بسم الله الرحمن الرحيم

الفتوى المنهجية للدعوة الشرعية

نص السؤال

سئل إمام الأئمة ورباني الأمة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني قدس الله روحه ونور ضريحه :
عن (( جماعة )) يجتمعون على قصد الكبائر: من القتل ، وقطع الطريق، والسرقة، وشرب الخمر، وغير ذلك .

ثم إن شيخاً من المشايخ المعروفين بالخير واتباع السنة قصد منع المذكورين من ذلك، فلم يمكنه إلاّ أن يقيم لهم سماعا() يجتمعون فيه بهذه النية، وهو بدف بلا صلاصل، وغناء المغني بشعر مباح بغير شبابة، فلما فعل هذا تاب منهم جماعة ، وأصبح من لا يصلي ويسرق ولا يزكي يتورع عن الشبهات، ويؤدي المفروضات، ويجتنب المحرمات().
فهل يباح فعل هذا السماع لهذا الشيخ على هذا الوجه، لما يترتب عليه من المصالح؟ مع أنه لا يمكنه دعوتهم إلاّ بهذا ؟ .

وقبل إيراد جواب ابن تيمية ألفت نظر القارئ الكريم إلى أن هذه الواقعة التي أفتى فيها ابن تيمية بهذه الفتوى القوية جمعت أموراً:
الأول/ سوء حال المدعوين قبل هدايتهم بأن كانوا مرتكبين لذنوب كبائر متعدية كالقتل وسرقة المال وقطع الطرق.
الثاني/ صلاح الداعية بأن كان شيخاً معروفاً بالخير واتباع السنة.
الثالث/ أنه قصد من فعله الخير.
الرابع/ لم يمكنه إلا اتخاذ هذه الطريقة لهدايتهم.
الخامس/ أنه لم يقع معهم في محرمات كبائر وإنما دف بلا صلاصل وغناء بشعر مباح بغير شبابة.
السادس/ أنه ترتب على هذه الطريقة مصلحة كبيرة وخير عظيم. ومع هذا كله لم تغلب ابن تيمية عاطفته ولم ينكسر لها، بل بنى فتواه على الأدلة الشرعية والقواعد المرعية فكان حكمه في هذه الواقعة ما سترى.
نـص الإجـابـة

[ الدين مكتمـــل ]

الحمد لله رب العالمـين ، أصل جواب هذه المسألة وما شابهها أن يعلم أن الله بعث محمدا صلي الله عليه وسلم بالهدى ، ودين الحق ، ليظهره على الدين كله ، وكفى بالله شهيدا() ، وأنه أكمل له ولأمته الدين، كما قال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾() [المائدة: 3]
وأنه بشر بالسعادة لمن أطاعه، والشقاوة لمن عصاه، فقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69]
وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾() [الجن: 23] .

[ لا بد من الرجوع عند التنازع إلى الكتاب والسنة]

وأمر الخلق أن يردوا ما تنازعوا فيه من دينهم إلى ما بعثه به ، كما قال تعالى:
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾() [النساء: 59] .

[كيفية دعوة النبي صلي الله عليه وسلم ]

وأخبر أنه يدعو إلى الله وإلى صراطه المستقيم ، كما قال تعالى :-
﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي ﴾ [يوسف: 108] .
وقال تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴾ [الشورى: 52، 53].
وأخبر أنه يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ويحل الطيبات ويحرم الخبائث ، كما قال تـعالى : ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ ِ بِالْمَعْرُوف وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 156، 157].

وقد أمر الله الرسول بكل معروف ، ونهى عن كل منكر، وأحل كل طيب، وحرم كل خبيث، وثبت عنه صلي الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال : » ما بعث الله نبيا إلاّ كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم ، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم «() .
وثبت عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله صلي الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون ، قال : فقلنا: يارسول الله ! كأن هذه موعظة مودع ، فماذا تعهد إلينا فقال: » أوصيكم بالسمع والطاعة ، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة «.
وثبت عنه صلي الله عليه وسلم أنه قال: » ما تركت من شيء يبعدكم عن النار إلاّ وقد حدثتكم به «.
وقال صلي الله عليه وسلم: » تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلاّ هالك «.
وشواهد هذا الأصل العظيم الجامع من الكتاب والسنة كثيرة ، وترجم عليه أهل العلم في الكتبكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ) كما ترجم عليه البخاري والبغوي وغيرهما – رحمهم الله - ، فمن اعتصم بالكتاب والسنة كان من أولياء الله المتقين ، وحزبه المفلحين ، وجنده الغالبين ، وكان السلف كمالك وغيره - رحمهم الله - يقولون :
( السنة كسفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ).
وقال الزهري-رحمه الله -:-
( كان من مضى من علمائنا يقولون : الاعتصام بالسنة نجاة ).

[ كيف ندعو الناس وبماذا ]

إذا عرف هذا فمعلوم إنما يهدي الله به الضالين ، ويرشد به الغاوين ، ويتوب به على العاصين ، لا بد أن يكون فيما بعث الله به رسوله من الكتاب والسنة ، وإلاّ فإنه لو كان ما بعث الله به الرسول صلي الله عليه وسلم لا يكفي في ذلك لكان دين الرسول ناقصا ، محتاجا تتمة ، وينبغي أن يعلم أن الأعمال الصالحة أمر الله بها أمر إيجاب أو أمر استحباب ، والأعمال الفاسدة نهى الله عنها.
والعمل إذا اشتمل على مصلحة ومفسدة ، فإن الشارع حكيم ، فإن غلبت مصلحته على مفسدته شرعه ، وإن غلبت مفسدته على مصلحته لم يشرعه ، بل نهى عنه كما قال تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216] .
وقال تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْميْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ﴾ [البقرة:219] ولهذا حرمهما الله تعالى بعد ذلك .

[ ما ليس بوسيلة شرعية فضرره أعظم من نفعه ]

وهكذا ما يراه الناس من الأعمال مقربا إلى الله ولم يشرعه الله ورسوله فإنه لا بد أن يكون ضرره أعظم من نفعه ، وإلاّ فلو كان نفعه أعظم غالبا على ضرره لم يهمله الشارع، فإنه صلي الله عليه وسلم حكيم لا يهمل مصالح الدين ولا يفوت المؤمنين ما يقربهم إلى رب العالمين .

[ طريقة الشيخ المذكورة وأمثاله تدل على الجهل بالطرق الشرعية ]

إذا تبين هذا فنقول للسائل : إن الشيخ المذكور قصد أن يتوب المجتمعين على الكبائر فلم يمكنه ذلك إلاّ بما ذكره من الطريق البدعي يدل أن الشيخ جاهل بالطرق الشرعية التي بها تتوب العصاة، أو عاجز عنها ،() فإن الرسول صلي الله عليه وسلم والصحابة والتابعين كانوا يدعون من هو شر من هؤلاء من أهل الكفر والفسوق والعصيان بالطرق الشرعية ، التي أغناهم الله بها عن الطرق البدعية .

فلا يجوز أن يقال: إنه ليس في الطرق الشرعية التي بعث الله بها نبيه ما يتوب به العصاة، فإنه قد علم بالاضطرار والنقل المتواتر أنه قد تاب من الكفر والفسوق والعصيان من لا يحصيه إلاّ الله تعالى من الأمم بالطرق الشرعية ، التي ليس فيها ما ذكر من الاجتماع البدعي، بل السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان – وهم خير أولياء الله المتقين من هذه الأمة – تابوا إلى الله تعالى بالطرق الشرعية ، لا بهذه الطرق البدعية ، وأمصار المسلمين وقراهم قديما وحديثا مملوءة ممن تاب إلى الله واتقاه، وفعل ما يحبه الله ويرضاه بالطرق الشرعية ، لا بهذه الطرق البدعية .
فلا يمكن أن يقال: إن العصاة لا تمكن توبتهم إلاّ بهذه الطرق البدعية، بل قد يقال: إن في الشيوخ من يكون جاهلا بالطرق الشرعية، عاجزا عنها، ليس عنده علم بالكتاب والسنة وما يخاطب به الناس ، ويسمعهم إياه ، مما يتوب الله عليهم ، فيعدل هذا الشيخ [وأمثاله] عن الطرق الـشرعية إلـى الطرق البدعية، إما مع حسن القصد إن كان له دين، وإما أن يكون غرضه الترأس عليهم، وأخذ أموالهم كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 34]، فلا يعدل أحد عن الطرق الشرعية إلى البدعية إلاّ لجهل أو عجز أو غرض فاسد.

[إسماع الناس القرآن ليتوبوا
خير من إسماعهم الأناشيد وأمثالها ليتوبوا]

وإلاّ فمن المعلوم أن سماع القرآن هو سماع النبيين والعارفين والمؤمنين، قال تعالى في النبيين: ﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ﴾ [مريم: 58].
وقال تعالى في أهل المعرفة : ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ ﴾ [المائدة: 83 ] .
وقال تعالى في حق أهل العلم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبـْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ﴾ [الإسراء: 107: 109].
وقال في المؤمنين: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِـكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ﴾ [الأنفال: 2، 3].
وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُـهُمْ إِلَى ذِكْـرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ ﴾ [الزمر: 23] .

[ هدى الله العباد بسماع القرآن ]

وبهذا السماع هدى الله العباد ، وأصلح لهم أمر المعاش والمعاد، وبه بعث الرسول صلي الله عليه وسلم، وبه أمر المهاجرين والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان ، وعليه كان يجتمع السلف كما كان أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا رجلا منهم أن يقرأ وهم يسمعون .
وكان عمر بن الخطاب يقول لأبي موسى:-( ذكّرنا ربنا) . فيقرأ أبو موسى وهم يسمعون.
وفي الصحيح عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه مرّ بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ ، فجعل يستمع لقراءته. وقال: » لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود «. وقال : » مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت استمع لقراءتك « فقال لو علمت أنك تسمعني لحبرته لك تحبيرا ) أي لحسنته لك تحسينا .
وفي الصحيح أنه صلي الله عليه وسلم قال لابن مسعود: » اقْرَأْ عَلَيَّ القرآن « قال: ( أقرأ عليك وعليك أنزل؟!) فقال: » فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي « فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى بَلَغْتُ : ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ قَالَ: » حسبك « فنظرت إليه فإذا عيناه تذرفان من البكاء.
وعلى هذا السماع كان يجتمع القرون الذين اثني عليهم النبيصلي الله عليه وسلم حيث قال :
» خير القرون الذين بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم « .


[ السماع والأناشيد العصرية بدعة ]

ولم يكن في السلف الأول سماع يجتمع عليه أهل الخير إلاّ هذا ، لا بالحجاز ولا باليمن ولا بالشام ولا بمصر والعراق وخراسان والمغرب ، وإنما حدث السماع المبتدع بعد ذلك، وقد مدح الله أهل هذا السماع المقبلين عليه، وذم المعرضين عنه، وأخبر أنه سبب الرحمة، فقال تعالى: ﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأعراف: 204]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ﴾ [الفرقان: 73]، وقال تعالى: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ ﴾ [الحديد: 16] ، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْـمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنفال: 23].
وقال تـعالى: ﴿ فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ﴾ [المدثر: 51] ، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ﴾ [الكهف: 57]
وقال تعالى: ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ﴾ [طه: 126].
ومثل هذا في القرآن كثير يأمر الناس باتباع ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، ويأمرهم بسماع ذلك . وقد شرع الله تعالى السماع للمسلمين في المغرب والعشاء والفجر قال تعالى: ﴿ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ﴾ [الإسراء: 78].
وبهذا مدح عبد الله بن رواحة النبي صلي الله عليه وسلم حيث قال :-
وفينا رسول الله يتــــلو كتابه إذا انشق معروف من الفجر ساطع
يبيت يجافي جنبه عن فراشـــه إذا استثقلت بالكافرين المضاجـع
أتى بالهدى بعد العمى فقلوبــنا به موقـــنات أنما قــال واقع

وأحوال أهل هذا السماع مذكورة في كتاب الله ، من وجل القلوب ودمع العيون ، واقشعرار الجلود، وإنما حدث سماع الأبيات بعد هذه القرون، فأنكره الأئمة… .

[ طرق الملبسين في سؤال أهل العلم ]

وقول السائل وغيره : هل هو حلال ؟ أو حرام ؟ لفظ مجمل فيه تلبيس يشتبه الحكم فيه حتى لا يحسن كثير من المفتين تحرير الجواب فيه() وذلك أن الكلام في السماع و غيره من الأفعال على ضربين:
أحدهما: أنه هل هو محرم ؟ أو غير محّرم ؟ بل يفعل كما يفعل سائر الأفعال التي تلتذ بها النفوس، وإن كان فيها من اللهو واللعب كسماع الأعراس وغيرها مما يفعله الناس لقصد اللذة واللهو لا لقصد العبادة والتقرب إلى الله .
والنوع الثاني :أن يفعل على وجه الديانه والعبادة وصلاح القلوب وتجريد حب العبادة لربهم وتزكية نفوسهم وتطهير قلوبهم، وان تحرك من القلوب الخشيه والإنابة والحب ورقة القلوب وغير ذلك مما هو من جنس العبادات والطاعات، لا من جنس اللعب والملهيات.
فيجب الفرق بين سماع المتقربين، وسماع المتلعبين، وبين السماع الذي يفعله الناس في الأعراس والأفراح ونحو ذلك من العادات، وبين السماع الذي يفعله لصلاح القلوب، والتقرب إلى رب السماوات، فإن هذا يسأل عنه: هل هو قربة وطاعة ؟ وهل هو طرق إلى الله ؟ وهل لهم بد من أن يفعلوه لما فيه من رقة قلوبهم، ونحو ذلك من المقاصد التي تقصد بالسماع ؟ كما أن النصارى يفعلون مثل هذا السماع في كنائسهم على وجه العبادة والطاعة لا على وجه اللهو واللعب.

إذا عرف هذا، فحقيقة السؤال: هل يباح للشيخ أن يجعل هذه الأمور التي هي: إما محرمة أو مكروهة أو مباحة قربة وعبادة وطاعة وطريقة إلى الله يدعو بها إلى الله، ويتوب العاصين ويرشد به الغاوين ويهدي به الضالين ؟.
ومن المعلوم أن الدين له أصلان فلا دين إلاّ ما شرع الله، ولا حرام إلاّ ما حرمه الله،والله تعالى عاب على المشركين أنهم حرموا ما لم يحرمه الله ، وشرعوا دينا لم يأذن به الله.
ولو سئل العالم عمن يعدو بين جبلين(): هل يباح له ذلك ؟ قال : نعم. فإذا قيل: إنه على وجه العبادة كما يسعى بين الصفا والمروة ، قال : إن فعله على هذا الوجه حرام منكر، يستتاب فاعله فإن تاب وإلاّ قتل .
ولو سئل عن كشف الرأس ولبس الإزار والرداء ، أفتى بأن هذا جائز. فإن قيل: إنه يفعله على وجه الإحرام كما يحرم الحاج، قال : إن هذا حرام منكر.
ولو سئل عمن يقوم في الشمس، قال: هذا جائز، فإن قيل: إنه يفعله على وجه العبادة ! قال: هذا منكر، كما روى البخاري –رحمه الله – عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن رسول الله صلي الله عليه وسلم رأى رجلا قائما في الشمس، فقال: » من هذا « قالوا: (هذا أبو أسرائيل يريد أن يقوم في الشمس، ولا يقعد ولا يستظل، ولا يتكلم). فقالصلي الله عليه وسلم: » مروه فليتكلم، وليجلس، وليستظل، وليتم صوم «. فهذا لو فعله لراحة، أو غرض مباح لم ينه عنه، لكن لما فعله على وجه العبادة نهي عنه. وكذلك لو دخل الرجل إلى بيته من خلف البيت، لم يحرم عليه ذلك، ولكن إذا فعل ذلك على أنه عبادة، كما كانوا يفعلون في الجاهلية، كان أحدهم إذا أحرم لم يدخل تحت سقف، فنهوا عن ذلك كما قال تعالى: ﴿ وَلَيْـسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ﴾ [البقرة: 189] فبين سبحانه أن هذا ليس ببر، وإن لم يكن حراما، فمن فعله على وجه البر والتقرب إلى الله كان عاصيا، مذموما، مبتدعا، والبدعة أحب إلى إبليس من المعصية، لأن العاصي يعلم أنه عاص فيتوب، والمبتدع يحسب أن الذي يفعله طاعة فلا يتوب .
ولهذا من حضر السماع للعب واللهو لا يعده من صالح عمله ولا يرجوا به الثواب، وأما من فعله على أنه طريق إلى الله تعالى فإنه يتخذه دينا ، وإذا نهى عنه كمن نهى عن دينه، ورأى أنه قد انقطع عن الله وحرم نصيبه من الله تعالى إذا تركه، فهؤلاء ضلاّل باتفاق علماء المسلمين، ولا يقول أحد من أئمة المسلمين: إن اتخاذ هذا دينا وطريقا إلى الله تعالى أمر مباح، بل من جعل هذا دينا وطريقا إلى الله تعالى فهو ضال، مفتر، مخالف لإجماع المسلمين ومن نظر إلى ظاهر العمل وتكلم عليه، ولم ينظر إلى فعل العامل ونيته كان جاهلا متكلما في الدين بلا علم .

[ تصحيح سؤال السائل ]

فالسؤال عن مثل هذا أن يقال: هل ما يفـعله هؤلاء طريق وقربة وطاعة لله تعالى يحبها الله ورسوله أم لا ؟ وهل يتابعون على ذلك أم ؟ وإذا لم يكن هذا قربة وطاعة وعبادة لله ففعلوه على أنه قربة وطاعة وعبادة وطريق إلى الله تعالى هل يحل لهم هذا الاعتقاد ؟ وهذا العمل على هذا الوجه ؟
وإذا كان السؤال على هذا الوجه لم يكن للعالم المتتبع للرسول صلي الله عليه وسلمأن يقول : إن هذا من القرب والطاعات ، وأنه من أنواع العبادات ، وأنه من سبيل الله تعالى وطريقه الذي يدعو به هؤلاء إليه ، ولا أنه مما أمر الله تعالى به عباده : لا أمر إيجاب ، ولا أمر استحباب. ولم يكن من الواجبات والمستحبات فليس هو محمودا ، ولا حسنة ، ولا طاعة ولا عبادة باتفاق المسلمين.
فمن فعل ما ليس بواجب ولا مستحب على أنه من جنس الواجب أو المستحب فهو ضال مبتدع، وفعله على هذا الوجه حرام بلا ريب، لا سيما كثير من هؤلاء الذين يتخذون هذا السماع المحدث طريقا يقدمونه على سماع القرآن وجدا وذوقا، وربما قدموه عليه اعتقادا، فتجدهم يسمعون القرآن بقلوب لاهية، وألسن لاغية، وحركات مضطربه، وأصوات لا تقبل عليه قلوبهم، ولا ترتاح إليه نفوسهم، فإذا سمعوا المكاء والتصدية أصغت القلوب، واتصل المحبوب بالمحب، وخشعت الأصوات، وسكنت الحركات، فلا سعلة، ولا عطاس، ولا لغط، ولا صياح، وإن قرءوا شيئا من القرآن، أو سمعوه كان على وجه التكلف والسخرية، كما يسمع الإنسان ما لا حاجة له به، ولا فائدة له فيه، حتى إذا ما سمعوا مزمار الشيطان أحبوا ذلك، وأقبلوا عليه وعكفت أرواحهم عليه. ا.هـ بقليل من الاختصار.