العنوان:
هل يسلم إنسان من الذنوب؟
المجيب:
سليمان بن إبراهيم الأصقه
نائب رئيس المحكمة العامة في الخرج
التصنيف :
الفهرسة/ الرقائق والأذكار/التوبــة التاريخ 01/08/1428هـ
السؤال:
كيف نجمع بين حديث: ما من امرئ إلا وله ذنب يعتاده حتى يلقى الله تعالى به، وبين الأحاديث التي تقول: إن المعاصي والذنوب سبب في المصائب وحرمان الرزق؟
وهل يمكن أن يكون هناك إنسان بلا ذنب؟ وهل اللمم (المعاصي الصغيرة) التي يقع فيها الإنسان تكون سبباً في المصائب التي تصيب الإنسان؟





الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
لابد أن نعلم يقيناً أنه لا يوجد في حقيقة الأمر تعارض بين نصوص الكتاب والسنة الصحيحة؛ لأن الجميع وحي من الله تعالى. قال عز من قائل: "قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُم بِالْوَحْيِ" [الأنبياء:45]. وقال سبحانه "وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى" [النجم:3-4]. وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: "اكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج منه –وأشار إلى فيه- إلا الحق" أخرجه أحمد برقم (6510) ومواضع أخرى، وأبو داود برقم (3614)، وابن خزيمة برقم (2280)، وهو حديث صحيح.
وإذا عُلِم هذا تبين أن ما يوجد من النصوص مما يوهم التعارض سببه أن النص غير صحيح، أو أننا أخطأنا في فهمه، أو جهلنا معناه، أما في حقيقة الأمر فلا يوجد تعارض؛ لأن الكل من عند الله الكتاب والسنة الصحيحة "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً".
ومما تقدم ننتقل للجواب على السؤال بأجوبة:
أولاً: أن الحديث ضعيف، فقد أخرجه الطبراني في معجمه الكبير برقم (10666) من حديث عبد الله بن نمير عن عتبة بن يقظان عن داود علي بن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعتبة بن يقظان ضعيف. وأخرجه أيضاً برقم (12457) في معجمه الكبير، وبرقم (5880) في معجمه الصغير، وأخرجه أيضاً أبو نعيم في الحلية (3/211) من حديث مصعب بن المقدام عن أبي معاذ –سليمان بن أرقم- عن أبي بشير جعفر بن أبي وحشية، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما. وسليمان بن أرقم ضعيف.
وإذا كان الحديث ضعيفاً فلا حاجة بنا إلا تكلف الجواب عنه.
فإن قيل إن الحديث ثابت صحيح أو حسن فقد أخرجه الطبراني في معجمه الكبير برقم (11810) من حديث علي بن حفصة المدائني، عن عبيد المكتب الكوفي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورجال السند كما قال الهيثمي في المجمع (10/201) ثقات. وصحح الحديث من المعاصرين الألباني كما في السلسة الصحيحة برقم (2277)، وفي صحيح الجامع برقم (5735) = فالجواب هو ثانياً: أن تفهم الحديث كاملاً، فإن في آخره ما يبين معناه ونصه كاملاً "ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفَيْنَة بعد الفَيْنَة أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق الدنيا. إن المؤمن مُفَتَّنًا تواجاً نِسيًّا إذا ذكر ذكر". والمعنى أن المؤمن يفتن ويبتلى بالذنب، ويتوب وينسى ويقع في المعصية وإذا ذكر ذكر، وقد يعاود الذنب المرة بعد الأخرى.
ومن المؤمنين من يكون له ذنب لا يفارقه حتى يفارق الدنيا. وهذا معنى صحيح دل عليه الكتاب والسنة والواقع المشاهد من أحوال الناس. فإن الله تعالى لم يثنِ على المؤمنين بعصمتهم من الذنوب، وإنما أثنى عليهم بالتوبة منها وعدم الإصرار عليها. قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ" [الأعراف:201]. وقال تعالى: "وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ" [آل عمران:135].
وقال الله تعالى في الحديث القدسي "يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم" أخرجه مسلم برقم (2577) من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم" أخرجه مسلم برقم (2749) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ولله تعالى فيما قدره وكتبه على عباده المؤمنين من الوقوع في الذنوب حكم بالغة قد ندرك بعضها ويخفى علينا الكثير. فمن ذلك تحقق معنى أسماء الله تعالى: الغفور الرحيم اللطيف الحليم غافر الذنب وقابل التوب. ومنها ما يورث الذنب من الانكسار والذلة والحياء من الله تعالى والافتقار إليه، وهذا هو حقيقة العبودية التي من جاء بها وجد السعادة والهداية، ولذا نجد حال بعض العباد أكمل وأحسن بعد الوقوع في الذنب والتوبة منه، كحال الثلاثة الذين خُلِّفُوا، وحال ما عز بن مالك والغامدية رضي الله عنهم أجمعين.
وفي أثر عن الحسن مرسلا: "إن العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة، وإن العبد ليعمل بالحسنة فيدخل بها النار" أخرجه ابن المبارك في الزهد برقم (150) وغيره، والمعنى: تكون السيئة سبباً لدخول الجنة لما تورثه من الخوف والذلة لله تعالى والتوبة إليه. وتكون الحسنة سبباً لدخول النار لما تورثه من العُجْب بها والإدلاء بها على الله.
ثالثاً: أن كون الله تعالى قدر وشاء أن يقع بعض عباده في الذنوب ويستمر عليها، ثم هو مع ذلك يرتب عليها المصائب والابتلاءات وحرمان الرزق -لا يعني أن الله تعالى عاقب العبد على شيء خارج عن إرادة العبد واختياره إذا أمره، فالله تعالى أعطى العبد مشيئة واختياراً، وبين له طريق الهداية من طريق الضلالة، وأنزل الكتب وأرسل الرسل الذين يبينون ذلك إعذاراً إلى خلقه، وقطعاً لأي حجة، قال تعالى: "رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ" [النساء:165]. فليس لأحد حجة بعد أن بين الله له طريق الهداية من طريق الضلالة، ولذا لا يعذب الله أحدا إلا بعد البيان، قال تعالى: "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً" [الإسراء:15].
وكون الله تعالى علم وشاء أن تقع هذه الذنوب من عباده لا يعني أنه أحب الذنب وشرعه دينا، ففرق بين ما شاءه الله وقدره وأراده كوناً وبين ما أحبه وشرعه ديناً. والله عز وجل قد جعل الذنوب سبباً للمصائب مع عفوه عن الكثير، قال تعالى: "وَمَا أَصَابَكُمْ مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ" [الشورى:30]. وقال تعالى: "فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ" [العنكبوت:40]. وقال "فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ" [المائدة:49]. وفي الحديث: "إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه" أخرجه أحمد برقم (5/277)، وابن ماجه برقم (90)، وابن حبان برقم (872) من حديث ثوبان رضي الله عنه. فهذا قدره وهذه سنته في خلقه، والواجب على العبد هو أن ينظر الأمر والنهي فيفعل الأمر ما استطاع إليه، ويجتنب النهي، ولأجل ذلك خلقه الله تعالى، فإن غلبته نفسه ووقع في الذنب فليبادر للتوبة، وليعلم أن ذلك من نفسه. قال تعالى: "مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ" [فصلت:46].
وقول السائل: هل يمكن أن يكون هناك إنسان بلا ذنب؟ فالجواب: لا يمكن. لأن ذلك يعني العصمة، وهي منتفية عن الخلق إلا الأنبياء والرسل فيما يبلغونه عن الله تعالى، أما غير ذلك فيقع منهم الخطأ والذنب، لكنهم لا يُقرون عليه ويتوبون منه، والعبرة بكمال النهاية لا بنقص البداية.
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية الاتفاق على أن الرسل لا تقر على الخطأ والذنب، ثم قال: "هل يقع منهم بعض الصغائر مع التوبة منها أولا يقع بحال؟" ثم قال: "وأما السلف وجمهور أهل الفقه والحديث والتفسير.. فلم يمنعوا الوقوع إذا كان مع التوبة كما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وإذا ابتلى بعض الأكابر بما يتوب منه فذاك لكمال النهاية لا لنقص البداية" اهـ. من جامع المسائل –المجموعة الرابعة صـ40-41 فهذا في حق الرسل عليهم الصلاة والسلام، فكيف بمن دونهم. المهم التوبة والإنابة والرجوع إلى الله تعالى.
وما بعد النبوة منزلة أعظم من الصديقية، ولما قال الصديق الأكبر أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال: "قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني أنك أنت الغفور الرحيم". أخرجه البخاري برقم (834)، ومسلم برقم (2705).
وثبت في الصحيحين برقم (6398)، ورقم (2719) عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: "اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني. اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي. اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني. أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير". وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
وقول السائل: وهل اللمم (المعاصي الصغيرة) التي يقع فيها الإنسان تكون سبباً في المصائب التي تصيب الإنسان؟ الجواب: بلا شك أن من الذنوب كبائر، ومفهوم ذلك أن هناك صغائر. وهذه الصغائر أهون من الكبائر في الجملة، وهي مما تكفرها الصلاة والصيام بشرط اجتناب الكبائر. قال تعالى: "إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ" [النساء:31]. وقال صلى الله عليه وسلم "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن ما لم تغش الكبائر" أخرجه مسلم برقم (233) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. لكن الشأن في معرفة الصغائر، فإن من الناس من يظن بعض الذنوب صغائر وهي كبائر. قال أنس رضي الله عنه وهو من صغار الصحابة وممن تأخرت وفاته إلى 93هـ وقيل بعدها" إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات –أي المهلكات- أخرجه البخاري برقم (6492).
كما أن الصغيرة قد يقترن بها من الاستخفاف ما يجعلها كبيرة، وقد يُصِرُّ عليها صاحبها فتهلكه. فالصغائر إذا اجتمعت أهلكت، وكانت سبباً في المصائب. قال صلى الله عليه وسلم "إياكِ ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالباً" قاله لعائشة رضي الله عنها. أخرجه النسائي وابن ماجه برقم (4243)، وابن حبان في صحيحه برقم (5542). كما أن الصغائر إذا اقترن بها الاستخفاف والإصرار تهلك وتورث الران على القلوب والعياذ بالله تعالى، أما بدون ذلك مع اجتناب الكبائر وفعل الفرائض فإنها مغفورة بإذن الله تعالى.
غفر الله لنا ولك ولإخواننا المسلمين. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.