في ماء وطينمقال الشيخ صالح المغامسي
لا عيش حقا إلا عيش الآخرة، والموفق من أعد لها ما ينفعه فيها، وتحرى مواسم الخير من دلائل الكياسة وأمارات التوفيق، والعشر الأواخر من رمضان، ليالي وأياما، عزّ نظيرها وقلّ مثيلها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم العباد خشية وأكملهم طاعة وأهداهم طريقة، وقد علم صلوات الله وسلامه عليه فضل هذه الليالي، وأن من بينها ليلة القدر، فدأب يلتمسها وهو المغفور له ذنبه ما تقدم منه وما تأخر، قال الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا معاذ بن فضالة، حدثنا هشام عن يحيى عن أبي سلمة قال: سألت أبا سعيد - وكان لي صديقا - فقال: «اعتكفنا مع النبي صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان، فخرج صبيحة عشرين فخطبنا وقال: إني رأيت ليلة القدر ثم أنسيتها - أو نسّيتها - فالتمسوها بالعشر الأواخر في الوتر، وإني رأيت أني أسجد في ماء وطين، فمن كان اعتكف معي فليرجع، فرجعنا، وما نرى في السماء قزعة، فجاءت سحابة فمطرت حتى سال سقف المسجد، وكان من جريد النخل، وأقيمت الصلاة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الماء والطين، حتى رأيت أثر الطين في جبهته».حديث تطرق أقلامنا خجلا حين تحاول أن تعلق عليه، وتنعقد ألسنتنا حياء حين تروم أن تعقب عليه، فالمكان مسجده الشريف الذي بناه بيديه، والزمان ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان، والمتعبد محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، السقف من جريد، والمطر ينزل، والتراب يبتل، والطين يتجمع والماء يسيل، ومحمد بن عبد الله الحبيب المجتبى والعبد المصطفى واضع جبهته في ذلك كله، ليقترب من رب الأرض والسماء.فما أحوجنا اليوم والعشر الأواخر ليس بيننا وبينها إلا ليلة أن نسال الله أولا أن يرزقنا التقوى، ويجعلنا مع الصادقين، إذا خلصت السريرة، وصدقت النية، أعين العبد على الطاعة، وفتحت له أبواب القبول، ليس ليل العشر الأواخر إلا مقاما للتعبد، ومحرابا للتهجد، وطريقا إلى الله.على هذا دل القرآن، وبهذا مضت السنة، وعلى هذا السبيل سار أولياء الله المقربون وعباده الصالحون.