يحرمون إلا من جدة فالأصل أنهم تجاوزوا الميقات؛ فأحرموا بعدما تجاوزوه فيلزمهم دم لكونهم تركوا واجبا من الواجبات. هذه المسألة غير واضحة ولكن يرجع فيها إلى الأصل أن من مر بميقات لزمه أن يحرم، ومن تجاوزه وهو عازم على الإحرام وأحرم بعدما تجاوزه فإن عليه دمًا، أما إذا تجاوزه وقام في جدة حتى زال العذر ثم رجع إلى الميقات وأحرم منه فلا شيء عليه، أما إذا خافت المرأة عذرا أو خاف الرجل عائقا واشترط فإن له أن يشترط، وله ما اشترط أن يقول: محلي حيث حبستني، والله أعلم.
اذا الشعب يوما اراد الحياة فلا بد ان يستجيب القدر ولا بد لليل ان ينجلي ولا بد للقيد ان ينكسر
بارك الله فيكم كتاب صحيح البخاري مهم لكل مسلم
قوانين المنتدى