كيف نشأ الانفصال بين الذات العليا والسفلي


يقول العلماء أن الإنسان كان كبقية الحيوانات في الاعتماد على البرمجة الأولية الغريزية ، ولكنه أكتشف بدايات وعيه الذاتي عبر المشاهدات المفجعة التي بدأت الحواس بتغذية الدماغ بها .
في ذات لحظة مباركة ، كان يقف على مبعدة مائة متر أو مائتين حين شاهد أبنه يدنو من النمر ليلعب معه ، وإذ بالنمر يلتفت صوب الصبي لينهشه بسرعة خاطفة ويلتهمه بتلذذ .
كانت فاجعة يعلم الله كم من آلاف المرات حصلت وبنسخ لا تعد ولا تحصى ، حتى تكون منطق الذات السفلى الذي نعيش به اليوم ، منطق الهرب أو الاقتحام ، الكسب أو الهرب بأقل الخسائر ...!
الحيوانات ذاتها لم تطور غريزة الخوف ، لأنها لم تطور الذاكرة ولا القدرة على التحليل التي أمتلكها الإنسان .
تعاقب تكون طبقات الدماغ عبر العصور ، لكن طبقاته العتيقة جداً ظلت نشطة بقوة نتوارثها عبر البرمجة الوراثية .
في تصوري أن انشغالنا بالحياة الاجتماعية مع الناس والأحياء الأخرى والتقارب الحميم بين الجنسين من أجل التكاثر والتكامل وتأمين الحاجات الغريزية ، أدى بنا وللأسف إلى أن نغفل جوهرنا الروحي الذي هو أسمى بكثير من الوعي اليومي الاجتماعي .
الفلسفة والروحانيات والأخلاق وعلم النفس لم تتطور بقوة كما تطورت الفيزياء والكيمياء والطب والاقتصاد ، لأننا طورنا ما نحتاجه للبقاء على قيد الحياة ككائنات مادية ، كأجسام ، كغرائز .
ولهذا تجدنا نهرب غالبا من الوعي الفائق لكي لا تفتضح حقيقة جهلنا بأنفسنا ولكي لا نهدر الوقت في التأمل والتساؤل ، بينما الحياة تمضي والغرائز تلح بالحاجة إلى الإشباع كسباً أو هربا من الخطر ، علما بأن التعرف على الذات العليا يمكن أن يرفدنا بكنوز هائلة أسمى من تلك التي ننالها بالهرب والاقتحام .
الحقيقة أن المجتمعات الغربية حققت قدرا اكبر من التطور الروحي كما والمادي بذات الآن قياسا إلى مجتمعاتنا العربية أو المشرقية عامة ، الغربيون يهتمون أكثر منا بالتأمل ، بالقراءة الجادة ، بالتعامل مع بعضهم بقدر كبير من الأخلاق والمنطق السامي ، يتعاملون مع البيئة مع الشعوب الفقيرة ، مع العلم ، مع مستقبل الإنسانية بشعور أكبر بالمسؤولية مما نفعل نحن مع أنفسنا أو مع بعضنا .
وجميع هذا يؤكد أن المواطن الغربي يملك توازنا أكبر بين الوعي الفائق والوعي الإجتماعي اليومي ، كما وإن الغربي يمتلك حبا أكبر لذاته مما نمتلك نحن ، وبالنتيجة يمتلك فهما للحياة والموت بشكل افضل وأنقى من هذا الذي نمتلكه نحن .
ربما يتوهم البعض أن الطفرة العلمية الحضارية الجبارة التي حصلت في الغرب هي السبب وراء التطور الروحي أو القيمي ، والجواب لا ليس هذا السبب حسب ، بل لأن الغربيون أصلا أقصوا الدين من حياتهم ( رغم تسامح الدين المسيحي أصلا ) .
إن نهضتهم ما كان لها أن تتحقق لو لم ينجح مفكروهم بأقصاء الدين من حياتهم .
لقد سبق التطور القيمي في الغرب التطور العلمي والحضاري ، وكان هو السبب في تسارعه وليس العكس .
أما في حالتنا العربية والإسلامية عامة فنحن نمتلك دينا من أكثر أديان الشعوب قسوة وجبرية وإلزامية وجمودا وتورطا مرعبا في ادق تفاصيل الحياة الإنسانية بما لم تعرفه الدوغما من قبل .
نحن تربينا عزيزي القاريء في مجتمعات لا يحكمها العلم والتخطيط الإستراتيجي وليس في منظومتها القيمية الجامدة المريضة أي متسع أو هامش لأشباع الغرائز الحيوانية التي كان يمتلكها أجدادنا الأولون قبل ملايين السنين وكانوا حتى أقدر منّا على إشباعها بأقل قدر من الشعور بالخطيئة .
نحن محكومين بقوة بثقافة دينية عاجزة حتى عن إيجاد المبررات لأوهامها التي تدعيها ، ولولا السيف والأنسجام بين الواعظ وصاحب الملك وتعزيز جهل الناس وقطع أياديهم وألسنتهم ، لما أستمرت تلك العقيدة حية حتى يومنا هذا .
نحن أمة لم تخرج بعد من عباءة القدرية ولم نرقى بعد إلى الحياة المتوازنة التي تنسجم فيها الروح مع الجسد مع الوعي اليومي بحيث يكون التعارف ناجزا بين كل مفردات هويتنا .
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ