الصحابة رضوان الله عليهم

الصحابة رضوان الله عليهم


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: الصحابة رضوان الله عليهم

  1. #1

    Post الصحابة رضوان الله عليهم







    خليفة رسول الله
    أبو بكر الصديق
    إنه الصديق أبو بكر -رضي الله عنه-، كان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة بن عثمان بن عامر فسماه رسول الله ( عبد الله، فهو عبد الله بن أبي قحافة، وأمه أم الخير سلمى بنت صخر.
    ولد في مكة بعد ميلاد النبي ( بسنتين ونصف، وكان رجلاً شريفًا عالمًا بأنساب قريش، وكان تاجرًا يتعامل مع الناس بالحسنى.
    وكان أبو بكر صديقًا حميمًا لرسول الله (، وبمجرد أن دعاه الرسول ( للإسلام أسرع بالدخول فيه، واعتنقه؛ لأنه يعلم مدى صدق النبي ( وأمانته، يقول النبي (:"ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة وتردد ونظر، إلا أبا بكر
    ما عكم (ما تردد) عنه حين ذكرته ولا تردد فيه"[ابن هشام].
    وجاهد أبو بكر مع النبي ( فاستحق بذلك ثناء الرسول ( عليه إذ يقول: "لو كنت متخذًا خليلا؛ لاتخذت أبا بكر، ولكن أخي وصاحبي" [البخاري].
    ومنذ أعلن أبو بكر الصديق إسلامه، وهو يجاهد في سبيل نشر الدعوة، فأسلم على يديه خمسة من العشرة المبشرين بالجنة وهم: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف-رضي الله عنه-.
    وكانت الدعوة إلى الإسلام في بدايتها سرية، فأحب أبو بكر أن تمتلئ الدنيا كلها بالنور الجديد، وأن يعل الرسول ( ذلك على الملأ من قريش، فألح أبو بكر على النبي ( في أن يذهب إلى الكعبة، ويخاطب جموع المشركين، فكان النبي ( يأمره بالصبر وبعد إلحاح من أبي بكر، وافق النبي (، فذهب أبو بكر عند الكعبة، وقام في الناس خطيبًا ليدعو المشركين إلى أن يستمعوا إلى رسول الله (، فكان أول خطيب يدعو إلى الله، وما إن قام ليتكلم، حتى هجم عليه المشركون من كل مكان، وأوجعوه ضربًا حتى كادوا أن يقتلوه، ولما أفاق -رضي الله عنه- أخذ يسأل عن رسول الله ( كي يطمئن عليه، فأخبروه أن رسول الله ( بخير والحمد لله، ففرح فرحًا شديدًا.
    وكان أبو بكر يدافع عن رسول الله ( بما يستطيع، فذات يوم بينما كان أبو بكر يجلس في بيته، إذ أسرع إليه رجل يقول له أدرك صاحبك. فأسرع -رضي الله عنه-؛ ليدرك رسول الله ( فوجده يصلي في الكعبة، وقد أقبل عليه عقبة بن أبي معيط، ولف حول عنقه ثوبًا، وظل يخنقه، فأسرع -رضي الله عنه- ودفع عقبة عن رسول الله ( وهو يقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟! فالتفت المشركون حوله وظلوا يضربونه حتى فقد وعيه، وبعد أن عاد إليه وعيه كانت أول جملة يقولها: ما فعل رسول الله؟
    وظل أبو بكر-رضي الله عنه-يجاهد مع النبي ( ويتحمل الإيذاء في سبيل نشر الإسلام، حتى أذن الرسول ( لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة، حتى إذا بلغ مكانًا يبعد عن مكة مسيرة خمس ليال لقيه ابن الدغنة أحد سادات مكة، فقال له: أين تريد يا أبا بكر ؟
    فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي. فقال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يُخرج، أنا لك جار (أي أحميك)، ارجع، واعبد ربك ببلدك، فرجع أبو بكر-رضي الله عنه- مع ابن الدغنة، فقال ابن الدغنة لقريش: إن أبا بكر لا يخرج مثله، ولا يخرج، فقالوا له: إذن مره أن يعبد ربه في داره ولا يؤذينا بذلك، ولا يعلنه، فإنا نخاف أن يفتن نساءنا وأبناءنا، ولبث أبو بكر يعبد ربه في داره.
    وفكر أبو بكر في أن يبني مسجدًا في فناء داره يصلي فيه ويقرأ القرآن، فلما فعل ذلك أخذت نساء المشركين وأبناؤهم يقبلون عليه، ويسمعونه، وهم معجبون بما يقرأ، وكان أبو بكر رقيق القلب، كثير البكاء عندما يقرأ القرآن، ففزع أهل مكة وخافوا، وأرسلوا إلى ابن الدغنة، فلما جاءهم قالوا: إنا كنا تركنا أبا بكر بجوارك، على أن يعبد ربه في داره، وقد جاوز ذلك فابتنى مسجدًا بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فإنهه، فليسمع كلامك أو يردَّ إليك جوارك.
    فذهب ابن الدغنة إلى أبي بكر وقال له: إما أن تعمل ما طلبت قريش أو أن تردَّ إليَّ جواري، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت رجلاً عقدت له (نقضت عهده)، فقال أبو بكر في ثقة ويقين: فإن أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله عز وجل.
    وتعرض أبو بكر مرات كثيرة للاضطهاد والإيذاء من المشركين، لكنه بقي على إيمانه وثباته، وظل مؤيدًا للدين بماله وبكل ما يملك، فأنفق معظم ماله حتى قيل: إنه كان يملك أربعين ألف درهم أنفقها كلها في سبيل الله، وكان -رضي الله عنه- يشتري العبيد المستضعفين من المسلمين ثم يعتقهم ويحررهم.
    وفي غزوة تبوك، حثَّ النبي ( على الصدقة والإنفاق، فحمل أبو بكر ماله كله وأعطاه للنبي (، فقال رسول الله ( له: "هل أبقيت لأهلك شيئًا؟" فقال: أبقيت لهم الله ورسوله، ثم جاء عمر -رضي الله عنه- بنصف ماله فقال له الرسول: "هل أبقيت لأهلك شيئًا؟" فقال نعم نصف مالي، وبلغ عمر ما صنع أبو بكر فقال "والله لا أسبقه إلى شيء أبدًا" [الترمذي].
    فقد كان رضي الله عنه يحب رسول الله حبًّا شديدًا، وكان الرسول ( يبادله الحب، وقد سئل النبي ( ذات يوم: أي الناس أحب إليك؟ فقال: "عائشة" فقيل له: من الرجال، قال: "أبوها" [البخاري]. وكان -رضي الله عنه- يقف على جبل أُحُد مع رسول الله ( ومعهما عمر، وعثمان-رضي الله عنهما-، فارتجف الجبل، فقال له الرسول (: "اسكن أحد، فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان" [البخاري].
    ولما وقعت حادثة الإسراء والمعراج، وأصبح النبي ( يحدث الناس بأنه قد أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السماء السابعة، قال المشركون: كيف هذا، ونحن نسير شهرًا حتى نصل إلى بيت المقدس؟! وأسرعوا إلى أبي بكر وقالوا له: إن صاحبك يزعم أنه أسري به إلى بيت المقدس! فقال أبو بكر: إن كان قال ذلك فقد صدق، إني أصدقه في خبر السماء يأتيه.
    فسماه الرسول ( منذ تلك اللحظة (الصِّدِّيق).[ابن هشام]، كذلك كان أبو بكر مناصرًا للرسول ومؤيدًا له حينما اعترض بعض المسلمين على صلح الحديبية.
    وحينما أذن الله تعالى لرسوله بالهجرة، اختاره الرسول ( ليكون رفيقه في هجرته، وظلا ثلاثة أيام في غار ثور، وحينما وقف المشركون أمام الغار، حزن أبو بكر وخاف على رسول الله (، وقال: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلي قدميه، لأبصرنا، فقال له الرسول (: "ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما"[البخاري].
    وشهد أبو بكر مع رسول الله ( جميع الغزوات، ولم يتخلف عن واحدة منها، وعرف الرسول ( فضله، فبشره بالجنة وكان يقول: "ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يدًا يكافئه الله بها يوم القيامة"[الترمذي].
    وكان أبو بكر شديد الحرص على تنفيذ أوامر الله، فقد سمع النبي ( ذات يوم يقول: من جرَّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة"، فقال أبو بكر: إن أحد شقي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال له النبي (: "إنك لست تصنع ذلك خيلاء" [البخاري]. وكان دائم الخوف من الله، فكان يقول: لو إن إحدى قدميّ في الجنة والأخرى خارجها ما آمنت مكر ربي (عذابه).
    ولما انتقل الرسول ( إلى الرفيق الأعلى، اجتمع الناس حول منزله بالمدينة لا يصدقون أن رسول الله ( قد مات، ووقف عمر يهدد من يقول بذلك ويتوعد، وهو لا يصدق أن رسول الله قد مات، فقدم أبو بكر، ودخل على رسول الله ( وكشف الغطاء عن وجهه الشريف، وهو يقول: طبت حيًّا وميتًا يا رسول الله وخرج -رضي الله عنه- إلى الناس المجتمعين، وقال لهم: أيها الناس، من كان منكم يعبد محمدًا ( فإن محمدًا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت، فإن الله تعالى قال: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) [آل عمران: 144].
    ويسرع كبار المسلمين إلى السقيفة، ينظرون فيمن يتولى أمرهم بعد رسول الله (، وبايع المسلمون أبا بكر بالخلافة بعد أن اقتنع كل المهاجرين والأنصار بأن أبا بكر هو أجدر الناس بالخلافة بعد رسول الله (، ولم لا؟ وقد ولاه الرسول ( أمر المسلمين في دينهم عندما مرض وثقل عليه المرض، فقال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" [متفق عليه].
    وبعد أن تولى أبو بكر الخلافة، وقف خطيبًا في الناس، فقال:
    "أيها الناس إن قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف منكم قوي عندي حتى أريح (أزيل) علته إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ منه الحق إن شاء الله، ولا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا يشيع قوم قط الفاحشة؛ إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله؛ فلا طاعة لي عليكم.
    وقد قاتل أبو بكر -رضي الله عنه- المرتدين ومانعي الزكاة، وقال فيهم: والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله ( لقاتلتهم عليه. وكان يوصي الجيوش ألا يقتلوا الشيخ الكبير، ولا الطفل الصغير، ولا النساء، ولا العابد في صومعة، ولا يحرقوا زرعًا ولا يقلعوا شجرًا.
    وأنفذ أبو بكر جيش أسامة بن زيد؛ ليقاتل الروم، وكان الرسول ( قد اختار أسامة قائدًا على الجيش رغم صغر سنه، وحينما لقى النبي ( ربه صمم أبو بكر على أن يسير الجيش كما أمر الرسول (، وخرج بنفسه يودع الجيش، وكان يسير على الأرض وبجواره أسامة يركب الفرس، فقال له أسامة: يا خليفة رسول الله، إما أن تركب أو أنزل. فقال: والله لا أركبن ولا تنزلن، ومالي لا أغبِّر قدمي في سبيل الله. وأرسل -رضي الله عنه- الجيوش لفتح بلاد الشام والعراق حتى يدخل الناس في دين الله.
    ومن أبرز أعماله-رضي الله عنه-أنه أمر بجمع القرآن الكريم وكتابته بعد استشهاد كثير من حفظته.
    وتوفي أبو بكر ليلة الثلاثاء الثاني والعشرين من جمادى الآخرة في السنة الثالثة عشرة من الهجرة، وعمره (63) سنة وغسلته زوجته أسماء بنت عميس حسب وصيته، ودفن إلى جوار الرسول (.
    وترك من الأولاد: عبد الله، وعبد الرحمن، ومحمد، وعائشة وأسماء، وأم كلثوم
    -رضي الله عنهم-. وروى عن رسول الله ( أكثر من مائة حديث.



    شهيد المحراب
    عمر بن الخطاب

    إنه الفاروق عمر بن الخطاب-رضي الله عنه، ولد بعد عام الفيل بثلاث سنوات، وكان من بيت عظيم من قريش، وكان قبل إسلامه من أشد الناس عداوة لرسول الله ( وأصحابه، وكان يرى أن محمدًا قد فرق بين الناس، وجاء بدين جديد، فبلغ من ضيقه وكرهه أنه حمل سيفه وتوجه إلى النبي ( يريد أن يقتله، وفي الطريق قابله رجل، فقال له: أين تريد يا عمر؟ قال: أريد أن أقتل محمدًا، قال الرجل: وكيف تأمن من بني هاشم وبني زهرة إذا قتلته؟ فقال عمر: ما أراك إلا قد صبأت وتركت دينك الذي كنت عليه. قال الرجل: أفلا أدلك على ما هو أعجب من ذلك؟ قال عمر: وما هو؟ قال: أختك وزوجها قد صبوا وتركا دينك الذي أنت عليه.
    فغضب عمر أشد الغضب، وغير وجهته؛ حيث اتجه إلى بيت أخته فاطمة ليرى صدق ما أخبر به، فلما أتاهما وكان عندهما خباب بن الأرت-رضي الله عنه-، فدفع عمر الباب وقد سمع أصواتهم وهم يقرءون القرآن، فقال مستنكرًا: ما هذه الهيمنة (الصوت غير المفهوم) التي سمعتها عندكم ؟ فقال سعيد بن زيد زوج أخته: حديثًا تحدثناه بيننا.
    قال عمر: فلعلكما قد صبوتما. فقال له سعيد: أرأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك؟ فوثب عمر عليه وأخذ يضربه، فجاءت أخت عمر فدفعت عمر عن زوجها فلطمها بيده، فسال الدم من وجهها، فقالت: يا عمر، إن كان الحق في غير دينك، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.
    فلما يئس عمر منهما قال: أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرأه، فقالت أخته: إنك نجس ولا يمسه إلا المطهرون، فاغتسل أو توضأ، وعلمته كيف يتوضأ، فقام عمر فتوضأ ثم أخذ الكتاب وقرأ الآيات الأولى من سورة طه، فقال عمر: دلوني على محمد.
    فلما سمع خباب قول عمر خرج من المخبأ، وهو يقول: أبشر يا عمر، فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله ( لك ليلة أمس: "اللهمَّ أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام" قد استجيبت، ثم خرج خباب مع عمر إلى دار الأرقم في جبل الصفا، حيث كان رسول الله ( وأصحابه.
    فلما اقتربا من الدار، وجدا على بابها حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- ومعه طلحة بن عبيد الله، وبعض الصحابة -رضي الله عنهم- فلما رآه حمزة قال لمن حوله: هذا عمر، فإن يرد الله بعمر خيرًا يسلم ويتبع النبي (، وإن يرد غير ذلك يكن قتله علينا هينا، ثم خرج رسول الله ( حتى أتى عمر، فأخذ بمجامع ثوبه وقال: ما أنت بمنته يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة.
    فقال عمر: أشهد أنك رسول الله، وشهد شهادة الحق، فكبر المسلمون تكبيرة سُمعت في طرق مكة.
    ثم قال عمر: يا رسول الله، علام نخفي ديننا ونحن على الحق، ويظهرون دينهم وهم على باطل.
    فقال رسول الله (: "يا عمر، إنا قليل، وقد رأيت ما لقينا"، فقال عمر: فوالذي بعثك بالحق، لا يبقى مجلس جلست فيه وأنا كافر إلا أظهرت فيه الإيمان.
    ثم خرج فطاف بالكعبة، ومرَّ على قريش وهم جالسون ينظرون إليه، فقال أبو جهل لعمر: يزعم فلان أنك صبوت؟ فقال عمر: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله. فهجم عليه بعض المشركين، فأخذ عمر يضربهم، فما يقترب منه أحد إلا وقد نال منه حتى أمسك عمر بعتبة بن ربيعة وضربه ضربًا مبرحًا، ثم ذهب عمر إلى الرسول ( وأخبره، وطلب منه أن يخرج معه ليعلنوا إسلامهم أمام مشركي مكة، فخرج النبي ( وأصحابه، فطافوا بالكعبة وصلوا الظهر، ولقب عمر منذ ذلك بالفاروق لأنه فرق بن الحق والباطل. [ابن سعد].
    وكان عمر -رضي الله عنه- مخلصًا في إسلامه، صادقًا مع ربه، شديد الحب لله ورسوله، فلزم النبي (، ولم يفارقه أبدًا، وكان هو والصديق يسيران مع النبي حيث سار، ويكونان معه حيث كان، حتى أصبحا بمكانة الوزيرين له، وكان ( يقول: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" [أحمد والترمذي وأبو داود]، ويقول: "لو كان بعدي نبي لكان عمر" [ابن عبد البر].
    وقد بشره رسول الله ( بالجنة، فهو أحد العشرة المبشرين بها، قال (:"دخلت الجنة، أو أتيت الجنة فأبصرت قصرًا، فقلت لمن هذا؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب، فأردت أن أدخله، فلم يمنعني إلا علمي بغيرتك"، قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله: بأبي أنت وأمي يا نبي الله، أو عليك أغار. [متفق عليه].
    ولما أذن رسول الله ( لأصحابه بالهجرة إلى المدينة، كانوا يهاجرون في السر خوفاً من قريش، وتواعد عمر بن الخطاب مع عباس بن أبي ربيعة المخزومي وهشام بن العاص على الهجرة، واتفقوا على أن يتقابلوا عند مكان بعيد عن مكة بستة أميال ومن يتخلف منهم فليهاجر الآخر، فتقابل عمر مع عباس عند المكان المحدد، أما هشام فقد أمسكه قومه وحبسوه.
    فهاجر عمر مع عباس إلى المدينة، فلما هاجر إليها رسول الله ( آخى بين المهاجرين والأنصار، فآخى بين عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك -رضي الله عنهما-.
    وتكون المجتمع الإسلامي في المدينة، وبدأت رحلة الجهاد في الإسلام، فرفع عمر لواء الحق وأمسك بسيفه ليناصر دين الله -عز وجل- وجاءت أول معركة للمسلمين مع المشركين غزوة بدر الكبرى، فأسر المسلمون عددا من المشركين، وشاور النبي ( أصحابه في أسرى بدر، فكان رأي عمر أن يقتلوا، وكان رأي الصديق أن يفتدوا، فاختار النبي ( أيسر الرأيين، ونزل على رأي أبي بكر.
    فنزل جبريل -عليه السلام- على النبي ( ليتلو عليه آيات القرآن مؤيدًا رأي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فقال تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد عرض الآخرة والله عزيز حكيم. لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) [الأنفال: 67-68]، فبكى رسول الله ( وبكى أبو بكر، فجاء عمر فسألهما عن سبب بكائهما فأخبراه.
    وشهد الفاروق عمر مع رسول الله ( جميع المشاهد والغزوات، يجاهد بسيفه في سبيل الله؛ ليعلي كلمة الحق. وفي غزوة أحد، وقف بجانبه ( يدافع عنه بعد أن انهزم المسلمون.
    ويلحق رسول الله ( بالرفيق الأعلى، فيبايع الفاروق أبا بكر الصديق، كما بايعه المهاجرون والأنصار، ويقف عمر بجانبه يشد من أزره، لا يكتم عن رأيا، ولا يبخل عنه بجهد في سبيل نصرة الحق ورفعة الدين، فيكون معه في حربه ضد المرتدين ومانعي الزكاة ومدعي النبوة، وفي أعظم الأمور وأجلها مثل جمع القرآن.
    ويوصي الخليفة الأول قبل موته بالخلافة إلى الفاروق عمر، ليضع على كاهله عبئًا ثقيلاً، يظل عمر يشتكي منه طوال حياته، ولكن من كان لهذا الأمر غير عمر، فإنه الفاروق، العابد، الزاهد، الإمام العادل.
    وحمل عمر أمانة الخلافة فكان مثالا للعدل والرحمة بين المسلمين، وكان سيفًا قاطعا لرقاب الخارجين على أمر الله تعالى، والمشركين، فكان رحيما وقت الرحمة، شديدًا وقت الشدة.
    فقد خرج مع مولاه وأسلم في ليلة مظلمة شديدة البرد يتفقد أحوال الناس، فلما كانا بمكان قرب المدينة، رأى عمر نارًا، فقال لمولاه: يا أسلم، ههنا ركب قد قصر بهم الليل، انطلق بنا إليهم فذهبا تجاه النار، فإذا بجوارها امرأة وصبيان، وإناء موضوع على النار، والصبيان يتصايحون من شدة الجوع، فاقترب منهم، وسألهم: ما بالكم؟ فقالت المرأة: قصر بنا الليل والبرد، قال: فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون (يصطرخون)؟! قالت: من الجوع، فقال: وأي شيء على النار؟ قالت: ما أعللهم به حتى يناموا، الله بيننا وبين عمر، فبكى ورجع إلى البيت فأحضر دقيقًا وسمنًا وقال: يا أسلم، احمله على ظهري. فقال أسلم: أنا أحمله عنك.
    فقال: أنت تحمل وزري يوم القيامة؟ فحمله على ظهره وانطلقا حتى أتيا المرأة، فألقى الحمل عن ظهره وأخرج من الدقيق، فوضعه في القدر، وألقى عليه السمن وجعل ينفخ تحت القدر والدخان يتخلل لحيته ساعة، حتى نضج الطعام، فأنزله من على النار، وقال: ائتني بصحفة، فأتى بها، فغرف فيها ثم جعلها أمام الصبيان، وقال: كلوا، فأكلوا حتى شبعوا، والمرأة تدعو له، فلم يزل عندهم حتى نام الصغار، ثم انصرف وهو يبكي، ويقول: يا أسلم، الجوع الذي أسهرهم وأبكاهم.
    وخرج الفاروق يومًا يتفقد أحوال رعيته فإذا امرأة تلد وتبكي، وزوجها لا يملك حيلة، فأسرع عمر -رضي الله عنه- إلى بيته، فقال لامرأته أم كلثوم بنت
    علي بن أبي طالب، هل لك في أجر ساقه الله إليك؟ ثم أخبرها الخبر، فقالت نعم. فحمل عمر على ظهره دقيقًا وشحمًا، وحملت أم كلثوم ما يصلح للولادة، وجاءا، فدخلت أم كلثوم على المرأة، وجلس عمر مع زوجها يحدثه، ويعد مع الطعام، فوضعت المرأة غلامًا، فقالت أم كلثوم: يا أمير المؤمنين بشر صاحبك بغلام.
    فلما سمع الرجل قولها استعظم ذلك، وأخذ يعتذر إلى عمر، فقال عمر: لا بأس عليك، ثم أعطاه ما ينفقون وانصرف.
    ويروى أنه رأى شيخًا من أهل الذمة يستطعم الناس، فسأل عمر عنه، فقيل له: هذا رجل من أهل الذمة كبر وضعف، فوضع عنه عمر الجزية، وقال: كلفتموه الجزية حتى إذا ضعف تركتموه يستطعم؟ ثم أجرى له من بيت المال عشرة دراهم.
    وفي خلافة الفاروق عمر اتسعت الدولة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، وكثرت الفتوح الإسلامية للبلاد، ففتح في عهده الشام والعراق وإيران وأذربيجان، ومصر وليبيا، وتسلم عمر مفاتيح المقدس، وكثر في عهده الأموال، وامتلأ بيت المال، فلم تشهد الدولة الإسلامية عهدًا أعظم من ذلك العهد وخلافة أفضل من تلك الخلافة.
    ورغم ذلك الثراء كان عمر يعيش زاهدًا، ممسكًا على نفسه وعلى أهله، موسعًا على عامة المسلمين وفقرائهم.
    فكان عمر لا يأكل إلا الخشن من الطعام، ولا يجمع بين إدامين (الإدامين: ما يأكل بالخبز) قط، ويلبس ثوبًا به أكثر من اثنتي عشر رقعة، لا يخاف أحدًا لعدله، فقد حكم، فعدل، فأمن فاطمأن فنام لا يخاف إلا الله عز وجل.
    وقد جعل عمر سيرة رسول الله ( وحياة الصديق -رضي الله عنه- نبراسًا أمامه يضيء له طريقه، ويسير على هداه لا يحيد عنه طرفة عين أو أقل من ذلك، وكان دائمًا يذكر نفسه ويذكر حوله بعظاته البالغة، فمن ذلك قوله الخالد: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم.
    وكان يقول: ويل لديَّان الأرض من ديَّان السماء يوم يلقونه، إلا من أمَّ (قصد) العدل، وقضى بالحق، ولم يقض بهواه ولا لقرابة، ولا لرغبة ولا لرهبة، وجعل كتاب الله مرآته بين عينيه.
    وكان عمر شديدًا على ولاته الأمراء، فكان يأمرهم بالعدل والرحمة بين الناس، ويحثهم على العلم، ولم يكن يولي الأمر إلا لمن يتوسم فيه الخير ويعرف عنه الصلاح والتقى، ودائمًا كان يتعهدهم ويعرف أخبارهم مع رعيتهم، فإن حاد أحدهم عن طريق الحق عزله وولى غيره، وعاتبه، وحاسبه على أفعاله.
    ويروى في ذلك أن رجلاً من أهل مصر أتى عمر -رضي الله عنه- فقال: يا أمير المؤمنين، عائذ بك من الظلم، قال عمر: عذت معاذًا، قال: قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط، ويقول: أنا ابن الأكرمين. فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم هو وابنه معه، فقال عمر: أين المصري؟
    فجاءه، فقال له: خذ السوط فاضربه، فجعل يضربه بالسوط، وعمر يقول: اضرب ابن الأكرمين، ثم قال عمر للمصري: ضع على صلعة عمرو، فقال المصري: يا أمير المؤمنين إنما ابنه الذي ضربني، وقد استقدت منه (أي اقتصصت منه).
    فنظر عمر إلى عمرو نظرة لوم وعتاب وقال له: منذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ فقال عمرو: يا أمير المؤمنين، لم أعلم، ولم يأتني.
    وعاش عمر -رضي الله عنه- يتمنى الشهادة في سبيل الله -عز وجل-، فقد صعد المنبر ذات يوم، فخطب قائلاً: إن في جنات عدن قصرًا له خمسمائة باب، على كل باب خمسة آلاف من الحور العين، لا يدخله لا نبي، ثم التفت إلى قبر رسول الله ( وقال: هنيئًا لك يا صاحب القبر، ثم قال: أو صديق، ثم التفت إلى قبر أبي بكر-رضي الله عنه-، وقال: هنيئًا لك يا أبا بكر، ثم قال: أو شهيد، وأقبل على نفسه يقول: وأنى لك الشهادة يا عمر؟! ثم قال: إن الذي أخرجني من مكة إلى المدينة قادر على أن يسوق إليَّ الشهادة.
    واستجاب الله دعوته، وحقق له ما كان يتمناه، فعندما خرج إلى صلاة الفجر يوم الأربعاء (26) من ذي الحجة سنة (23هـ) تربص به أبو لؤلؤة المجوسي، وهو في الصلاة وانتظر حتى سجد، ثم طعنه بخنجر كان معه، ثم طعن اثني عشر رجلا مات منهم ستة رجال، ثم طعن المجوسي نفسه فمات.
    وأوصى الفاروق أن يكمل الصلاة عبد الرحمن بن عوف وبعد الصلاة حمل المسلمون عمرًا إلى داره، وقبل أن يموت اختار ستة من الصحابة؛ ليكون أحدهم خليفة على أن لا يمر ثلاثة أيام إلا وقد اختاروا من بينهم خليفة للمسلمين، ثم مات الفاروق، ودفن إلى جانب الصديق أبي بكر، وفي رحاب قبر المصطفى (.



    ذو النورين
    عثمان بن عفان

    إنه الصحابي الجليل عثمان بن عفان-رضي الله عنه-، بشره النبي ( بالجنة، ووعده بالشهادة، ومات وهو راض عنه، وجهز جيش العسرة، وتزوج من ابنتي رسول الله (، وكان ثالث الخلفاء الراشدين، واستشهد وهو يقرأ القرآن الكريم.
    وقد ولد عثمان بعد ميلاد النبي ( بست سنوات في بيت شريف، فأبوه
    عفان بن العاص صاحب المجد والكرم في قومه. وكان عثمان -رضي الله عنه- من السابقين إلى الإسلام، فحين دعاه أبو بكر إلى الإيمان بالله وحده، لبى النداء، ونطق بشهادة الحق.
    ورغم ما كان يتمتع به عثمان -رضي الله عنه- من مكانة في قومه لا أنه تعرض للإيذاء من أجل إسلامه، وتحمل كثيرًا من الشدائد في سبيل دعوته، فقد أخذه عمه الحكم بن أبي العاص، وأوثقه برباط، وأقسم ألا يحله حتى يترك دينه، فقال له عثمان: والله لا أدعه أبدًا ولا أُفارقه. فلما رأى الحكم صلابته وتمسكه بدينه؛ تركه وشأنه.
    وكان عثمان من الذين هاجروا إلى الحبشة فارًا بدينه مع زوجته رقية بنت رسول الله (، ثم هاجر إلى المدينة، وواصل مساندته للنبي ( بكل ما يملك من نفس ومال.
    ولما خرج المسلمون إلى بدر لملاقاة المشركين تمنى عثمان -رضي الله عنه- أن يكون معهم، ولكن زوجته رقية بنت رسول الله ( مرضت، فأمره الرسول ( أن يبقى معها ليمرضها، وبعد أن انتصر المسلمون في المعركة أخذ رسول الله ( في توزيع الغنائم، فجعل لعثمان نصيبًا منها، ولكن زوجته رقية -رضي الله عنها- لم تعش طويلاً، فماتت في نفس السنة التي انتصر فيها المسلمون في غزوة بدر.
    وبعد وفاة رقية زوَّج الرسول ( عثمان بن عفان من ابنته الأخرى أم كلثوم، ليجتمع بذلك الفضل العظيم لعثمان بزواجه من ابنتي الرسول (، فلقب بذي النورين.
    ثم شهد عثمان-رضي الله عنه-مع النبي ( كثيرًا من المشاهد، وأرسله النبي ( إلى مكة حينما أرادوا أداء العمرة ليخبر قريشًا أن المسلمين جاءوا إلى مكة لأداء العمرة، وليس من أجل القتال، ولكن المشركين احتجزوا عثمان بعض الوقت، وترددت إشاعة أنهم قتلوه، فجمع النبي ( أصحابه، ودعاهم إلى بيعته على قتال المشركين، فسارع الصحابة بالبيعة، وعرفت تلك البيعة ببيعة الرضوان، وعاد عثمان -رضي الله عنه-، وكان صلح الحديبية.
    وفي المدينة رأى عثمان -رضي الله عنه- معاناة المسلمين من أجل الحصول على الماء في المدينة؛ حيث كانوا يشترون الماء من رجل يهودي يملك بئرًا تسمى رومة، فقال النبي (: "من يشتري بئر رومة فيجعل دلاءه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة" [الترمذي].
    فذهب عثمان-رضي الله عنه-إلى ذلك اليهودي وساومه على شرائها، فأبى أن يبيعها كلها، فاشترى نصفها باثني عشر ألف درهم، ثم خصص لنفسه يومًا ولليهودي يومًا آخر، فإذا كان يوم عثمان أخذ المسلمون من الماء ما يكفيهم يومين دون أن يدفعوا شيئًا، فلما رأى اليهود ذلك جاء إلى عثمان، وباع له النصف الآخر بثمانية آلاف درهم، وتبرع عثمان بالبئر كلها للمسلمين.
    وفي غزوة تبوك، حثَّ النبي ( المسلمين على الإنفاق لتجهيز الجيش الذي سمي بجيش العسرة لقلة المال والمؤن وبعد المسافة، وقال: "من جهز جيش العسرة فله الجنة" [الترمذي].
    فبعث عثمان إلى النبي ( عشرة آلاف دينار، فجعل النبي ( يقبلها ويدعو عثمان ويقول: "غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت، وما أخفيت وما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، وما يبالي عثمان ما عمل بعد هذا"
    [ابن عساكر والدارقطني].
    وتوفي النبي ( وهو راض عن عثمان؛ فقال: "لكل نبي رفيق ورفيقي (يعني في الجنة) عثمان" [الترمذي].
    وكان عثمان نعم العون لأبي بكر الصديق في خلافته، ومات وهو عنه راض، وكان كذلك مع عمر بن الخطاب حتى لقى عمر ربه، وقد اختاره عمر ضمن الذين رشحهم لتولي الخلافة من بعده، وبعد مشاورات بينهم تم اختياره ليكون الخليفة الثالث للمسلمين بعد عمر.
    وظل عثمان خليفة للمسلمين ما يقرب من اثنتي عشرة سنة فكان عادلاً في حكمه، رحيما بالناس، يحب رعيته ويحبونه، وكان يحرص على معرفة أخبارهم أولاً بأول.
    وعرف عثمان -رضي الله عنه- بالزهد والقناعة مع ما توفر من ثراء عظيم، ومال وفير، يقول عبد الملك بن شداد: رأيت عثمان بن عفان -رضي الله عنه- يوم الجمعة على المنبر وعليه إزار عدني (من عدن) غليظ، ثمنه أربعة دراهم أو خمسة دراهم.
    وقال الحسن: رأيت عثمان بن عفان-رضي الله عنه-يقيل (ينام وقت الظهيرة) في المسجد وهو يومئذ خليفة، وقد أثر الحصى بجنبه فنقول: هذا أمير المؤمنين! هذا أمير المؤمنين!
    وقال شرحبيل بن مسلم: كان عثمان -رضي الله عنه- يطعم الناس طعام الإمارة، وعندما يدخل بيته كان يأكل الخل والزيت.
    وكان رضي الله عنه يحث المسلمين على الجهاد، ويرغب فيه، قال يومًا وهو على المنبر: أيها الناس إني كتمتكم حديثًا سمعته من رسول الله ( كراهية تفرقكم عني، ثم بدا لي أن أحدثكموه ليختار امرؤ لنفسه ما بدا له، سمعت رسول الله ( يقول: "رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يومًا فيما سواه من المنازل" [النسائي].
    وواصل عثمان نشر الإسلام، ففتح الله على يديه كثيرًا من الأقاليم والبلدان، وتوسعت في عهده بلاد الإسلام، وامتدت في أنحاء كثيرة.
    ومن فضائله -رضي الله عنه- وحسناته العظيمة، أنه جمع الناس على مصحف واحد، بعد أن شاور صحابة الرسول ( في ذلك، فأتى بالمصحف الذي أمر أبو بكر -رضي الله عنه- زيد بن ثابت -رضي الله عنه- بجمعه، وكان عند السيدة حفصة أم المؤمنين -رضي الله عنها-، ثم أمر بكتابة عدة نسخ ، فبعث واحدًا لأهل الشام وآخر لأهل مصر، وأرسل نسخة إلى كل من البصرة واليمن.
    فكان لعمله هذا فائدة عظيمة حتى يومنا هذا، وسميت تلك النسخ التي كتبها بالمصاحف الأئمة، ثم قام بحرق ما يخالفها من المصاحف، وأعجب الصحابة بما فعل عثمان، فقال أبو هريرة -رضي الله عنه- : أصبت ووفقت، وقال
    علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- : لو لم يصنعه هو لصنعته.
    وكان عثمان بن عفان -رضي الله عنه- كثير العبادة، يداوم على قيام، وقد أخبر النبي ( أن عثمان سوف يقتل مظلومًا وأنه من الشهداء، فذات يوم، صعد النبي ( وأبو بكر وعمر وعثمان جبل أحد، فاهتز الجبل بهم، فقال له النبي: "اسكن أحد، فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان" [البخاري].
    وتحقق قول النبي الكريم ( وقتل عثمان -رضي الله عنه- ظلمًا، وهو يتلو آيات القرآن الكريم في يوم الجمعة (18) ذي الحجة سنة (35هـ).
    وصلى عليه الزبير بن العوام ودفن ليلة السبت، وكان عمره يومئذ (82) سنة، وقيل غير ذلك، فرضي الله عنه.



    الفدائي الأول
    علي بن أبي طالب

    إنه الصحابي الجليل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ابن عم رسول الله (، أبوه هو أبو طالب عبد مناف بن عبد المطلب، وأمه السيدة فاطمة بنت أسد بن هاشم -رضي الله عنها-.
    ولد علي -رضي الله عنه- قبل بعثة النبي ( بعشر سنين، وكان أصغر إخوته، وتربى في بيت النبي (، ولما نزل الوحي على رسول الله ( دعا عليّا إلى الإيمان بالله وحده، فأسرع -رضي الله عنه- بقبول الدعوة، ودخل في دين الله، فكان أول من أسلم من الصبيان.
    ولما رآه أبو طالب يصلي مع رسول الله ( قال له: أي بني، ما هذا الدين الذي أنت عليه؟ فقال علي: يا أبي، آمنت برسول الله، وصدقت بما جاء به، وصليت معه لله واتبعته، فقال أبو طالب: أما إنه لم يَدْعُك إلا لخير، فالزمه.
    وكان رسول الله ( يحب عليّا، ويثني عليه، فكان يقول له: "أنت مني وأنا منك" [البخاري]. وكان يقول له: "لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق" [مسلم].
    وعندما أراد الرسول ( الهجرة إلى المدينة، أمر علي بن أبي طالب أن ينام في فراشه، وفي ليلة الهجرة في جنح الظلام، تسلل مجموعة من كفار مكة، وفي يد كل واحد منهم سيف صارم حاد، وقفوا أمام باب بيت النبي ( ينتظرون خروجه لصلاة الفجر، ليضربوه ضربة رجل واحد، فأخبر الله نبيه ( بتلك المؤامرة، وأمره بالخروج من بينهم، فخرج النبي ( وقد أعمى الله أبصار المشركين، فألقى النبي ( التراب على رؤوسهم وهو يقرأ قول الله تعالى: (وجعلنا من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا فأغشيناهم فهم لا يبصرون). [يس: 9].
    ولما طلعت الشمس؛ استيقظ المشركون، وهجموا على البيت، ورفعوا سيوفهم، ليضربوا النائم، فإذا بهم لا يجدونه رسول الله، وإنما هو ابن عمه علي بن أبي طالب، الذي هب واقفًا في جرأة ساخرًا من المشركين، ومحقرًا لشأنهم.
    وظل عليٌّ في مكة ثلاثة أيام بعد هجرة رسول الله ( إلى المدينة لكي يرد الودائع، كما أمره رسول الله (، ولما هاجر وجد النبي ( قد آخى بين المهاجرين والأنصار، فقال: يا رسول الله، آخيت بين أصحابك، ولم تؤاخ بيني وبين أحد. فقال له رسول الله (: "أنت أخي في الدنيا والآخرة" [ابن عبد البر].
    وقد بشره رسول الله ( بالجنة، فكان أحد العشرة المبشرين بها، وقد زوجه رسول الله ( من ابنته فاطمة -رضي الله عنها-، وقدم عليٌّ لها مهرًا لسيدة نساء العالمين وريحانة الرسول (.
    وعاش علي -رضي الله عنه- مع زوجته فاطمة في أمان ووفاق ومحبة، ورزقه الله منها الحسن والحسين.
    وذات يوم ذهب رسول الله ( إلى دار علم فلم يجده، فسأل عنه زوجته فاطمة الزهراء: "أين ابن عمك"؟ فقالت: في المسجد، فذهب إليه الرسول ( هناك، فوجد رداءه قد سقط عن ظهره وأصابه التراب فجعل الرسول ( يمسح التراب عن ظهره، ويقول له: "اجلس يا أبا تراب..اجلس يا أبا تراب"[البخاري].
    وشهد علي مع النبي ( جميع الغزوات، وعرف بشجاعته وبطولته، وفي يوم خيبر قال النبي (: "لأعطين الراية غدًا رجلا يحبه الله ورسوله (أو قال: يحب الله ورسوله)، يفتح الله على يديه" [البخاري].
    فبات الصحابة كل منهم يتمنى أن يكون هو صاحب الراية، فلما أصبح الصباح، سأل النبي ( عن عليّ، فقيل له: إنه يشتكي عينيه يا رسول الله، قال: "فأرسلوا إليه، فأتوني به".
    فلما جاء له، بصق في عينيه، ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله، أقاتلتم حتى يكونوا مثلنا: "أنفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من أن يكون لك حمر النعم" [البخاري]. ففتح الله على يديه.
    ولما نزل قول الله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا) [الأحزاب: 32]، دعا الرسول ( فاطمة وعليًا والحسن والحسين-رضي الله عنهم-في بيت السيدة أم سلمة، وقال: "اللهمَّ إن هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا" [ابن عبد البر].
    وعرف علي -رضي الله عنه- بالعلم الواسع، فكانت السيدة عائشة -رضي الله عنها- إذا سئلت عن شيء قالت: اسألوا عليًّا وكان عمر كذلك.
    وكان عليٌّ يقول: سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم، وسلوني عن كتاب الله، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم بليل نزلت أم بنهار، أم في سهل أم في جبل.
    وكان أبو بكر وعمر في خلافتيهما بعد وفاة رسول الله ( يعرفان لعلي الفضل، وقد اختاره عمر ليكون من الستة أصحاب الشورى الذين يختار منهم الخليفة، ولما استشهد عثمان -رضي الله عنه- اختير عليّ ليكون الخليفة من بعده.
    ولما تولي عليّ الخلافة نقل مقرها من المدينة إلى العراق، وكان -رضي الله عنه-يحرص على شئون أمته فيسير بنفسه في الأسواق ومعه درعه (عصاه) ويأمر الناس بتقوى الله، وصدق الحديث، وحسن البيع، والوفاء بالكيل والميزان.
    وكان يوزع كل ما يدخل بيت المال من الأموال بين المسلمين، وقبل وفاته أمر بتوزيع كل المال، وبعد توزيعه أمر بكنس بيت المال، ثم قام فصلى فيه رجاء أن يشهد له يوم القيامة.
    وكان -رضي الله عنه- كثير العبادة، يقوم من الليل فيصلي ويطيل صلاته، ويقول مالي وللدنيا، يا دنيا غرِّي غيري.
    وقد جاءت إليه امرأتان تسألانه، إحداهما عربية والأخرى مولاة، فأمر لك واحدة منهما بكسر من طعام وأربعين درهمًا، فأخذت المولاة الذي أعطيت وذهبت، وقالت العربية: يا أمير المؤمنين، تعطيني مثل الذي أعطيت هذه وأنا عربية وهي مولاة؟ فقال لها علي -رضي الله عنه- : إني نظرت في كتاب الله -عز وجل- فلم أر فيه فضلاً لولد إسماعيل على ولد إسحاق -عليهما الصلاة والسلام-.
    وفي آخر خلافة علي -رضي الله عنه- كانت الفتنة قد كبرت، وسادت الفوضى أرجاء واسعة من الدولة الإسلامية، فخرج ثلاثة من شباب الخوارج، وتواعدوا على قتل من ظنوا أنهم السبب المباشر في تلك الفتن وهم علي، ومعاوية،
    وعمرو بن العاص، فأما معاوية وعمرو فقد نجيا، وأما عليٌّ فقد انتظره الفاسق عبد الرحمن بن ملجم، وهو خارج إلى صلاة الفجر، فتمكن منه، وأصابه في رأسه إصابة بالغة أشرف منها على الموت، وكان ذلك في سنة (40 هـ)، وعمره آنذاك (65) سنة.
    ودفن بالكوفة بعد أن ظل خليفة للمسلمين خمس سنين إلا أربعة أشهر، وروى عن رسول الله ( أكثر من أربعمائة حديث، فرضي الله عنه وأرضاه.



    أمين الأمة
    أبو عبيدة بن الجراح

    إنه الصحابي الجليل أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح -رضي الله عنه-، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وكان من أحب الناس إلى الرسول (، فقد سئلت عائشة -رضي الله عنها-: أي أصحاب رسول الله ( كان أحب إليه؟ قالت: أبو بكر. قيل: ثم من؟ قالت: عمر. قيل ثم من؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح.
    [الترمذي وابن ماجة]. وسماه رسول الله ( أمين الناس والأمة؛ حيث قال: "لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح" [البخاري].
    ولما جاء وفد نجران من اليمن إلى الرسول (، طلبوا منه أن يرسل معهم رجلا أمينا يعلمهم، فقال لهم: "لأبعثن معكم رجلا أمينا، حق أمين"، فتمنى كل واحد من الصحابة أن يكون هو، ولكن النبي ( اختار أبا عبيدة، فقال: "قم يا أبا عبيدة" [البخاري].
    وقد هاجر أبو عبيدة إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وفي المدينة آخى الرسول ( بينه وبين سعد بن معاذ -رضي الله عنهما-.
    ولم يتخلف أبو عبيدة عن غزوة غزاها النبي (، وكانت له مواقف عظيمة في البطولة والتضحية، ففي غزوة بدر رأى أبو عبيدة أباه في صفوف المشركين فابتعد عنه، بينما أصر أبوه على قتله، فلم يجد الابن مهربًا من التصدي لأبيه، وتقابل السيفان، فوقع الأب المشرك قتيلا، بيد ابنه الذي آثر حب الله ورسوله على حب أبيه، فنزل قوله تعالى: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم وأيديهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون) [المجادلة: 22].
    وفي غزوة أحد، نزع الحلقتين اللتين دخلتا من المغفر (غطاء الرأس من الحديد وله طرفان مدببان) في وجه النبي ( من ضربة أصابته، فانقلعت ثنيتاه، فحسن ثغره بذهابهما. [الحاكم وابن سعد].
    وكان أبو عبيدة على خبرة كبيرة بفنون الحرب، وحيل القتل لذا جعله الرسول ( قائدًا على كثير من السرايا، وقد حدث أن بعثه النبي ( أميرًا على سرية سيف البحر، وكانوا ثلاثمائة رجل فقل ما معهم من طعام، فكان نصيب الواحد منهم تمرة في اليوم ثم اتجهوا إلى البحر، فوجدوا الأمواج قد ألقت حوتًا عظيمًا، يقال له العنبر، فقال أبو عبيدة: ميتة، ثم قال: لا، نحن رسل رسول الله وفي سبيل الله، فكلوا، فأكلوا منه ثمانية عشر يومًا. [متفق عليه].
    وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لجلسائه يومًا: تمنوا. فقال أحدهم: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت دراهم، فأنفقها في سبيل الله. فقال: تمنوا. فقال آخر: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت ذهبًا، فأنفقه في سبيل الله. فقال عمر: لكني أتمنى أن يكون ملء هذا البيت رجالاً من أمثال أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وحذيفة بن اليمان، فأستعلمهم في طاعة الله. [البخاري].
    وكان عمر يعرف قدره، فجعله من الستة الذين استخلفهم، كي يختار منهم أمير المؤمنين بعد موته.
    وكان أبو عبيدة -رضي الله عنه- كثير العبادة يعيش حياة القناعة والزهد، وقد دخل عليه عمر -رضي الله عنه- وهو أمير على الشام، فلم يجد في بيته إلا سيفه وترسه ورحله، فقال له عمر: لو اتخذت متاعًا (أو قال: شيئًا) فقال أبو عبيدة:
    يا أمير المؤمنين، إن هذا سيبلِّغنا المقيل (سيكفينا). [عبد الرازق وأبو نعيم].
    وقد أرسل إليه عمر أربعمائة دينار مع غلامه، وقال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه- ثم انتظر في البيت ساعة حتى ترى ما يصنع، فذهب بها الغلام إليه، فقال لأبي عبيدة: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك. فقال أبو عبيدة: وصله الله ورحمه، ثم قال: تعالي يا جارية، اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفذها. [ابن سعد].
    وكان يقول: ألا رب مبيض لثيابه، مدنس لدينه، ألا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين! بادروا السيئات القديمات بالحسنات الحديثات. [أبو نعيم وابن عبد البر].
    وفي سنة (18) هـ أرسل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- جيشًا إلى الأردن بقيادة أبي عبيدة بن الجراح، ونزل الجيش في عمواس بالأردن، فانتشر بها مرض الطاعون أثناء وجود الجيش وعلم بذلك عمر، فكتب إلى أبي عبيدة يقول له: إنه قد عرضت لي حاجة، ولا غني بي عنك فيها، فعجل إلي.
    فلما قرأ أبو عبيدة الكتاب عرف أن أمير المؤمنين يريد إنقاذه من الطاعون، فتذكر قول النبي (: "الطاعون شهادة لكل مسلم" [متفق عليه]. فكتب إلى عمر يقول له: إني قد عرفت حاجتك فحللني من عزيمتك، فإني في جند من أجناد المسلمين، لا أرغب بنفسي عنهم. فلما قرأ عمر الكتاب، بكى، فقيل له: مات أبو عبيدة؟! قال: لا، وكأن قد (أي: وكأنه مات). [الحاكم].
    فكتب أمير المؤمنين إليه مرة ثانية يأمره بأن يخرج من عمواس إلى منطقة الجابية حتى لا يهلك الجيش كله، فذهب أبو عبيدة بالجيش حيث أمره أمير المؤمنين، ومرض بالطاعون، فأوصى بإمارة الجيش إلى معاذ بن جبل، ثم توفي -رضي الله عنه- وعمره (58) سنة، وصلى عليه معاذ بن جبل، ودفن ببيسان بالشام. وقد روي أبو عبيدة -رضي الله عنه- أربعة عشر حديثًا عن النبي (.



    أول الرماة في سبيل الله
    سعد بن أبي وقاص

    إنه الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-، أحد السابقين إلى الإسلام، وأحد العشرة المبشرين بالجنة.
    وكان سعد قد رأى وهو ابن سبع عشرة سنة في منامه أنه يغرق في بحر الظلمات، وبينما هو يتخبط فيها، إذ رأى قمرًا، فاتبعه، وقد سبقه إلى هذا القمر ثلاثة، هم: زيد بن حارثة، وعلي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق، ولما طلع الصباح سمع أن رسول الله ( يدعو إلى دين جديد؛ فعلم أن هذا هو القمر الذي رآه؛ فذهب على الفور؛ ليلحق بركب الساقين إلى الإسلام.
    وتظهر روعة ذلك البطل عندما حاولت أمه مرارًا أن ترده عن طريق الإيمان عبثًا، فباءت محاولاتها بالفشل أمام القلب العامر بالإيمان، فامتنعت عن الطعام والشراب، ورفضت أن تتناول شيئًا منه، حتى يرجع ولدها سعد عن دينه، ولكنه قال لها: أماه إنني أحبك، ولكن حبي لله ولرسوله أكبر من أي حب آخر.
    وأوشكت أمه على الهلاك، وأخذ الناس سعدًا ليراها عسى أن يرق قلبه، فيرجع عما في رأسه، فيقول لها سعد: يا أمه، تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا، ما تركت ديني فإن شئت كلي، وإن شئت لا تأكلي، وعندها أدركت الأم أن ابنها لن يرده عن دينه شيء؛ فرجعت عن عزمها، وأكلت، وشربت لينزل وحي الله -عز وجل- يبارك ما فعل سعد، قال تعالى: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا) [لقمان: 15].
    ولازم سعد -رضي الله عنه- رسول الله ( بمكة حتى أذن الله للمسلمين بالهجرة إلى المدينة المنورة، فهاجر مع المسلمين ليكون بجوار رسول الله ( في محاربة المشركين، ولينال شرف الجهاد في سبيل الله، وحسبه أنه أول من رمى بسهم في سبيل الله وأول من أراق دماء الكافرين، فقد بعث رسول الله ( سرية فيها
    سعد بن أبي وقاص إلى مكان في أرض الحجاز اسمه سابغ، وهو من جانب الجحفة، فانكفأ المشركون على المسلمين، فحماهم سعد يومئذ بسهامه، فكان أول قتال في الإسلام.
    ويوم أحد، وقف سعد يدافع عن رسول الله (، ويحارب المشركين، ويرميهم حتى نالته دعوة الرسول (، حين رآه فسر منه وقال: "يا سعد، ارم فداك أبي وأمي" [متفق عليه]، فكان سعد يقول: ما جمع رسول الله ( أبويه لأحد قبلي، وكانت ابنته عائشة بنت سعد تباهي بذلك وتفخر، وتقول: أنا ابنة المهاجر الذي فداه رسول الله ( يوم أحد بالأبوين.
    وذات يوم، مرض سعد، فأتاه رسول الله ( ليزوره، ويطمئن عليه؛ فتساءل سعد قائلاً: إن قد بلغ بي من الوجع، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ فقال له النبي (: لا، فقال سعد: بالشطر (نصفه)، قال النبي ( لا. ثم قال (: "الثلث، والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى ما تجعل في فيّ (فم) امرأتك" [متفق عليه]، وقد رزق الله سعدًا الأبناء، فكان له إبراهيم، وعامر، وعمر، ومحمد، وعائشة.
    وقد كان رسول الله ( يحب سعدًا، فعن جابر قال: كنا مع رسول الله (، إذ أقبل سعد، فقال (: "هذا خالي، فليرني امرؤ خاله" [الترمذي والطبراني وابن سعد].
    وكان سعد مستجاب الدعوة أيضًا، فقد دعا له النبي ( قائلا: "اللهم استجب لسعد إذا دعاك" [الترمذي].
    وعين سعد أميرًا على الكوفة، أثناء خلافة الفاروق عمر -رضي الله عنه- الذي كان يتابع ولاته ويتقصى أحوال رعيته، وفي يوم من الأيام اتجه عمر -رضي الله عنه- إلى الكوفة ليحقق في شكوى أهلها أن سعدًا يطيل الصلاة، فما مر عمر بمسجد إلا وأحسنوا فيه القول، إلا رجلا واحدًا قال غير ذلك، فكان مما افتراه على سعد: أنه لا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية، ولا يسير بالسرية -يخرج بالجيش- فدعا سعد عليه قائلاً: اللهم إن كان كاذبًا، فأعم بصره، وأطل عمره، وعرضه للفتن، فكان ذلك الرجل يمشي في الطريق، ويغمز الجواري، وقد سقط حاجباه من عينيه لما سئل عن ذلك قال: شيخ مفتون، أصابته دعوة سعد.
    وذات يوم سمع سعد رجلاً يسب عليّا وطلحة والزبير، فنهاه فلم ينته، فقال سعد للرجل: إذن أدعو عليك؛ فقال الرجل: أراك تتهددني كأنك نبي؛ فانصرف سعد، وتوضأ، وصلى ركعتين، رفع يديه، وقال: اللهم إن كنت تعلم أن هذا الرجل قد سب أقوامًا سبقت لهم منك الحسنى؛ وأنه قد أسخطك سبه إياهم؛ فاجعله آية وعبرة؛ فلم يمر غير وقت قصير حتى خرجت ناقة هوجاء من أحد البيوت، وهجمت على الرجل الذي سب الصحابة؛ فأخذته بين قوائمها، وما زالت تتخبط حتى مات.
    وحينما اشتد خطر الفرس على حدود الدولة الإسلامية أرسل إليهم الخليفة
    عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- جيشًا بقيادة سعد بن أبي وقاص، ليقابلهم سعد في معركة القادسية، واشتد حصار المسلمين على الفرس وأعوانهم، حتى قتل الكثير منهم، وعلى رأسهم القائد رستم، ودب الرعب في باقي جنود الفرس، فكان النصر العظيم للمسلمين يوم القادسية، ولم يكن لسعد هذا اليوم فقط في قتال الفرس، بل كان هناك يوم مجيد آخر للمسلمين تحت قيادته، في موقعة المدائن؛ حيث تجمع الفرس في محاولة أخيرة للتصدي لزحف المسلمين، وأدرك سعد أن الوقت في صالح الفرس، فقرر أن يهاجمهم فجأة، وكان نهر دجلة قد امتلأ عن آخره، في وقت الفيضان، فسبحت خيول المسلمين في النهر وعبرته إلى الضفة الأخرى لتقع المواجهة، ويحقق المسلمون نصرًا كبيرًا.
    وعندما طعن أبو لؤلؤة المجوسي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، اختار عمر ستة من المسلمين ليتم اختيار خليفة منهم، وأخبر عمر أن الرسول ( مات وهو عنهم راض، وكان من هؤلاء الستة سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-، حتى قال عمر: لو كنت مختارًا للخلافة واحدًا، لاخترت سعدًا، وقال لمن حوله: إن وليها سعد فذاك، وإن وليها غيره فليستعن بسعد، فكان عثمان بن عفان يستعين به في كل أموره.
    وحدثت الفتنة آخر أيام الإمام علي -رضي الله عنه- فكان سعد بعيدًا عنهم؛ واعتزلها، وأمر أهله وأولاده ألا ينقلوا إليه شيئًا من أخبارها.
    وعندما جاءه ابنه عامر يطلب منه أن يقاتل المتحاربين ويطلب الخلافة لنفسه، قال سعد في شفافية المسلم الصادق: أي بني، أفي الفتنة تأمرني أن أكون رأسًا؟ لا والله حتى أعطي سيفًا، إن ضربت به مسلمًا نبا عنه (أي لم يصبه بأذى)، وإن ضربت به كافرًا قتله، ولقد سمعت رسول الله ( يقول: "إن الله يحب الغني الخفي التقي" [أحمد ومسلم].
    وفي سنة (55هـ) أوصى سعد أهله أن يكفوه في ثوب قديم، كان عنده، وياله من ثوب يشرف به أعظم أهل الأرض، قال لهم: لقد لقيت المشركين فيه يوم بدر، ولقد ادخرته لهذا اليوم.
    وتوفي رحمة الله عليه بالعقيق، فحمل على الأعناق إلى المدينة، ودفن بها ليكون آخر من مات من العشرة المبشرين بالجنة وآخر من مات من المهاجرين -رضي الله عنهم-.



    الثري العفيف
    عبد الرحمن بن عوف

    إنه الصحابي الكريم عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-، ولد قبل عام الفيل بعشر سنين، وأسلم قبل أن يدخل الرسول ( دار الأرقم بن أبي الأرقم، وكان أحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر الصديق، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة الذين اختارهم عمر ليخلفوه في إمارة المؤمنين، وكان أغنى أغنياء الصحابة.
    أغمي عليه ذات يوم ثم أفاق، فقال لمن حوله: أَغُشي عليَّ؟ قالوا: نعم، قال: فإنه أتاني ملكان أو رجلان فيهما فظاظة وغلظة، فانطلقا بي، ثم أتاني رجلان أو ملكان هما أرق منهما، وأرحم فقالا: أين تريدان به؟ قالا: نحاكمه إلى العزيز الأمين. فقال: خليا عنه، فإنه ممن كتبت له السعادة وهو في بطن أمه.
    [الحاكم].
    هاجر إلى الحبشة مرتين، وآخى رسول الله ( بينه وبين سعد بن الربيع، فقال له سعد: أخي، أنا أكثر أهل المدينة مالا، فانظر شطر (نصف) مالي فخذه، ولي امرأتان، فانظر أيتهما أعجب إليك حتى أطلقها لك، فقال عبد الرحمن بن عوف: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق. فدلوه على السوق، فاشترى، وباع، فربح كثيرًا.
    وكان -رضي الله عنه- فارسًا شجاعًا، ومجاهدًا قويًّا، شهد بدرًا وأحدًا والغزوات كلها مع رسول الله (، وقاتل يوم أحد حتى جرح واحدًا وعشرين جرحا، وأصيبت رجله فكان يعرج عليها.
    بعثه رسول الله ( إلى دومة الجندل، وعممه بيده الشريفة وسدلها بين كتفيه، وقال له: "إذا فتح الله عليك فتزوج ابنة شريفهم". فقدم عبد الرحمن دومة الجندل فدعاهم إلى الإسلام فرفضوا ثلاثًا، ثم أسلم الأصبع بن ثعلبة الكلبي، وكان شريفهم فتزوج عبد الرحمن ابنته تماضر بنت الأصبع، فولدت له أبا سلمة ابن عبد الرحمن. [ابن هشام]
    وكان رسول الله ( يدعو له، ويقول: "اللهم اسق عبد الرحمن بن عوف من سلسبيل الجنة" [أحمد].
    وكان -رضي الله عنه- تاجرًا ناجحًا، كثير المال، وكان عامة ماله من التجارة، وعرف بكثرة الإنفاق في سبيل الله، أعتق في يوم واحد ثلاثين عبدًا، وتصدق بنصف ماله على عهد الرسول (.
    وأوصى بخمسين ألف دينار في سبيل الله، وأوصى لمن بقي من أهل بدر لكل رجل أربعمائة دينار، وكانوا مائة فأخذوها، وأوصى بألف فرس في سبيل الله.
    وكان ( يخاف على عبد الرحمن بن عوف من كثرة ماله، وكان يقول له:
    "يا بن عوف، إنك من الأغنياء، ولن تدخل الجنة إلا زحفًا، فأقرض الله يطلق لك قدميك"، فقال عبد الرحمن: فما أقرض يا رسول الله؟ فأرسل إليه رسول الله ( فقال: "أتاني جبريل، فقال لي: مره فليضف الضيف، وليعط في النائبة والمصيبة، وليطعم المسكين" [الحاكم]، فكان عبد الرحمن يفعل ذلك.
    وبرغم ما كان فيه ابن عوف -رضي الله عنه- من الثراء والنعم، فقد كان شديد الإيمان، محبا للخير، غير مقبل على الدنيا.
    وذات يوم أتى بطعام ليفطر، وكان صائمًا فقال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، فكفن في بردته، إن غطى رأسه بدت (ظهرت) رجلاه، وإن غطى رجلاه بدا رأسه، ثم قال: وقتل حمزة، وهو خير مني، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، وأعطينا منها ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.
    وذات يوم، أحضر عبد الرحمن لبعض إخوانه طعامًا من خبز ولحم، ولما وضعت القصعة بكى عبد الرحمن، فقالوا له: ما يبكيك يا أبا محمد؟ فقال: مات رسول الله ( ولم يشبع هو وأهل بيته من خبز الشعير، ولا أرانا أخرنا لما هو خير لنا.
    ولما تولى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الخلافة سنة (13 هـ)، بعث عبد الرحمن بن عوف على الحج، فحج بالناس، ولما طعن عمر -رضي الله عنه-، اختار ستة من الصحابة ليختاروا من بينهم الخليفة، وكان عبد الرحمن بن عوف أحد هؤلاء الستة وكان ذا رأي صائب، ومشورة عاقلة راشدة، فلما اجتمع الستة قال لهم: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة نفر فتنازل كل من الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص فبقي أمر الخلافة بين عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب فقال عبد الرحمن: أيكم يتبرأ من الأمر ويجعل الأمر إلي، ولكن الله على أن لا آلو (أقصر) عن أفضلكم وأخيركم للمسلمين.
    فقالوا: نعم. ثم اختار عبد الرحمن عثمان بن عفان للخلافة وبايعه فبايعه علي وسائر المسلمين.
    وتوفي عبد الرحمن -رضي الله عنه- سنة (31هـ)، وقيل (32هـ) في خلافة عثمان بن عفان، ودفن بالبقيع.



    مستجاب الدعوة
    سعيد بن زيد

    إنه سعيد بن زيد -رضي الله عنه- أحد العشرة المبشرين بالجنة، وقد نشأ سعيد في بيت لم يكن الإيمان غريبًا على أهله، فأبوه زيد بن عمرو بن نفيل الذي ترك عبادة الأصنام، وأسرع إلى عبادة الله على دين إبراهيم، وكن يسند رأسه على الكعبة، ويقول: يا معشر قريش، والله ما فيكم أحد على دين إبراهيم غيري.
    [ابن هشام].
    فنشأ سعيد منذ صغره مثل أبيه سليم الفطرة، وما إن سمع بالإسلام حتى أسرع بالدخول فيه، وكان ذلك قبل دخول النبي ( دار الأرقم بن أبي الأرقم، وأسلمت معه زوجته فاطمة بنت الخطاب، وقد تحمل زيد وزوجته الكثير من الإيذاء في سبيل الله، وكانا سببًا في إسلام عمر بن الخطاب، حين هجم عليهما في البيت وهما يقرآن القرآن مع خباب بن الأرت، فأخذ منهما الصحيفة، وقرأ ما فيها، فشرح الله صدره، وأعلن إسلامه.
    وهاجر سعيد إلى الحبشة، ثم هاجر إلى المدينة وآخى الرسول ( بينه وبين أبي بن كعب -رضي الله عنهما-.
    وبعثه الرسول ( مع طلحة بن عبيد الله؛ ليتحسَّسا أخبار عير قريش التي رجعت من التجارة، وفي أثناء قيامهما بهذه المهمة حدثت غزوة بدر التي انتصر فيها المسلمون، ورجع سعيد وطلحة فأعطاهما الرسول ( نصيبهما من الغنائم. وعرف سعيد بالشجاعة والقوة، واشترك في الغزوات كلها.
    وكان -رضي الله عنه- مستجاب الدعوة، فقد روي أن أروى بنت أويس ادعت كذبًا أنه أخذ منها أرضًا، وذهبت إلى مروان بن الحكم والى المدينة آنذاك، واشتكت له، فأرسل مروان إلى سعيد، وقال له: إن هذه المرأة تدعى أنك أخذت أرضًا، فقال سعيد: كيف أظلمها وقد سمعت رسول الله ( يقول: "من ظلم قيد شبر طوقه من سبع أراضين" [متفق عليه]، فقال مروان: إذن فعليك باليمين، فقال سعيد: اللهم إن كانت كاذبة فلا تمتها حتى تعمي بصرها، وتجعل قبرها في بئر، ثم ترك لها الأرض التي زعمت أنها ملكها.
    وبعد زمن قليل، عميت أروى فكانت تقودها جارية لها، وفي ليلة قامت ولم توقظ الجارية، وأخذت تمشي في الدار فوقعت في بئر كانت في دارها، فماتت فأصبحت هذه البئر قبرها.
    وكان سعيد مطاعًا بين الناس، يحبهم ويحبونه، وحينما حدثت الفتنة بين المسلمين، لم يشارك فيها، وبقي مداومًا على طاعة الله وعبادته حتى توفي سنة (51هـ) أو (52هـ) ودفن بالمدينة المنورة.





    حواري الرسول
    الزبير بن العوام

    إنه الزبير بن العوام -رضي الله عنه- الذي يتلقى في نسبه مع النبي (، فأمه صفية بنت عبد المطلب عمة الرسول (، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وهو أحد الستة أهل الشورى الذين اختارهم عمر؛ ليكون منهم الخليفة بعد موته، وزوج أسماء بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-.
    وقد أسلم الزبـير مبكرًا، فكان واحدًا من السبعة الأوائل الذين سارعوا إلى الإسلام، ولما علم عمه نوفل بن خويلد بإسلامه غضب غضبًا شديدًا، وتولى تعذيبه بنفسه، فكان يلفُّه في حصير، ويدخن عليه بالنار، ويقول له: اكفر برب محمد، أدرأ (أكف) عنك هذا العذاب. فيرد عليه الزبير قائلاً: لا، والله لا أعود للكفر أبدًا. [الطبراني وأبو نعيم].
    وسمع الزبير يومًا إشاعة كاذبة تقول: إن محمدًا ( قد قتل، فخرج إلى شوارع مكة شاهرًا سيفه، يشق صفوف الناس، وراح يتأكد من هذه الشائعة معتزمًا إن كان الخبر صحيحًا أن يقتل من قتل رسول الله (، فلقي النبي ( بشمال مكة، فقال له النبي ( "مالك؟" فقال: أخبرت أنك أخذت (قُتلت). فقال له النبي ( "فكنت صانعًا ماذا؟" فقال: كنت أضرب به من أخذك. ففرح النبي ( لما سمع هذا، ودعا له بالخير ولسيفه بالنصر.[أبو نعيم]. فكان -رضي الله عنه- أول من سل سيفه في سبيل الله.
    وقد هاجر الزبير إلى الحبشة مع من هاجر من المسلمين، وبقي بها حتى أذن لهم الرسول ( بالعودة إلى المدينة.
    وقد شهد مع رسول الله ( الغزوات كلها، وفي غزوة أحد بعد أن عاد جيش قريش إلى مكة أرسل الرسول ( سبعين رجلا من المسلمين في أثرهم، كان منهم أبو بكر والزبير. [البخاري].
    ويوم اليرموك، ظل الزبير -رضي الله عنه- يقاتل جيش الروم وكاد جيش المسلمين أن يتقهقر، فصاح فيهم مكبرًا: الله أكبر. ثم اخترق صفوف العدو ضاربًا بسيفه يمينًا ويسارًا، يقول عنه عروة: كان في الزبير ثلاث ضربات بالسيف، كنت أدخل أصابعي فيها، ثنتين (اثنتين) يوم بدر، وواحدة يوم اليرموك.
    وقال عنه أحد الصحابة: صحبت الزبير بن العوام في بعض أسفاره، ورأيت جسده، فقلت له: والله لقد شهدت بجسمك لم أره بأحد قط، فقال لي: أما والله ما فيها جراحة إلا مع رسول الله (، وفي سبيل الله. وقيل عنه: إنه ما ولى إمارة قط، ولا جباية، ولا خراجا، ولا شيئًا إلا أن يكون في غزوة مع النبي ( أو مع أبي بكر أو عمر أو عثمان.
    وحين طال حصار بني قريظة دون أن يستسلموا أرسله رسول الله ( مع
    علي بن أبي طالب، فوقفا أمام الحصن يرددان قولهما: والله لنذوقن ما ذاق حمزة، أو لنفتحن عليهم الحصن.
    وقال عنه النبي (: "إن لكل نبي حواريًا وحواري الزبير" [متفق عليه]. وكان يتفاخر بأن النبي ( قال له يوم أحد، ويوم قريظة: "ارم فداك أبي وأمي".
    وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها لعروة بن الزبير: كان أبواك من الذين استجابوا لله وللرسول من بعدما أصابهم القرح (تريد أبا بكر والزبير)
    [ابن ماجة].
    وكان الزبير بن العوام من أجود الناس وأكرمهم، ينفق كل أموال تجارته في سبيل الله، يقول عنه كعب: كان للزبير ألف مملوك يؤدون إليه الخراج، فما كان يدخل بيته منها درهمًا واحدًا (يعني أنه يتصدق بها كلها)، لقد تصدق بماله كله حتى مات مديونًا، ووصى ابنه عبد الله بقضاء دينه، وقال له: إذا أعجزك دين، فاستعن بمولاي. فسأله عبد الله: أي مولى تقصد؟ فأجابه: الله، نعم المولى ونعم النصير. يقول عبد الله فيما بعد: فوالله ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت: يا مولى الزبير اقض دينه فيقضيه. [البخاري].
    وعلى الرغم من طول صحبته للنبي ( فإنه لم يرو عنه إلا أحاديث قليلة، وقد سأله ابنه عبد الله عن سبب ذلك، فقال: لقد علمت ما كان بيني وبين رسول الله ( من الرحم والقرابة إلا أني سمعته يقول: "من كذب عليَّ متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار" [البخاري]. فكان -رضي الله عنه -يخاف أن يتحدث عن رسول الله ( بشيء لم يقله، فيزل بذلك في النار.
    وخرج الزبير من معركة الجمل، فتعقبه رجل من بني تميم يسمى عمرو بن جرموز وقتله غدرًا بمكان يسمى وادي السباع، وذهب القاتل إلى الإمام عليّ يظن أنه يحمل إليه بشرى، فصاح عليٌّ حين علم بذلك قائلاً لخادمه: بشر قاتل ابن صفية بالنار. حدثني رسول الله ( أن قاتل الزبير في النار. [أحمد وابن حبان والحاكم والطبراني].
    ومات الزبير -رضي الله عنه- يوم الخميس من شهر جمادى الأولى سنة (36هـ)، وكان عمره يوم قتل (67 هـ) سنة وقيل (66) سنة.


    شهيد يمشي على الأرض
    طلحة بن عبيد الله

    إنه الصحابي الجليل طلحة بن عبيد الله، قال عنه الرسول (: "من أراد أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض؛ فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله" [الترمذي].
    وهو أحد العشرة الذين بشرهم الرسول ( بالجنة، وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الستة الذين اختارهم عمر بن الخطاب ليكون منهم خليفة المسلمين.
    وكان طلحة قد سافر إلى أرض بصرى بالشام في تجارة له، وبينما هو في السوق سمع راهبًا في صومعته يقول: سلوا أهل هذا الموسم أفيهم أحد من أهل الحرم؟ فذهب إليه طلحة، وقال له: نعم أنا، فقال الراهب: هل ظهر أحمد؟ قال طلحة: من أحمد؟ قال الراهب: ابن عبد الله بن عبد المطلب، هذا شهره الذي يخرج فيه، وهو آخر الأنبياء، ومخرجه من الحرم، ومهاجره إلى نخل وحرة ويباخ (يقصد المدينة المنورة)، فإياك أن تسبق إليه.
    فوقع كلام الراهب في قلب طلحة، ورجع سريعًا إلى مكة وسأل أهلها: هل كان من حدث؟ قالوا نعم، محمد الأمين تنبأ، وقد تبعه ابن أبي قحافة، فذهب طلحة إلى أبي بكر، وأسلم على يده، وأخبره بقصة الراهب.[ابن سعد]، فكان من السابقين إلى الإسلام، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر.
    ورغم ما كان لطلحة من ثراء ومال كثير ومكانة في قريش فقد تعرض لأذى المشركين واضطهادهم مما جعله يهاجر المدينة حين أذن النبي ( للمسلمين بالهجرة، وجاءت غزوة لكنه لم يشهدها، وقيل إن الرسول ( أرسله في مهمة خارج المدينة وحينما عاد ووجد المسلمين قد عادوا من غزوة بدر، حزن طلحة حزنًا شديدًا لما فاته من الأجر والثواب، لكن الرسول ( أخبره أن له من الأجر مثل من جاهد في المعركة، وأعطاه النبي ( سهمًا ونصيبًا من الغنائم مثل المقاتلين تمامًا.
    ثم شهد طلحة غزوة أحد وما بعدها من الغزوات، وكان يوم أحد يومًا مشهودًا، أبلى فيه طلحة بلاء حسنًا حتى قال عنه النبي (: "طلحة شهيد يمشي على وجه الأرض" [ابن عساكر].
    وحينما نزل قول الله تعالى: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) [الأحزاب: 23]، قال النبي (: "طلحة ممن قضى نحبه" [الترمذي].
    وحينما حدث اضطراب في صفوف المسلمين، وتجمع المشركون حول رسول الله ( كل منهم يريد قتله، وكل منهم يوجه السيوف والسهام والرماح تجاه الرسول ( إذا بطلحة البطل الشجاع يشق صفوف المشركين حتى وصل إلى رسول الله (، وجعل من نفسه حصنًا منيعًا للنبي (، وقد أحزنه ما حدث لرسول الله ( من كسر رباعيته (أي مقدمة أسنانه)، وشج رأسه، فكان يتحمل بجسمه السهام عن رسول الله، ويتقي النبل عنه بيده حتى شلت يده، وشج رأسه، وحمل رسول الله ( على ظهره حتى صعد على صخرة، وأتاه أبو بكر وأبو عبيدة، فقال لهما الرسول: اليوم أوجب طلحة يا أبا بكر"، ثم قال لهما: "عليكما صاحبكما"، فأتيا إلى طلحة فوجداه في حفرة، وبه بضع وسبعون طعنة ورمية وضربة، وقد قطعت إصبعه" [ابن سعد].
    وكان أبو بكر الصديق إذا ذكر يوم أحد قال: ذاك يوم كله لطلحة، وقد بشره الرسول ( بالجنة.
    وقد بلغ طلحة مبلغًا عظيمًا في الجود والكرم حتى سمى بطلحة الخير، وطلحة الجواد، وطلحة الفياض، ويحكى أن طلحة اشترى بئر ماء في غزوة ذي قرد، ثم تصدق بها، فقال رسول الله (: "أنت طلحة الفياض" [الطبراني]، ومن يومها قيل له طلحة الفياض.
    وقد أتاه مال من حضرموت بلغ سبعمائة ألف، فبات ليلته يتململ، فقالت له زوجته: مالك؟ فقال: تفكرت منذ الليلة، فقلت: ما ظن رجل بربه يبيت وهذا المال في بيته، فأشارت عليه أن يقسم هذا المال على أصحابه وإخوانه، فسرَّ من رأيها وأعجب به، وفي الصباح، قسم كل ما عنده بين المهاجرين والأنصار، وهكذا عاش حياته كلها كريمًا سخيًّا شجاعًا.
    واشترك في باقي الغزوات مع النبي ( ومع أبي بكر وعمر وعثمان، وحزن حزنًا شديدًا حينما رأى مقتل عثمان بن عفان رضي الله واستشهاده، واشترك في موقعة الجمل مطالبًا بدم عثمان وبالقصاص ممن قتله، وعلم أن الحق في جانب علي، فترك قتاله وانسحب من ساحة المعركة وفي أثناء ذلك أصيب بسم فمات.
    وقد روي عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: والله إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير ممن قال الله تعالى: (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانًا على سرر متقابلين) [الحجر: 47].
    وتزوج طلحة -رضي الله عنه- أربع نسوة، كل واحدة منهن أخت لزوجة من زوجات النبي (، وهن: أم كلثوم بنت أبي بكر، أخت عائشة، وحمنة بنت جحش أخت زينب، والفارعة بنت أبي سفيان أخت أم حبيبة، ورقية بنت أبي أمية أخت أم سلمة.
    وقد ترك طلحة تسعة أولاد ذكور وبنتًا واحدة، وروي عن النبي ( أكثر من ثلاثين حديثًا.


    حب رسول الله
    زيد بن حارثة

    حِب رسول الله ( زيد بن حارثة إنه زيد بن حارثة -رضي الله عنه-، وكان يسمى قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن محمد، وكانت أمه سعدى بنت ثعلبة قد أخذته معها، وهو ابن ثمان سنوات، لزيارة أهلها في بني مَعْن، ومكثت سُعدى في قومها ما شاء الله لها أن تمكث، وفوجئ أهل معن بإحدى القبائل المعادية تهجم عليهم، وتنزل الهزيمة بهم، وتأخذ من بين الأسرى زيدًا. وعادت الأم إلى زوجها وحيدة، فلم يكد يعرف حارثة الخبر حتى سقط مغشيًا عليه، وحمل عصاه فوق ظهره، ومضى يجوب الديار، ويقطع الصحارى، يسأل القبائل والقوافل عن ابنه وقرة عينه، حتى جاء موسم الحج والتجارة، فالتقى رجال من قبيلة حارثة بزيد في مكة، ونقلوا له لوعة أبويه، فقص عليهم زيد حكايته، وكيف هاجم بنو القَيْن قبيلة أمه واختطفوه، ثم باعوه في سوق عكاظ لرجل من قريش اسمه حكيم بن حزام بن خويلد، فأعطاه لعمته خديجة بنت خويلد التي وهبته لزوجها محمد بن عبد الله، فقبله وأعتقه، ثم قال زيد للحجاج من قومه: أخبروا أبي أني هنا مع أكرم والد. فلما عاد القوم أخبروا أباه، ولم يكد حارثة يعلم مكان ابنه حتى خرج هو وأخوه إلى مكة فسألا عن محمد بن عبد الله، فقيل لهما: إنه في الكعبة -وكان النبي ( لم يبعث بعد- فدخلا عليه فقالا: يا ابن عبد المطلب، يا ابن سيد قومه، أنتم أهل حرم الله وجيرانه، تفكون العاني، وتطعمون الأسير، جئناك في ولدنا، فامنن علينا، وأحسن في فدائه، فترك النبي ( لزيد حرية الاختيار، فقال لهما: (ادعوا زيدًا، خيروه، فإن اختاركم فهو لكم بغير فداء، وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني فداء). ففرح حارثة، وقال للنبي (: لقد أنصفتنا، وزدتنا، وأحسنت إلينا، فلما جاء زيد سأله النبي (: (أتعرف هؤلاء؟) قال زيد: نعم: هذا أبي، وهذا عمي، فقال الرسول ( لزيد: (فأنا مَنْ قد علمت ورأيت، صحبتي لك، فاخترني أو اخترهما)، فقال زيد: ما أنا بالذي أختار عليك أحدًا، أنت مني مكان الأب والعم. فدهش أبوه وعمه وقالا: ويحك يا زيد أتختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟! فقال زيد: نعم، قد رأيت من هذا الرجل شيئًا ما أنا بالذي أختار عليه أحدًا أبدًا. فلما رأى الرسول ( ذلك فرح فرحًا شديدًا، ودمعت عيناه، وأخذ زيدًا وخرج إلى حجر الكعبة حيث قريش مجتمعة، ونادى: (يا من حضر، اشهدوا أن زيدًا ابني يرثني وأرثه) [ابن حجر]. فلما رأى أبوه وعمه ذلك طابت نفساهما. وصار زيد لا يُعْرف في مكة كلها إلا بزيد بن محمد، فلما جاء الإسلام أسلم زيد، وكان ثاني المسلمين، وأحبه الرسول ( حبًّا عظيمًا. ولما أذن الرسول ( لأصحابه بالهجرة هاجر زيد إلى المدينة، وآخى الرسول ( بينه وبين أسيد بن حضير، وظل زيد يدعى زيد ابن محمد حتى نزل قوله تعالى: {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله} _[الأحزاب: 5]، فسمى زيد بن حارثة، وزوجه الرسول ( مولاته أم أيمن، فأنجبت له أسامة بن زيد، ثم زوجه ( ابنة عمته زينب بنت جحش، ولكن لم تطب الحياة بينهما، فذهب زيد إلى الرسول ( يشكوها، فأخبره النبي ( أن يمسك عليه زوجه، ويصبر عليها. ولكن الله سبحانه أمر رسوله ( أن يطلق زينب من زيد، ويتزوجها هو، وذلك لإبطال عادة التبني التي كانت منتشرة في الجاهلية، وكان الابن بالتبني يعامل معاملة الابن الصلب، قال تعالى: {إذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله ما مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرًا زوجناكها لكي لا يكون علي المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا ما قضوا منهن وطرًا وكان أمر الله مفعولاً} [الأحزاب: 73]. ويكفي زيد فخرًا أن شرفه الله تعالى بذكر اسمه في القرآن الكريم، وقد زوجه الرسول ( من أم كلثوم بنت عقبة، وكان زيد فدائيًّا شجاعًا، ومن أحسن الرماة، واشترك في غزوة بدر، وبايع النبي ( على الموت في أحد، وحضر الخندق، وصلح الحديبية، وفتح خيبر، وغزوة حنين، وجعله النبي ( أميرًا على سبع سرايا، منها: الجموع والطرف والعيص وحِسْمى، وغيرها، وقد قالت السيدة عائشة -رضي الله عنه-: ما بعثه رسول الله ( في جيش قط، إلا أمره عليهم. [النسائي وأحمد]. وعندما أخذ الروم يغيرون على حدود الدولة الإسلامية، واتخذوا من الشام نقطة انطلاق لهم؛ سيَّر الرسول ( جيشًا إلى أرض البلقاء بالشام، ووقف ( يُوَدِّعُ جيشه بعد أن أمر عليهم زيد بن حارثة، قائلاً: (إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة)_[ابن اسحاق]. وسار الجيش حتى نزل بجوار بلدة تسمى مؤتة، وتقابل جيش المسلمين مع جيش الروم الذي كان عدده يزيد على مائتي ألف مقاتل، ودارت الحرب، واندفع زيد في صفوف الأعداء، لا يبالي بعددهم ولا بعدتهم، ضاربًا بسيفه يمينًا ويسارًا، حاملا الراية بيده الأخرى، فلما رأى الأعداء شجاعته طعنوه من الخلف، فظل زيد حاملاً الراية حتى استشهد، فدعا له الرسول ( وقال: (استغفروا لأخيكم، قد دخل الجنة وهو يسعى) [ابن سعد].

    أول سفير في الإسلام
    مصعب بن عمير

    أول سفير في الإسلام مصعب بن عمير إنه الصحابي الكريم مصعب بن عمير -رضي الله عنه- أو مصعب الخير، كان في صغره وقبل إسلامه شابًا جميلا مدللاً منعمًا، يلبس من الثياب أغلاها، يعرفه أهل مكة بعطره الذي يفوح منه دائمًا، وأبوه وأمه من أغنى أغنياء مكة، وكانا يحبانه حبًّا شديدًا، فرغباته كلها منفذة، وطلباته كلها مجابة. سمع مصعب ما سمعه أهل مكة من دعوة محمد ( التي ينادى فيها بعبادة الله وحده، وترك عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر، والمساواة بين الناس والتحلي بمكارم الأخلاق، فتحركت نفسه، وتاقت جوارحه أن يتعرف على هذا الدين الجديد، ولم يمض غير قليل حتى أسرع للقاء النبي ( في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وأعلن إسلامه. وكانت أمه خناس بنت مالك تتمتع بقوة شخصيتها، وكان مصعب يهابها، ولم يكن حين أسلم يخشى شيئًا قدر خشيته من أن يتسرب خبر إسلامه إلى أمه، فقرر أن يكتم إسلامه حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً، وأخذ يتردد على النبي ( في دار الأرقم، يصلي معه ويستمع إلى آيات الله. وذات يوم رآه عثمان بن طلحة وهو يصلي مع الرسول (، فذهب إلى أمه وأخبرها بما رأى، فطار صوابها، وغضبت عليه هي وقومها غضبًا شديدًا، لكن الفتى المؤمن وقف أمامهم يتلو عليهم القرآن في يقين وثبات، لعل الله يشرح به قلوبهم، ولم يشأ الله هدايتهم بعد، فقرروا حبسه، وعذبوه، فصبر واحتسب ذلك كله في سبيل الله. ومنعت أمه عنه الطعام ذات يوم، ورفضت أن يأكل طعامها من هجر آلهتها ولو كان ابنها، وأخرجته من دارها، وهي تقول له: اذهب لشأنك لم أعد لك أمًّا، ورغم كل هذا يقترب مصعب من أمه ويقول لها: يا أمه أني لك ناصح، وعليك شفوق، فاشهدي أنه لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله. فتجيبه غاضبة: قسمًا بالآلهة، لا أدخل في دينك، فيزري برأيي ويضعف عقلي. وعندما سمع مصعب بخروج بعض المؤمنين مهاجرين إلى الحبشة هاجر معهم، ثم عاد إلى مكة مع الذين عادوا إليها، فرآه قومه بعد رجوعه فرقت قلوبهم، وكفوا عن تعذيبه، وبعد بيعتي العقبة الأولى والثانية جاء إلى النبي ( من آمن من الأنصار، وطلبوا منه أن يرسل معهم من يقرئهم القرآن ويعلمهم أمور دينهم، فاختار الرسول ( مصعبًا ليكون أول سفير له خارج مكة، وأول مهاجر إلى المدينة المنورة. فترك مصعب مكة للمرة الثانية طاعة لله ولرسوله (، وحمل أمانة الدعوة إلى الله مستعينًا بما أنعم الله عليه من عقل راجح، وخلق كريم، وأعجب أهل المدينة بزهده وإخلاصه فدخلوا في دين الله، وكان مصعب يدعو الناس إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، فأسلم على يديه سادة أهل المدينة، مثل: أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ. وتمضي الأيام والأعوام، ويهاجر الرسول ( وأصحابه إلى المدينة، وتغضب قريش، وتعد العدة لقتال المسلمين، ويلتقي جيش المسلمين والكفار في غزوة بدر، وينتصر المسلمون، وتجيء غزوة أحد، ويختار الرسول ( مصعبًا ليحمل اللواء. ونشبت معركة رهيبة واحتدم القتال، وكان النصر أول الأمر للمسلمين، ولكن سرعان ما تحول النصر إلى هزيمة لما خالف الرماة أمر رسول الله (، ونزلوا من فوق الجبل يجمعون الغنائم، وأخذ المشركون يقتلون المسلمين، وبدأت صفوف المسلمين تتمزق. وركز أعداء الإسلام على الرسول ( وأخذوا يتعقبونه، فأدرك مصعب هذا الخطر، وصاح مكبرًا، ومضى يجول ويصول، وهمه أن يلفت أنظار الأعداء إليه؛ ليشغلهم عن رسول الله (، وتجمع حوله الأعداء، فضرب أحدهم يده اليمنى فقطعها، فحمل مصعب اللواء بيده اليسرى، فضرب يده اليسرى فقطعها، فضم مصعب اللواء إلى صدره بعضديه، وهو يقول: وما محمد إلا رسول الله قد خلت من قبله الرسل، فضربه أعداء الله ضربة ثالثة فقتلوه، واستشهد مصعب. وبعد انتهاء المعركة جاء الرسول ( وأصحابه يتفقدون أرض المعركة، ويودِّعون شهداءها، وعند جثمان مصعب سالت الدموع وفيرة غزيرة، ولم يجدوا شيئًا يكفنونه فيه إلا ثوبه القصير، إذا غطوا به رأسه انكشفت رجلاه، وإذا وضعوه على رجليه ظهرت رأسه، فقال النبي (: (غطوا رأسه، واجعلوا على رجليه من الإذخر (نبات له رائحة طيبة)) [البخاري]. ومضى مصعب إلى رحاب الله سبحانه، وصدق فيه قول الله تعالى: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا} [الأحزاب: 32]، وقال الرسول ( وهو ينظر إلى شهداء أحد: (أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فوالذي نفسي بيده لا يسلِّم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه) [الحاكم والبيهقي].


    مؤذن الرسول
    بلال بن رباح

    إنه بلال بن رباح الحبشي -رضي الله عنه-، وكان بلال قد بدأ يسمع عن الرسول الذي جاء بدين جديد، يدعو إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة الأصنام، ويحث على المساواة بين البشر، ويأمر بمكارم الأخلاق، وبدأ يصغي إلى أحاديث زعماء قريش وهم يتحدثون عن محمد. سمعهم وهم يتحدثون عن أمانته، ووفائه، وعن رجولته، ورجاحة عقله، سمعهم وهم يقولون: ما كان محمد يومًا كاذبًا، ولا ساحرًا، ولا مجنونًا، وأخيرًا سمعهم وهم يتحدثون عن أسباب عداوتهم لمحمد (.
    فذهب بلال إلى رسول الله ( ليسلم لله رب العالمين، وينتشر خبر إسلام بلال في أنحاء مكة، ويعلم سيده أمية بن خلف فيغضب غضبًا شديدًا، وأخذ يعذب بلالا بنفسه؛ لقد كانوا يخرجون به إلى الصحراء في وقت الظهيرة، ذلك الوقت التي تصير فيه الصحراء كأنها قطعة من نار، ثم يطرحونه عاريًا على الرمال الملتهبة، ويأتون بالحجارة الكبيرة، ويضعونها فوق جسده، ويتكرر هذا العذاب الوحشي كل يوم، ويظل بلال صابرًا مصممًا على التمسك بدينه، فيقول له أمية بن خلف: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، فيقول بلال: أحد.. أحد!!
    لقد هانت على بلال نفسه بعدما ذاق طعم الإيمان، فلم يعد يهتم بما يحدث له في سبيل الله، ثم أمر زعماء قريش صبيانهم أن يطوفوا به في شعاب مكة وشوارعها ليكون عبرة لمن تحدثه نفسه أن يتبع محمدًا، وبلال لا ينطق إلا كلمة واحدة، هي: أحد.. أحد، فيغتاظ أمية ويتفجر غمًّا وحزنًا، ويزداد عذابه لبلال.
    وذات يوم، كان أمية بن خلف يضرب بلالاً بالسوط، فمرَّ عليه أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، فقال له: يا أمية ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ إلى متى ستظل تعذبه هكذا؟ فقال أمية لأبي بكر: أنت أفسدته فأنقذه مما ترى، وواصل أمية ضربه لبلال، وقد يئس منه، فطلب أبو بكر شراءه، وأعطى أمية ثلاث أواق من الذهب نظير أن يترك بلالا، فقال أمية لأبي بكر الصديق: فواللات والعزى، لو أبيت إلا أن تشتريه بأوقية واحدة لبعتكه بها، فقال أبو بكر: والله لو أبيت أنت إلا مائة أوقية لدفعتها، وانطلق أبو بكر ببلال إلى رسول الله ( يبشره بتحريره.
    وبعد هجرة النبي ( والمسلمين إلى المدينة واستقرارهم بها، وقع اختيار الرسول ( على بلال ليكون أول مؤذن للإسلام، ولم يقتصر دور بلال على الأذان فحسب، بل كان يشارك النبي ( في كل الغزوات، ففي غزوة بدر أول لقاء بين المسلمين وقريش دفعت قريش بفلذات أكبادها، ودارت حرب عنيفة قاسية انتصر فيها المسلمون
    انتصارًا عظيمًا.
    وفي أثناء المعركة لمح بلال أمية بن خلف، فيصيح قائلاً: رأس الكفر
    أمية بن خلف، لا نجوتُ إن نجا، وكانت نهاية هذا الكافر على يد بلال، تلك اليد التي كثيرًا ما طوقها أمية بالسلاسل من قبل، وأوجع صاحبها ضربًا بالسوط.
    وعاش بلال مع رسول الله ( يؤذن للصلاة، ويحيي شعائر هذا الدين العظيم الذي أخرجه من الظلمات إلى النور، ومن رقِّ العبودية إلى الحرية، وكل يوم يزداد بلال قربًا من قلب رسول الله ( الذي كان يصفه بأنه رجل من أهل الجنة، ومع كل هذا، ظل بلال كما هو كريمًا متواضعًا لا يرى لنفسه ميزة على أصحابه.
    وذات يوم ذهب بلال يخطب لنفسه ولأخيه زوجتين، فقال لأبيهما: أنا بلال، وهذا أخي، عبدان من الحبشة، كنا ضالين فهدانا الله، وكنا عبدين فأعتقنا الله، إن تزوجونا فالحمد لله، وإن تردونا فلا حول ولا قوة إلا بالله. فزوجوهما، وكان بلال -رضي الله عنه- عابدًا لله، ورعًا، كثير الصلاة، قال له النبي ( ذات يوم بعد صلاة الصبح: (حدِّثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فأني قد سمعت الليلة خشفة نعليك (صوت نعليك) بين يدي في الجنة)، فقال بلال:
    ما عملت عملا أرجى من أني لم أتطهر طهورًا تامًا في ساعة من ليل ولا نهار إلا صليت لربي ما كتب لي أن أصلي. [البخاري].
    وحزن بلال حزنًا شديدًا لوفاة النبي (، ولم يستطع أن يعيش في المدينة بعدها، فاستأذن من الخليفة أبي بكر في الخروج إلى الشام ليجاهد في سبيل الله، وذكر له حديث رسول الله (: (أفضل عمل المؤمنين جهاد في سبيل الله) [الطبراني]. وذهب بلال إلى الشام، وظل يجاهد بها حتى
    توفي -رضي الله عنه-.


    الطيب المطيب
    عمار بن ياسر

    إنه عمَّار بن ياسر -رضي الله عنه-، كان هو وأبوه ياسر وأمه سمية بنت خياط من أوائل الذين دخلوا في الإسلام، وكان أبوه قد قدم من اليمن، واستقر بمكة، ولما علم المشركون بإسلام هذه الأسرة أخذوهم وعذبوهم عذابًا شديدًا، فمر عليهم الرسول ( وقال لهم: (صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة) [الطبراني والحاكم].
    وطعن أبو جهل السيدة سمية فماتت، لتكون أول شهيدة في الإسلام، ثم يلحق بها زوجها ياسر، وبقى عمار يعاني العذاب الشديد، فكانوا يضعون رأسه في الماء، ويضربونه بالسياط، ويحرقونه بالنار، فمرَّ عليه الرسول (، ووضع يده الشريفة على رأسه وقال: (يا نار كوني بردًا وسلامًا على عمار كما كنت بردًا وسلامًا على إبراهيم) [ابن سعد].
    وذات يوم، لقى عمار النبي ( وهو يبكي، فجعل ( يمسح عن عينيه ويقول له: (أخذك الكفار فغطوك في النار) [ابن سعد]، واستمر المشركون في تعذيب عمار، ولم يتركوه حتى ذكر آلهتهم وأصنامهم بخير، وعندها تركوه، فذهب مسرعًا إلى النبي (، فقال له النبي (: ما وراءك؟ قال: شرٌّ يا رسول الله، والله ما تركت حتى نلت منك (أي ذكرتك بسوء) وذكرت آلهتهم بخير، فقال له النبي (:
    (فكيف تجدك؟)، قال: مطمئن بالإيمان، قال: (فإن عادوا فعد) [ابن سعد والحاكم]. ونزل فيه قول الله تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} _[النحل: 106].
    وهاجر عمار إلى الحبشة، ثم هاجر إلى المدينة، وشارك مع النبي ( في جميع الغزوات، حتى إنه قال ذات يوم: قاتلت مع رسول الله ( الجن والإنس فسأله الصحابة: وكيف؟ فقال: كنا مع النبي (، فنزلنا منزلاً، فأخذت قربتي ودلوي لأستقي، فقال (: (أما إنه سيأتيك على الماء آت يمنعك منه)، فلما كنت على رأس البئر إذا برجل أسود، فقال: والله لا تستقي اليوم منها، فأخذني وأخذته (تشاجرنا) فصرعته ثم أخذت حجرًا، فكسرت وجهه وأنفه، ثم ملأت قربتي وأتيت رسول الله (، فقال: (هل أتاك على الماء أحد؟) قلت: نعم، فقصصت عليه القصة فقال: (أتدرى من هو؟)، قلت: لا، قال: (ذاك الشيطان).
    [ابن سعد].
    وذات يوم استأذن عمار -رضي الله عنه- الرسول ( ليدخل فقال (: (من هذا؟) قال: عمار، فقال (: (مرحبًا بالطيب المطيب) [الترمذي والحاكم].
    وذات يوم حدث بين عمار وخالد بن الوليد كلام، فأغلظ خالد لعمار، فشكاه إلى النبي (، فقال (: (من عادى عمارًا عاداه الله، ومن أبغض عمارًا أبغضه الله) [النسائي وأحمد]، فخرج خالد من عند الرسول ( وما من شيء أحب إليه من رضا عمار، وكلمه حتى رضي عنه.
    وقال النبي (: (إن عمارًا مُلئ إيمانًا إلى مشاشه (أي إلى آخر جزء فيه)) [النسائي والحاكم]. وأمر النبي ( المسلمين أن يتبعوا عمارًا ويقتدوا به، فقال (: (اقتدوا باللذين من بعدى أبي بكر وعمر واهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد (عبد الله ابن مسعود)) [أحمد].
    وجاء رجل إلى ابن مسعود فقال: إن الله قد أمننا من أن يظلمنا، ولم يؤمنا من أن يفتنا، أرأيت إن أدركت الفتنة؟ قال: عليك بكتاب الله، قال: أرأيت إن كان كلهم يدعو إلى كتاب الله؟ قال: سمعت رسول الله ( يقول: (إذا اختلف الناس كان ابن سمية (عمار) مع الحق) [الحاكم].
    وبعد وفاة النبي (، اشترك عمار مع الصديق أبي بكر -رضي الله عنه- في محاربة المرتدين، وأظهر شجاعة فائقة في معركة اليمامة حتى قال
    ابن عمر -رضي الله عنه- في شجاعته: رأيت عمار بن ياسر -رضي الله عنه- يوم اليمامة على صخرة وقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين، أمن الجنة تفرون؟! أنا عمار بن ياسر، أمن الجنة تفرون؟! أنا عمار بن ياسر، هلمَّ إليَّ، وأنا أنظر إلى أذنه قد قطعت فهي تذبذب (تتحرك) وهو يقاتل أشد القتال.
    وبعد أن تولى عمر بن الخطاب الخلافة، ولى عمارًا على الكوفة ومعه
    عبد الله بن مسعود وبعث بكتاب إلى أهلها يقول لهم فيه: أما بعد، فأني بعثت إليكم عمار بن ياسر أميرًا وابن مسعود معلمًا ووزيرًا، وإنهما لمن النجباء من أصحاب محمد (، من أهل بدر، فاسمعوا لهما وأطيعوا، واقتدوا بهما.
    وكان عمار متواضعًا زاهدًا سمحًا كريمًا فقد سبَّه رجل وعيَّره ذات مرة بأذنه التي قطعت في سبيل الله، وقال له: أيها الأجدع، فقال لها عمار: خير أذني سببت، فإنها أصيبت مع رسول الله (. وكان يقول: ثلاثة من كن فيه فقد استكمل الإيمان: الإنفاق في الإقتار، والإنصاف من النفس، وبذل السلام للعالم.
    وفي يوم صفين كان عمار في جيش علي، وقبل بداية المعركة شعر عمار بالعطش، فإذا بامرأة تأتيه وفي يدها إناء فيه لبن فشرب منه، وتذكر قول الرسول ( له: (آخر شربة تشربها من الدنيا شربة لبن) [أحمد]، ثم قال في جموع المقاتلين: الجنة تحت ظلال السيوف، والموت في أطراف الأسنة، وقد فتحت أبواب الجنة، وتزينت الحور العين، اليوم ألقى الأحبة محمدًا وحزبه (أصحابه) ثم تقدم للقتال فاستشهد سنة(37هـ)، وكان عمره آنذاك (93) سنة، ودفنه الإمام عليُّ، وصلى عليه.


    سيد الشهداء
    حمزة بن عبد المطلب

    إنه حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- عم الرسول ( وأخوه في الرضاعة، وكان قد ولد قبل النبي ( بسنتين، وأرضعتهما ثويبة مولاة أبي لهب، وكان يكنى بأبي عمارة وكان حمزة صديقًا لابن أخيه محمد ( قبل البعثة، حيث عاشا سويًّا، وتربيا معًا.
    أسلم في السنة الثانية بعد البعثة النبوية، وقيل: في السنة السادسة بعد دخول الرسول ( دار الأرقم؛ حيث كان حمزة -رضي الله عنه- في رحلة صيد، ومرَّ أبو جهل على رسول الله ( عند الصفا فآذاه وسبه وشتمه، ورسول الله ( ساكت لا يتكلم ولا يرد عليه، وكانت خادمة لعبد الله بن جدعان تسمع ما يقول أبو جهل.
    فانتظرت حتى عاد حمزة من رحلته، وكان يمسك قوسه في يده، فقالت له الخادمة: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقى ابن أخيك محمد من أبي الحكم بن هشام (أبي جهل)، وجده هاهنا جالسًا فآذاه وسبه، وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه، ولم يكلمه محمد (، فغضب حمزة، وأسرع نحو أبي جهل فوجده في جمع من قريش، فضربه حمزة بالقوس في رأسه، وأصابه إصابة شديدة، ثم قال له: أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول، فرد ذلك عليَّ إن استطعت؟ فقام جماعة من بني مخزوم (قبيلة أبي جهل) إلى حمزة ليضربوه، فقال لهم أبو جهل: دعوا أبا عمارة فأني والله قد سببت ابن أخيه سبًّا قبيحًا. [ابن هشام].
    فلما أصبح ذهب إلى الكعبة، ثم توجه إلى الله بالدعاء أن يشرح صدره للحق؛ فاستجاب الله له، وملأ قلبه بنور اليقين والإيمان، فذهب حمزة إلى رسول الله
    ( ليخبره بما كان من أمره، ففرح رسول الله ( بإسلامه فرحًا شديدًا ودعا له.
    هكذا أعز الله حمزة بالإسلام، وأعز الإسلام به، فكان نصرًا جديدًا وتأييدًا لدين الله ولرسوله (، وما إن سمع المشركون بإسلام حمزة حتى تأكدوا من أن رسول الله ( صار في عزة ومنعة، فكفوا عن إيذائه، وبدءوا يسلكون معه سياسة أخرى، وهي سياسة المفاوضات، فجاء
    عتبة بن ربيعة يساوم النبي ( ويعرض عليه ما يشاء من أموال
    أو مجد أو سيادة.
    واستمر حمزة -رضي الله عنه- في جهاده ودفاعه عن رسول الله ( حتى أذن الله للمسلمين بالهجرة إلى المدينة المنورة، فهاجر حمزة، وهناك آخى الرسول ( بينه وبين زيد بن حارثة، وشهد حمزة غزوة بدر مع النبي (، وفي بداية المعركة هجم أحد المشركين ويدعى الأسود بن عبد الأسود على بئر للمسلمين وقال: أعاهد الله لأشربنَّ من حوضهم أو لأهدمنَّه أو لأمُوتَنَّ دُونَهُ، فتصدى له حمزة فضربه ضربة في ساقه، فأخذ الأسود يزحف نحو البئر فتبعه حمزة وقتله.
    وبعدها برز ثلاثة من المشركين وهم عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وابنه
    الوليد بن عتبة، فخرج إليهم فتية من الأنصار، فنادوا: يا محمد.. أَخْرِج إلينا أكفاءنا من قومنا. فقال (: قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا حمزة، قم يا علي، فبارز عبيدة عتبة، وبارز علي الوليد، وبارز حمزة شيبة، ولم يمهل حمزة شيبة حتى قتله، وكذلك فعل عليٌّ مع خصمه الوليد، أما عبيدة وعتبة فقد جرح كل منهما الآخر، فأسرع حمزة وعلي بسيفيهما على عتبة فقتلاه.
    وكان حمزة في ذلك اليوم قد وضع ريشة على رأسه، فظل يقاتل بشجاعة حتى قتل عددًا كبيرًا من المشركين، ولما انتهت المعركة، كان أمية بن خلف ضمن أسرى المشركين، فسأل: من الذي كان معلَّمًا بريشة؟ فقالوا: إنه حمزة، فقال: ذلك الذي فعل بنا الأفاعيل. ولقد أبلى حمزة في هذه المعركة بلاء حسنًا، لذلك سماه رسول الله (: أسد الله، وأسد رسوله.
    وأقسمت هند بنت عتبة أن تنتقم من حمزة ؛ لأنه قتل أباها عتبة وعمها وأخاها في بدر، وكذلك أراد جبير بن مطعم أن ينتقم من حمزة لقتل عمه
    طعيمة بن عدى، فقال لعبده وحشي، وكان يجيد رمي الرمح: إن قتلت حمزة فأنت حر.
    وجاءت غزوة أحد وأبلى حمزة -رضي الله عنه- بلاءً شديدًا، وكان يقاتل بين يدي رسول الله ( بسيفين ويقول: أنا أسد الله. فلما تراجع المسلمون اندفع حمزة نحو رسول الله ( يقاتل المشركين، واختبأ وحشي لحمزة، وضربه ضربة شديدة برمحه فأصابته في مقتل، واستشهد البطل الشجاع حمزة -رضي الله عنه-.
    ورآه النبي ( بعد انتهاء المعركة بين الشهداء قد مثل به، فقطعت أنفه وأذنه وشقت بطنه، فحزن عليه ( حزنًا شديدًا، وقال: (لولا أن تجد (تحزن) صفية في نفسها لتركته حتى تأكله العافية (دواب الأرض والطير) حتى يحشر من بطونها إكرامًا له وتعظيمًا) [أبو داود]. وقال (: (سيد الشهداء حمزة) [الحاكم]. وصلى النبي ( على حمزة وشهداء أُحد السبعين.


    صاحب دار الدعوة
    الأرقم بن أبي الأرقم

    إنه الصحابي الجليل الأرقم بن أبي الأرقم القرشي المخزومي -رضي الله عنه- وكنيته أبو عبد الله، أحد السابقين إلى الإسلام، قيل إنه سابع من أسلم، وقيل بل عاشر من أسلم. وفي الدار التي كان يمتلكها الأرقم على جبل الصفا، كان النبي ( يجتمع بأصحابه بعيدًا عن أعين المشركين؛ ليعلمهم القرآن وشرائع الإسلام، وفي هذه الدار أسلم كبار الصحابة وأوائل المسلمين، وهاجر الأرقم إلى المدينة، وفيها آخى رسول الله ( بينه وبين
    زيد بن سهل -رضي الله عنهما-.
    وشهد الأرقم بن أبي الأرقم بدرًا وأحدًا والغزوات كلها، ولم يتخلف عن الجهاد، وأعطاه رسول الله ( دارًا بالمدينة. وروى أن الأرقم -رضي الله عنه- تجهز يومًا، وأراد الخروج إلى بيت المقدس، فلما فرغ من التجهيز والإعداد، جاء إلى النبي ( يودعه، فقال له النبي (:
    (ما يخرجك يا أبا عبد الله، أحاجة أم تجارة ؟) فقال له الأرقم: يا رسول الله! بأبي أنت وأمى، أني أريد الصلاة في بيت المقدس، فقال له الرسول (: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) فجلس الأرقم، وعاد إلى داره مطيعًا للنبي ( ومنفذًا لأوامره. [الحاكم].
    وظل الأرقم يجاهد في سبيل الله، لا يبخل بماله ولا نفسه ولا وقته في سبيل نصرة الإسلام والمسلمين حتى جاءه مرض الموت، ولما أحس -رضي الله عنه- بقرب أجله في عهد معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- أوصى بأن يصلي عليه
    سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- ثم مات الأرقم وكان سعد غائبًا عن المدينة آنذاك، فأراد مروان بن الحكم أمير المدينة أن يصلي عليه فرفض
    عبيد الله بن الأرقم، فقال مروان: أيحبس صاحب رسول الله ( لرجل غائب؟ ورفض ابنه عبيد الله بن الأرقم أن يصلي عليه أحد غير سعد بن أبي وقاص، وتبعه بنو مخزوم على ذلك، حتى جاء سعد، وصلى عليه، ودفن بالعقيق سنة (55هـ).




    ذو الجناحين
    جعفر بن أبي طالب

    إنه جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- شهيد مؤتة، وابن عم رسول الله
    (، والشقيق الأكبر لعلي -رضي الله عنه-، أسلم مبكرًا، وأسلمت معه في نفس اليوم زوجته أسماء بنت عُميْس، وتحملا نصيبهما من الأذى والاضطهاد في شجاعة وثبات.
    كان أشبه الناس خَلْقًا وخُلُقًا بالرسول (، كنَّاه الرسول
    ( بأبي المساكين، ولقبه بذي الجناحين، وقال عنه حين قطعت يداه: (إن الله أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء) [الحاكم].
    وكان جعفر -رضي الله عنه- يحب المساكين ويطعمهم ويقربهم منه، ويحدثهم ويحدثونه، يقول عنه أبو هريرة: كان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب. ويقول عنه أيضًا: ما احتذى النعال، ولا ركب المطايا، ولا وطئ التراب بعد رسول الله ( أفضل من جعفر بن أبي طالب.
    ولما خاف الرسول ( على أصحابه اختار لهم الهجرة إلى الحبشة، وقال لهم: (لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد)، فخرج جعفر وأصحابه إلى الحبشة، فلما علمت قريش، أرسلت وراءهم عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة -وكانا لم يسلما بعد-، وأرسلت معهما هدايا عظيمة إلى النجاشي ملك الحبشة؛ أملا في أن يدفع إليهم جعفر وأصحابه فيرجعون بهم إلى مكة مرة ثانية ليردوهم عن دين الإسلام.
    ووقف رسولا قريش عمرو وعبد الله أمام النجاشي فقالا له: أيها الملك! إنه قد ضوى (جاء) إلى بلادك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك (المسيحية)، بل جاءوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم، وأعمامهم، وعشائرهم لتردهم إليهم. فلما انتهيا من كلامهما توجَّه النجاشي بوجهه ناحية المسلمين وسألهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، واستغنيتم به عن ديننا؟
    فقام جعفر وتحدث إلى الملك باسم الإسلام والمسلمين قائلاً: أيها الملك، إنا كنا قومًا أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى عبادة الله وحده، وخَلْعِ (ترك) ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، فصدقناه وآمنا به، فعذبنا قومنا وفتنونا عن ديننا؛ ليردونا إلى عبادة الأوثان، فلما ظلمونا، وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك.
    استمع النجاشي إلى كلمات جعفر، فامتلأت نفسه روعة بها، ثم سأله: هل معك شيء مما أنزل على رسولكم؟ قال جعفر: نعم، فقال النجاشي: فاقرأه علي. فقرأ جعفر من سورة مريم، فبكى النجاشي، ثم توجه إلى عمرو وعبد الله وقال لهما: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة (يقصد أن مصدر القرآن والإنجيل واحد). انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكما.
    فأخذ عمرو يفكر في حيلة جديدة، فذهب في اليوم التالي إلى الملك وقال له: أيها الملك، إنهم ليقولون في عيسى قولاً عظيمًا، فاضطرب الأساقفة لما سمعوا هذه العبارة وطالبوا بدعوة المسلمين، فقال النجاشي: ماذا تقولون عن عيسى؟ فقال جعفر: نقول فيه ما جاءنا به نبينا (: هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه. عند ذلك أعلن النجاشي أن هذا هو ما قاله عيسى عن نفسه، ثم قال للمسلمين: اذهبوا، فأنتم آمنون بأرضي، ومن سبكم أو آذاكم فعليه ما يفعل، ثم رد إلى قريش هداياهم.
    وعاد جعفر والمسلمون من الحبشة بعد فتح خيبر مباشرة، ففرح الرسول ( فرحًا كبيرًا وعانقه وهو يقول: (ما أدرى بأيهما أنا أشد فرحًا؛ أبقدوم جعفر أم بفتح خيبر؟) [الحاكم]. وبنى له الرسول ( دارًا بجوار المسجد ليقيم فيها هو وزوجته أسماء بنت عميس وأولادهما الثلاثة؛ محمد،
    وعبد الله، وعوف، وآخى بينه وبين معاذ بن جبل -رضي الله عنهما-.
    وفي العام الثامن من الهجرة، أرسل النبي ( جيشًا إلى الشام لقتال الروم، وجعل الرسول ( زيد بن حارثة أميرًا على الجيش وقال: (عليكم بزيد بن حارثة، فإن أصيب زيد، فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة) [أحمد والبخاري]. ودارت معركة رهيبة بين الفريقين عند مؤتة، وقتل زيد بن حارثة، فأخذ الراية جعفر، ومضى يقاتل في شجاعة وإقدام وسط صفوف الروم وهو يردد بصوت عالٍ:
    يَا حَبَّذَا الجَنَّةُ وَاقْتِرَابُهَــــا طَيَّبَةٌ، وَبَارِدٌ شَرَابُهَــــــا
    وَالرُّومُ رومٌ قَدْ دَنَا عَذَابُهَــا كَافِرَةٌ بَعيِدَةٌ أنْسَابُهَــــــا
    عليَّ إِذْ لاقيتها ضرابهـــا
    وظل يقاتل حتى قطعت يمينه، فحمل الراية بشماله فقطعت هي الأخرى، فاحتضن الراية بعضديه حتى استشهد. يقول ابن عمر: كنت مع جعفر في غزوة مؤتة، فالتمسناه فوجدناه وبه بضع وتسعون جراحة، ما بين ضربة بسيف، وطعنة برمح، وعلم الرسول ( خبر استشهاده، فذهب إلى بيت ابن عمه، وطلب أطفال جعفر وقبلهم، ودعا لأبيهم -رضي الله عنه-.


    أول من جهر بالقرآن
    عبد الله بن مسعود

    إنه الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، كان مولى لعقبة بن أبي معيط، يرعى غنمه في شعاب مكة، فمرَّ عليه النبي ( ومعه الصديق -رضي الله عنه- ذات يوم، فقال له النبي (: (يا غلام هل من لبن؟).
    فقال عبد الله: نعم، ولكني مؤتمن، فقال له رسول الله (: (فهل من شاة حائل لم ينـز عليها الفحل). فقال: نعم، ثم أعطاه شاة ليس في ضرعها لبن، فمسح رسول الله ( ضرعها بيده الشريفة، وهو يتمتم ببعض الكلمات، فنزل اللبن بإذن الله، فحلبه الرسول ( بيده في إناء، وشرب، وسقى أبا بكر، ثم قال النبي ( للضرع: (اقلص)، فجف منه اللبن، فقال عبد الله في دهشة وتعجب: علمني من هذا القول الذي قلته. فنظر إليه رسول الله ( في رفق ومسح على رأسه، وصدره وقال له: (إنك غُليِّم معلم)، ثم تركه وانصرف. [أحمد].
    سرت أنوار الهداية في عروق ابن مسعود، فعاد إلى سيده بالغنم، ثم أسرع إلى
    مكة يبحث عن ذلك الرجل وصاحبه حتى وجده، وعرف أنه نبي مرسل، فأعلن
    ابن مسعود إسلامه بين يديه، وكان بذلك سادس ستة يدخلون في الإسلام، وذات يوم، اجتمع أصحاب النبي (، فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه؟ فقام عبد الله، وقال: أنا. فقالوا له: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه. قال: دعوني، فإن الله سيمنعني. ثم ذهب إلى الكعبة، وكان في وقت الضحى، فجلس ورفع صوته بالقرآن، وقرأ مسترسلاً: {بسم الله الرحمن الرحيم. الرحمن . علم القرآن} [الرحمن: 1-2]، فنظر إليه أهل مكة في تعجب ودهشة، فمن يجرؤ على أن يفعل ذلك في ناديهم؟ وأمام أعينهم؟! فقالوا في دهشة: ماذا يقول ابن أم عبد؟!
    ثم أنصتوا جيدًا إلى قوله، وقالوا في غضب: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد، ثم قاموا إليه، وضربوه ضربًا شديدًا، وهو يستمر في قراءته حتى أجهده الضرب، وبلغ منه الأذى مبلغًا عظيمًا، فكفَّ عن القراءة، فتركه أهل مكة وهم لا يشكون في موته، فقام إليه أصحابه، وقد أثَّر الضرب في وجهه وجسده، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك. فقال: ما كان أعداء الله أهون عليَّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غدًا (أي أفعل ذلك مرة أخرى)، قالوا: لا، لقد أسمعتهم ما يكرهون.
    وهاجر ابن مسعود الهجرتين، وآخى رسول الله ( بينه وبين الزبير بن العوام -رضي الله عنه- في المدينة، وكان ابن مسعود من أحرص المسلمين على الجهاد في سبيل الله، شارك في جميع غزوات المسلمين، ويوم بدر ذهب عبد الله إلى رسول الله ( مبشرًا له، وقال: يا رسول الله، أني قتلت أبا جهل، ففرح بذلك رسول الله (، ووهبه سيف
    أبي جهل مكافأة له على ذلك.
    وكان ابن مسعود أعلم أصحاب رسول الله بقراءة القرآن، ومن أنداهم صوتًا به، ولذا كان رسول الله ( يقول: (استقرئوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل) [البخاري].
    وقال (: (من سره أن يقرأ القرآن غضًّا كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد) [البزار].
    وكان رسول الله ( يحب سماع القرآن منه، فقال له ذات مرة: (اقرأ عليَّ)، فقال عبد الله: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: (أني أحب أن أسمعه من غيري)، فقرأ ابن مسعود من سورة النساء حتى وصل إلى قوله تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا} [النساء: 14]، فبكى رسول الله ( وقال: (حسبك الآن) [البخاري].
    وكان ابن مسعود يقول: أخذت من فم رسول الله ( سبعين سورة. وكان يقول عن نفسه كذلك: أني لأعلم الصحابة بكتاب الله، وما أنا بخيرهم، وما في كتاب الله سورة ولا آية إلا وأنا أعلم فيما نزلت ومتى نزلت.
    وكان عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- يقول: كان النبي ( يعرض القرآن على جبريل في كل عام مرة، فلما كان العام الذي مات فيه النبي ( عرضه عليه مرتين، وحضر ذلك عبد الله بن مسعود، فعلم ما نسخ من ذلك وما بدل.
    وقال حذيفة -رضي الله عنه-: لقد علم المحفظون من أصحاب رسول الله ( أن عبد الله بن مسعود كان من أقربهم وسيلة إلى الله يوم القيامة، وأعلمهم بكتاب الله. وكان عبد الله شديد الحب لله ولرسوله (، وظل ملازمًا للنبي (، يسير معه حيث سار، يخدم النبي (، يلبسه نعله، ويوقظه إذا نام، ويستره إذا اغتسل.
    وكان النبي ( يحبه ويقربه منه، ويدنيه ويقول له: (إذنك عليَّ أن يرفع الحجاب، وأن تستمع سوادي (أسراري) حتى أنهاك) [مسلم]. فسمي عبد الله بن مسعود منذ ذلك اليوم بصاحب السواد والسواك، وقد بشره رسول الله ( بالجنة، وكان يقول عنه: لو كنت مؤمرًا أحدًا (أي مستخلفًا أحدًا) من غير مشورة منهم لأمرت (أي استخلفت) عليهم ابن أم عبد) [الترمذي].
    وقال (: (وتمسكوا بعهد ابن مسعود) _[الترمذي]، وروي عنه ( أنه قال: (رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد) [الحاكم].
    ويروى أن رسول الله ( أمر عبد الله بن مسعود أن يصعد شجرة فيأتيه بشيء منها، فلما رأى أصحابه ساقيه ضحكوا، فقال (: (ما تضحكون؟ لَرِجْلُ عبد الله أثقل في الميزان يوم القيامة من أحد)
    [أحمد وابن سعد وأبو نعيم].
    وفي خلافة الفاروق -رضي الله عنه- أرسل عمر إلى أهل الكوفة عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهما-، وقال: عمار أمير، وابن مسعود معلم ووزير، ثم قال لأهل الكوفة: لقد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي. وجاء رجل من أهل الكوفة إلى عمر في موسم الحج، فقال له: يا أمير المؤمنين، جئتك من الكوفة، وتركت بها رجلاً يحكى المصحف عن ظهر قلب. فقال عمر: ويحك؛ ومن هو؟ فقال الرجل: هو عبد الله بن مسعود. فقال عمر: والله، ما أعلم من الناس أحدًا هو أحق بذلك منه.
    وكان عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عالما حكيمًا، ومن أقواله المأثورة قوله: أيها الناس، عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة. وكان -رضي الله عنه- يقول: أني لأمقت (أكره) الرجل إذ أراه فارغًا، ليس في شيء من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة.
    وعندما مرض عبد الله بن مسعود مرض الموت، دخل عليه أمير المؤمنين
    عثمان بن عفان -رضي الله عنه- يزوره، وقال له: أنأمر لك بطبيب؟ فقال
    عبد الله: الطبيب أمرضني. فقال عثمان: نأمر لبناتك بمال، وكان عنده تسع بنات، فقال عبد الله: لا، أني علمتهن سورة، ولقد سمعت رسول الله ( يقول: (من قرأ سورة الواقعة لا تصيبه الفاقة أبدًا) [ابن عساكر].
    ويلقى ابن مسعود ربه على ذلك الإيمان الصادق، واليقين الثابت، طامعًا فيما
    عند الله، زاهدًا في نعيم الدنيا الزائف، فيموت -رضي الله عنه- سنة (32 هـ)، وعمره قد تجاوز (60) عامًا ويدفن بالبقيع. وقد روى ابن مسعود -رضي الله عنه- كثيرًا من أحاديث رسول الله (، وروى عنه بعض الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم-.


    سابق الروم
    صهيب الرومي

    إنه الصحابي الجليل صهيب بن سنان الرومى، وقد كان صهيب في بداية حياته غلامًا صغيرًا يعيش في العراق في قصر أبيه الذي ولاه كسرى ملك الفرس حاكمًا على الأُبُلَّة (إحدى بلاد العراق)، وكان من نسل أولاد النمر بن قاسط من العرب، وقد هاجروا إلى العراق منذ زمنٍ بعيد، وعاش سعيدًا ينعم بثراء أبيه وغناه عدة سنوات.
    وذات يوم، أغار الروم على الأبلة بلد أبيه، فأسروا أهلها، وأخذوه عبدًا، وعاش العبد العربي وسط الروم، فتعلم لغتهم، ونشأ على طباعهم، ثم باعه سيده لرجل من مكة يدعى عبد الله بن جدعان، فتعلم من سيده الجديد فنون التجارة، حتى أصبح ماهرًا فيها، ولما رأى عبد الله بن جدعان منه الشجاعة والذكاء والإخلاص في العمل، أنعم عليه فأعتقه.
    وعندما أشرقت في مكة شمس الإسلام، كان صهيب ممن أسرع لتلبية نداء الحق، فذهب إلى دار الأرقم، وأعلن إسلامه أمام رسول الله (، ولم يَسْلَم صهيب من تعذيب مشركي مكة، فتحمل ذلك في صبر وجلد؛ ابتغاء مرضاة الله وحبًّا لرسوله (، وهاجر النبي ( بعد أصحابه إلى المدينة، ولم يكن صهيب قد هاجر بعد، فخرج ليلحق بهم، فتعرض له أهل مكة يمنعونه من الهجرة؛ لأنهم رأوا أن ثراء صهيب ليس من حقه، لأنه جاء إلى بلادهم حينما كان عبدًا فقيرًا، فلا يحق له أنه يخرج من بلادهم بماله وثرائه، وصغر المال في عين صهيب، وهان عليه كل ما يملك في سبيل الحفاظ على دينه، فساومهم على أن يتركوه، ويأخذوا ماله، ثم أخبرهم بمكان المال، وقد صدقهم في ذلك، فهو لا يعرف الكذب أو الخيانة.
    وكان صهيب تاجرًا ذكيًّا، فتاجر بماله ونفسه في سبيل مرضاة ربه، فربح بيعه، وعظم أجره، واستحق أن يكون أول ثمار الروم في الإسلام، واستحقَّ ما روي عن رسول الله أنه قال: (صهيب سابق الروم) [ابن سعد]. وشارك صُهيب في جميع غزوات الرسول (، فها هو ذا يقول: لم يشهد رسول الله
    ( مشهدًا قط إلا كنت حاضره، ولم يبايع بيعة قط إلا كنت حاضرها، ولم يسر سرية قط إلا كنت حاضرها، ولا غزا غزوة قط إلا كنت فيها عن يمينه أو شماله، وما خافوا أمامهم قط إلا كنت أمامهم، ولا ما وراءهم إلا كنت وراءهم، وما جعلت رسول الله ( بيني وبين العدو قط حتى تُوُفِّي.
    وواصل جهاده مع الصديق ثم مع الفاروق عمر -رضي الله عنهما-، وكان بطلا شجاعًا، وكان كريمًا جوادًا، يطعم الطعام، وينفق المال، قال له عمر -رضي الله عنه- يومًا: لولا ثلاث خصال فيك يا صهيب، ما قدمت عليك أحدًا، أراك تنتسب عربيًّا ولسانك أعجمي، وتُكنى بأبي يحيي، وتبذر مالك. فأجابه صهيب: أما تبذيري مالي فما أنفقه إلا في حقه، وأما اكتنائي بأبي يحيى، فإن رسول الله ( كناني بأبي يحيى فلن أتركها، وأما انتمائي إلى العرب، فإن الروم سبتني صغيرًا، فأخذت لسانهم (لغتهم)، وأنا رجل من النمر بن قاسط.
    [ابن سعد].
    وكان عمر -رضي الله عنه- يعرف لصهيب فضله ومكانته، فعندما طُعن -رضي الله عنه- أوصى بأن يصلي صهيب بالناس إلى أن يتفق أهل الشورى على أحد الستة الذين اختارهم قبل موته للخلافة؛ ليختاروا منهم واحدًا، وكان صهيب طيب الخلق، ذا مداعبة وظُرف، فقد رُوي أنه أتى المسجد يومًا وكانت إحدى عينيه مريضة، فوجد الرسول ( وأصحابه جالسين في المسجد، وأمامهم رطب، فجلس يأكل معهم، فقال له النبي ( مداعبًا: (تأكل التمر وبك رمد؟) فقال صهيب: يا رسول الله، أني أمضغ من ناحية أخرى (أي: آكل على ناحية عيني الصحيحة). [ابن ماجه]، فتبسم رسول الله (.
    وظل صهيب يجاهد في سبيل الله حتى كانت الفتنة الكبرى، فاعتزل الناس، واجتنب الفتنة، وأقبل على العبادة حتى مات -رضي الله عنه- بالمدينة سنة (38هـ)، وعمره آنذاك (73) سنة، ودفن بالبقيع. وقد روى صهيب -رضي الله عنه- عن النبي ( أحاديث كثيرة، وروى عنه بعض الصحابة والتابعين -رضوان الله عليهم أجمعين-.


    فاتح مصر
    عمرو بن العاص

    إنه الصحابي الجليل عمرو بن العاص بن وائل السهمي -رضي الله عنه- أحد فرسان قريش وأبطالها، أذكى رجال العرب، وأشدهم دهاءً وحيلة، أسلم قبل فتح مكة، وكان سبب إسلامه أنه كان كثير التردد على الحبشة، وكان صديقًا لملكها النجاشي، فقال له النجاشي ذات مرة: يا عمرو، كيف يعزب عنك أمر ابن عمك؟ فوالله إنه لرسول الله حقًا. قال عمرو: أنت تقول ذلك؟ قال: أي والله، فأطعني. [ابن هشام وأحمد]. فخرج عمرو من الحبشة قاصدًا المدينة، وكان ذلك في شهر صفر سنة ثمان من الهجرة، فقابله في الطريق خالد بن الوليد
    وعثمان بن طلحة، وكانا في طريقهما إلى النبي ( فساروا جميعًا إلى المدينة، وأسلموا بين يدي رسول الله (، وبايعوه.
    أرسل إليه الرسول ( يومًا فقال له: (خذ عليك ثيابك، وسلاحك، ثم ائتني)، فجاءه، فقال له رسول الله (: (أني أريد أن أبعثك على جيش، فيسلمك الله ويغنمك، وأرغب لك رغبة صالحة من المال). فقال: يا رسول الله، ما أسلمتُ من أجل المال، ولكنى أسلمتُ رغبة في الإسلام، ولأن أكون مع رسول الله (. فقال (:
    (نعم المال الصالح للرجل الصالح) [أحمد].
    وكان عمرو بن العاص مجاهدًا شجاعًا يحب الله ورسوله، ويعمل على رفع لواء الإسلام ونشره في مشارق الأرض ومغاربها، وكان رسول الله ( يعرف لعمرو شجاعته وقدرته الحربية، فكان يوليه قيادة بعض الجيوش والسرايا، وكان يحبه ويقربه، ويقول عنه: (عمرو بن العاص من صالحي قريش، نعم أهل البيت أبو عبد الله، وأم عبد الله، وعبد الله) [أحمد]. وقال (: (ابنا العاص مؤمنان، عمرو وهشام) [أحمد والحاكم].
    وقد وجه رسول الله ( سرية إلى ذات السلاسل في جمادى الآخرة سنة ثمان من الهجرة، وجعل أميرها عمرو بن العاص رضي الله عنه، وقد جعل النبي ( عمرو بن العاص واليًا على عُمان، فظل أميرًا عليها حتى توفي النبي ( . وقد شارك عمرو بن العاص في حروب الردة وأبلى فيها بلاءً حسنًا.
    وفي عهد الفاروق عمر -رضي الله عنه- تولى عمرو بن العاص إمارة فلسطين، وكان عمر يحبه ويعرف له قدره وذكاءه، فكان يقول عنه: ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميرًا. [ابن عساكر]، وكان عمر إذا رأى رجلاً قليل العقل أو بطيء الفهم يقول: خالق هذا وخالق عمرو بن العاص واحد.
    وكان عمرو يتمنى أن يفتح الله على يديه مصر، فظل يحدث عمر بن الخطاب عنها، حتى أقنعه، فأمَّره الفاروق قائدًا على جيش المسلمين لفتح مصر وتحريرها من أيدي الروم، فسار عمرو بالجيش واستطاع بعد كفاح طويل أن يفتحها، ويحرر أهلها من ظلم الرومان وطغيانهم، ويدعوهم إلى دين الله عز وجل، فيدخل المصريون في دين الله أفواجًا.
    وأصبح عمرو بن العاص واليًا على مصر بعد فتحها، فأنشأ مدينة الفسطاط، وبنى المسجد الجامع الذي يعرف حتى الآن باسم جامع عمرو، وكان شعب مصر يحبه حبًا شديدًا، وينعم في ظله بالعدل والحرية ورغد العيش، وكان عمرو يحب المصريين ويعرف لهم قدرهم، وظل عمرو بن العاص واليًا على مصر حتى عزله عنها عثمان ابن عفان -رضي الله عنه-، ثم توفي عثمان، وجاءت الفتنة الكبرى بين علي ومعاوية -رضي الله عنهما-، فوقف عمرو بن العاص بجانب معاوية، حتى صارت الخلافة إليه.
    فعاد عمرو إلى مصر مرة ثانية، وظل أميرًا عليها حتى حضرته الوفاة، ومرض مرض الموت، فدخل عليه ابنه عبد الله -رضي الله عنه-، فوجده يبكي، فقال له: يا أبتاه! أما بشرك رسول الله ( بكذا؟ أما بشرك رسول الله ( بكذا؟ فأقبل بوجهه فقال: أني كنت على أطباق ثلاث (أحوال ثلاث)، لقد رأيتني وما أحد أشد بغضًا لرسول الله ( مني، ولا أحب إلى أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار.
    فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي ( فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال فقبضت يدي، فقال: (مالك يا عمرو؟) قال: قلت: أردت أن أشترط: قال: (تشترط بماذا؟) قلت: أن يغفر لي، قال: (أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟)، وما كان أحد أحب إلى من رسول الله ( ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأنني لم أكن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة.
    ثم ولينا أشياء ما أدرى ما حالي فيها، فإذا أنا مت، فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فشنوا على التراب شنًّا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور (الوقت الذي تذبح فيه ناقة)، ويقسم لحمها؛ حتى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي) [مسلم].
    وتوفي عمرو -رضي الله عنه- سنة (43 هـ)، وقد تجاوز عمره (90) عامًا، وقد روى عمرو عن النبي ( (39) حديثًا.


    سيف الله المسلول
    خالد بن الوليد

    إنه خالد بن الوليد -رضي الله عنه-، القائد العبقري الذي لا تزال خططه الحربية في معاركه مثار إعجاب الشرق والغرب، وكان خالد قبل أن يسلم يحارب الإسلام والمسلمين، وقاد جيش المشركين يوم أحد، واستطاع أن يحوِّل نصر المسلمين إلى هزيمة بعد أن هاجمهم من الخلف، عندما تخلى الرماة عن مواقعهم، وظل خالد على شركه حتى كان عام الحديبية، فأرسل إليه أخوه الوليد بن الوليد كتابًا، جاء فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فأني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام، وعقلك عقلك!! ومثل الإسلام لا يجهله أحد، وقد سألني رسول الله ( عنك، فقال: (أين خالد؟) فقلت: يأتي الله به، فقال رسول الله (: (مثله جهل الإسلام، ولو كان جعل نكايته وجده مع المسلمين كان خيرًا له). فاستدرك يا أخي ما فاتك، فقد فاتك مواطن صالحة.
    فلما قرأ خالد كتاب أخيه، انشرح صدره للإسلام، فخرج فلقى عثمان بن طلحة، فحدثه أنه يريد الذهاب إلى المدينة، فشجعه عثمان على ذلك، وخرجا معًا، فقابلهما عمرو بن العاص، وعرفا منه أنه يريد الإسلام أيضًا، فتصاحبوا
    جميعًا إلى المدينة؛ وكان ذلك في نهاية السنة السابعة من الهجرة، فلما قدموا على النبي ( رحب بهم، فأعلنوا إسلامهم، فقال صلى الله عليه
    وسلم لخالد: (قد كنت أرى لك عقلاً رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير) [ابن سعد]. فقال خالد: استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صد عن سبيل الله.
    فقال (: (إن الإسلام يجب (يزيل) ما كان قبله، اللهم اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع منه من صد عن سبيلك) [ابن سعد]. ومنذ ذلك اليوم وخالد يدافع عن راية الله، ويجاهد في كل مكان لإعلاء كلمة الحق، وخرج مع جيش المسلمين المتجه إلى مؤتة تحت إمارة زيد بن حارثة، ويوصى الرسول (: (إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة) [البخاري]، فلما قتل الثلاثة وأصبح الجيش بلا أمير، جعل المسلمون خالدًا أميرهم، واستطاع خالد أن يسحب جيش المسلمين وينجو به.
    وفي فتح مكة، أرسله رسول الله ( إلى بيت العزى، وكان بيتًا عظيمًا لقريش ولقبائل أخرى، فهدمه خالد وهو يقول:
    يَا عِزّ كُفْرَانَكَ لا سُبْحَانَكْ أني رَأيْتُ اللَّهَ قَــدْ أَهَانَكْ
    ويوم حنين، كان خالد في مقدمة جيش المسلمين، وجرح في هذه المعركة، فأتاه رسول الله ( ليطمئن عليه ويعوده، ويقـال: إنـه نـفـث في جرحه فشفي بإذن الله. واستمر خالد في جهاده وقيادته لجيش المسلمين بعد وفاة الرسول (، فحارب المرتدين ومانعي الزكاة، ومدعي النبوة، ورفع راية الإسلام ليفتح بها بلاد العراق وبلاد الشام، فقد كان الجهاد هو كل حياته، وكان يقول: ما من ليلة يهدى إليَّ فيها عروس أنا لها محب أحب إلي من ليلة شديدة البرد كثيرة الجليد في سرية أصبح فيها العدو. [أبو يعلي].
    وكان خالد مخلصا في جهاده، ففي حرب الروم قام في جنده خطيبًا، وقال بعد أن حمد الله: إن هذا يوم من أيام الله، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي، أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم. وكان خالد بن الوليد دائمًا يطمع في إسلام من يحاربه، فكان يدعوهم إلى الإسلام أولاً، فهو يحب للناس الإيمان ولا يرضي لهم دخول النار، فإن أبوا فالجزية ثم الحرب.
    وكان اسم خالد يسبقه في كل مواجهة له مع أعداء الإسلام، وكان الجميع يتعجبون من عبقريته، وقوة بأسه في الحرب، ففي معركة اليرموك خرج (جرجة) أحد قادة الروم من صفوف جنده، وطلب من خالد الحديث معه، فخرج إليه خالد، فقال جرجة: أخبرني فاصدقني ولا تكذبني، فإن الحر لا يكذب، ولا تخادعني فإن الكريم لا يخادع، هل أنزل الله على نبيكم سيفًا من السماء فأعطاه لك فلا تسله على أحد إلا هزمتهم؟ فقال خالد: لا.
    فسأله جرجة: فبم سميت سيف الله؟ فردَّ عليه خالد قائلاً: إن الله بعث فينا نبيه محمدًا ( فدعانا للإسلام فرفضنا دعوته، وعذبناه، وحاربناه، ثم هدانا الله فأسلمنا، فقال الرسول (: (أنت سيف من سيوف الله، سلَّه الله على المشركين)، ودعا لي بالنصر، فسميت سيف الله بذلك، فأنا من أشد المسلمين على المشركين. ثم سأله جرجة عن دعوته، وعن فضل من يدخل في الإسلام، وبعد حوار طويل بينهما شرح الله صدر جرجة للإسلام، فأسلم وتوضَّأ وصلى ركعتين مع خالد بن الوليد، ثم حارب مع صفوف الإيمان، فأنعم الله عليه بالشهادة في سبيله عز وجل.
    وعندما تولى الفاروق عمر الخلافة، عزل خالد من القيادة، وولَّى قيادة الجيش
    أبا عبيدة بن الجراح، فحارب خالد تحت راية الحق جنديًّا مخلصًا مطيعًا لقائده لا يدخر جهدًا ولا رأيًّا في صالح الدين ونصرة الحق، فكان نِعمَ القائد
    ونعم الجندي.
    وظل خالد يجاهد في سبيل ربه حتى مرض مرض الموت، فكان يبكي على فراش الموت، ويقول: لقد حضرت كذا وكذا زحفًا، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، وها أنا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء. وتوفي رضي الله عنه بحمص من أرض الشام سنة (21 هـ).


    أول من أظهر إسلامه
    خباب بن الأرت
    إنه الصحابي خباب بن الأرت -رضي الله عنه-، وكان خباب قد ولد في قبيلة تميم، وأُسر في مكة، فاشترته أم أنمار بنت سباع، وكان صانِعًا للسيوف، يبيعها ويأكل من عمل يده، فلما سمع عن الإسلام أسرع إلى النبي ( ليسمع منه عن هذا الدين الجديد، فشرح الله صدره، ثم أعلن إسلامه ليصبح من أوائل المسلمين.
    وتعرض خباب لشتى ألوان العذاب، لكنه تحمل وصبر في سبيل الله، فقد كانوا يضعون الحديد المحمي على جسده فما يطفئ النار إلا الدهن الموجود في ظهره، وقد سأله عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يومًا عما لقى من المشركين، فقال خباب: يا أمير المؤمنين، انظر إلى ظهري، فنظر عمر، فقال: ما رأيت كاليوم، قال خباب: لقد أوقدت لي نار، وسحبت عليها فما أطفأها إلا ودك ظهري (أي دهن الظهر).
    وذات يوم كثر التعذيب على خباب وإخوانه المسلمين المستضعفين، فذهب مع بعض أصحابه إلى رسول الله (، وكان متكئًا في ظل الكعبة، وقالوا: يا رسول الله، ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال لهم رسول الله (: (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) [البخاري]. فزاد كلام النبي ( خبابًا وأصحابه إيمانًا بنصر الله، وإصرارًا على دعوتهم، فصبروا واحتسبوا ما يحدث لهم عند
    الله -عز وجل-.
    وكانت أم أنمار تأخذ الحديد الملتهب ثم تضعه فوق رأس خباب الذي كان يتلوى من شدة الألم، ولكن الله أخذ بحق خباب من هذه المرأة المشركة حيث أصيبت بسعار جعلها تعوي مثل الكلاب، ولا علاج لها إلا أن تكوى رأسها بالنار، فكان الجزاء من جنس العمل.
    وأحب خباب إسلامه حبًّا شديدًا، جعله يضحي من أجله بأغلى ما يملك من نفس ومال، فقد ذهب إلى العاص بن وائل أحد المشركين الكافرين ليطلب منه ثمن السيوف التي صنعها له قبل ذلك، فيقول له العاص: لا أعطيك شيئًا حتى تكفر بدين محمد، فرد عليه خباب: لا، والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث، فقال له العاص مستهزءًا وساخرًا: فأني إذا مت ثم بعثت، جئتني يوم القيامة، ولي هناك مال وولد فأعطيك؟! فأخبر خباب النبي ( بذلك، فأنزل الله قرآنا كريمًا يذم فيه هذا المشرك، قال تعالى: {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لآوتين مالاً} [مريم: 77]_ [ابن سعد والبخاري].
    وأحب خباب العلم، وحرص على سماع القرآن ونشره بين إخوانه المسلمين، ففي أيام الدعوة الأولى كان خباب يدرس القرآن مع سعيد بن زيد وزوجته فاطمة بنت الخطاب، عندما دخل عليهم عمر بن الخطاب.
    وجاءت الهجرة، فأسرع خباب ملبيًّا أمر النبي (، فهاجر إلى المدينة، وهناك آخى الرسول ( بينه وبين تميم مولى
    خراس بن الصمة -رضي الله عنهما-، وشارك خباب في جميع غزوات الرسول (، وأظهر فيها شجاعة وفروسية، وظلَّ محبًّا للجهاد في سبيل الله، وشارك خباب في الفتوحات أيام أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب
    -رضي الله عنهما-.
    ثم نزل خباب في الكوفة وبنى لنفسه بيتا متواضعًا عاش فيه حياة زاهدة، وبالرغم من هذه الحياة البسيطة، كان يعتقد أنه أخذ من الدنيا الكثير، فكان يبكى على بسط الدنيا له، وكان يضع ماله كله في مكان معروف في داره لكي يأخذ منه كل محتاج من أصحابه الذين يدخلون عليه، وفي مرضه الذي مات فيه دخل عليه بعض الصحابة، فقالوا له: أبشر يا أبا عبد الله، ترد على محمد ( الحوض، فأشار خباب إلى أعلى بيته وأسفله قائلاً: كيف بهذا؟! وقد قال رسول الله (: (أنه يكفي أحدكم مثل زاد الراكب)
    [ابن ماجه]، ولقد رأيتني مع رسول الله ( ما أملك درهمًا، وإن في جانب بيتي (الآن) لأربعين ألف درهم.
    وطلب خباب كفنه، فلما رآه بكى، وقال: لكن حمزة -رضي الله عنه- لم يوجد له كفن إلا بردة ملحاء إذا جعلت على رأسه قلصت (انضمت) عن قدميه، وإذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه، حتى مدت على رأسه، وجعل على قدميه الإذخر.
    ودخل عليه بعض أصحابه فقال لهم: إن في هذا التابوت (الصندوق) ثمانين ألف درهم، والله ما شددت لها من خيط ولا منعتها من سائل، ثم بكى، فقالوا: ما يبكيك؟ قال: أبكى أن أصحابي مضوا ولم تنقصهم الدنيا شيئًا، وإنا بقينا بعدهم حتى لم نجد لها موضعًا إلا التراب. وفي عام (37 هـ) صعدت روح خباب إلى بارئها ودفن بالكوفة، ولما عاد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- من معركة صفين، مر بقبر خباب؛ فقال: رحم الله خبابًا، أسلم راغبًا، وهاجر طائعًا، وعاش مجاهدًا، وابتلى في جسمه أحوالاً.


    راهب الليل
    عبد الله بن عمر بن الخطاب

    إنه الصحابي الكريم عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، ولد بعد البعثة النبوية الشريفة بثلاث سنوات، وعندما هاجر كان عمره إحدى عشرة سنة، وفي غزوة أحد أراد أن يخرج للجهاد، فعرض نفسه على النبي ( فردَّه لصغر سنه، وفي غزوة الخندق ظل يلح على النبي ( حتى وافق على خروجه، وكان عمره خمس عشرة سنة، واستمر بعد ذلك يجاهد في جميع الغزوات والمواقع.
    وكان -رضي الله عنه- يتبع آثار النبي ( ويقتدي به في جميع أموره؛ لدرجة أنه كان يتحرى أن يصلي في كل مكان صلى فيه النبي (، ويسير في كل طريق سار فيه، رجاء أن توافق صلاته أو مشيته مكانًا صلى فيه الرسول ( أو سار فيه، وعلم أن النبي ( نزل تحت شجرة يستظل بها، فكان عبدالله ينزل عندها، ويتعهدها بالسقي فيصب في جذرها حتى لا تيبس. [ابن سعد].
    يقول عبد الله: كان الرجل في حياة النبي ( إذا رأى رؤيا قصها على النبي (، فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على النبي (، وكنت غلامًا شابًا، وكنت أنام في المسجد على عهد النبي (، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان، وإذا فيها أناس قد عرفتهم فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، فلقينا ملك آخر، فقال لي: لم ترع (لا تخف)، فقصصتها على حفصة (أخته وزوج النبي ()، فقصتها حفصة على النبي (، فقال: (نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل) قال سالم: فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلاً [متفق عليه]. وكان إذا فاتته العشاء في جماعة، أحيي بقية ليلته. [أبو نعيم]، وكان لعبد الله مهراس (حجر مجوف) يوضع فيه الماء للوضوء فيصلي ما قدر له، ثم يصير إلى الفراش فيغض إغفاء الطائر (ينام نومًا قصيرًا)، ثم يقوم فيتوضأ ويصلي، يفعل ذلك في الليل أربع مرات أو خمسًا. [ابن المبارك].
    وكان عبد الله من أهل التقوى والورع والعلم، وكان مع علمه الشديد يتحرى في فتواه، ويخاف أن يفتي بدون علم، وقد جاءه يومًا رجل يستفتيه في شيء، فأجابه معتذرًا: لا علم لي بما تسأل عنه، ثم فرح وقال: سئل ابن عمر عما لا يعلم فقال: لا أعلم. وقال عنه ميمون بن مهران: ما رأيت أتقى من ابن عمر.
    وكان كارهًا لمناصب الدنيا، خائفًا من تحمل أعبائها، وقد أرسل إليه
    عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وعرض عليه منصب القضاء فرفض ابن عمر، وكان عبد الله يحب الحق ويكره النفاق، وقد جاء إليه عروة بن الزبير بن العوام وقال له: يا أبا عبد الرحمن، إنا نجلس إلى أئمتنا هؤلاء فيتكلمون بالكلام، ونحن نعلم أن الحق غيره فنصدقهم، ويقضون بالجور (أي يحكمون بين الناس بغير الحق) فنقويهم ونحسنه لهم، فكيف ترى في ذلك؟! فقال ابن عمر لعروة: يابن أخي، كنا مع رسول الله ( نعدَّ هذا النفاق، فلا أدرى كيف هو
    عندكم؟!
    وذات يوم رأى رجلاً يمدح رجلاً آخر، فأخذ ابن عمر ترابًا ورمى به في وجهه وقال له: إن رسول الله ( قال: (إذا رأيتم المدَّاحين فاحثوا (ألقوا) في وجوههم التراب) [مسلم]. وكان رقيق القلب، حسن الطباع، لا يسمع ذكر النبي ( إلا بكى، وما كان يمر بمسجده وقبره ( إلا بكى حبًّا وشوقًا إليه.
    وكان حسن الخلق لم يلعن خادمه قط، ولم يسَبَّ أحدًا طوال حياته، وقد ارتكب خادمه خطأ ذات مرة فهمَّ أن يشتمه، فلم يطاوعه لسانه، وندم على ما همَّ به فأعتقه لوجه الله تعالى، وكان قارئًا للقرآن، خاشعًا لله، وكلما قرأ أو سمع آية فيها ذكر القيامة بكى حتى تبتل لحيته من كثرة الدموع، فعن نافع قال: كان ابن عمر إذا قرأ: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} [الحديد: 16] بكى حتى يغلبه البكاء. [أبو نعيم].
    وكان يعظم صحابة النبي ( ويعرف قدرهم، وكان يخرج إلى السوق من أجل السلام على المسلمين فقط، وكان كثير التصدق وجوادًا كريمًا يكثر الإنفاق في سبيل الله، وكان إذا أحب شيئًا أو أعجب به أنفقه في سبيل
    الله، وكان من أشد الناس زهدًا في نعيم الدنيا، ومن أحسن الناس حبا لفعل
    الخير، فيحكى أنه كان مريضًا فقال لأهله: أني أشتهي أن آكل سمكًا فأخذ الناس يبحثون له عن سمك فلم يجدوا إلا سمكة واحدة بعد تعب شديد، فأخذتها زوجته صفية بنت أبي عبيدة فأعدتها، ثم وضعتها أمامه فإذا بمسكين يطرق الباب، فقال له ابن عمر: خذ هذه السمكة، فقال أهله: سبحان الله! قد أتْعَبتنا حتى حصلنا عليها، وتريد أن تعطيها للمسكين؟! كلْ أنت السمكة وسنعطي له درهما فهو أنفع له يشتري به ما يريد.
    فقال ابن عمر: لا أريد أن أحقق رغبتي وأقضي شهوتي، إنني أحببت هذه السمكة فأنا أعطيها المسكين إنفاقًا لِمَا أُحِبُّ في سبيل الله. [ابن سعد وأبو نعيم والهيثمي].
    وبينما كان عبد الله -رضي الله عنه- يؤدي فريضة الحج أصابه سن رمح كان مع أحد الرجال في منى فجرحه، فأدى هذا الجرح إلى وفاته، ودفن بمكة في سنة (73هـ)، وقد روى كثيرًا من أحاديث الرسول (، حيث روى ألفين وست مئة وثلاثين حديثًا.


    حبر الأمة
    عبد الله بن عباس

    إنه الصحابي الجليل عبد الله بن عباس -رضي الله عنه-، ابن عم النبي (، ولد -رضي الله عنه- قبل الهجرة بثلاث سنين، وبايع رسول الله ( وهو صغير لم يبلغ الحلم، وهاجر إلى المدينة مع أبويه قبل فتح مكة.
    وكان ابن عباس -رضي الله عنه- محبًا للعلم منذ صغره، يقبل عليه، ويهتم به حفظًا وفهمًا ودراسة، وما إن اشتد عوده حتى أصبح أعلم الناس بتفسير القرآن وأحكام السنة المطهرة، يأتي إليه الناس من كل مكان يتعلمون منه أحكام الدين على يديه. دعا له رسول الله ( قائلاً: (اللهم فقهه في الدين) [البخاري]، وكان يسمى بـترجمان القرآن.
    ولقِّب بالحَبْر لكثرة علمه بكتاب الله وسنة رسوله (، ويروى أنه كان معتكفًا في مسجد الرسول (، فأتاه رجل على وجهه علامات الحزن والأسى، فسأله عن سبب حزنه؛ فقال له: يا ابن عم رسول الله، لفلان علي حق ولاء، وحرمة صاحب هذا القبر (أي قبر الرسول () ما أقدر عليه؛ فقال له: أفلا أكلمه فيك؟ فقال الرجل: إن أحببت؛ فقام ابن عباس، فلبس نعله، ثم خرج من المسجد، فقال له الرجل: أنسيت ما كنت فيه؟*! (أي أنك معتكف ولا يصح لك الخروج من المسجد).
    فرد عليه قائلاً: لا، ولكن سمعت صاحب هذا القبر ( والعهد به قريب -فدمعت عيناه- وهو يقول: (من مشى في حاجة أخيه، وبلغ فيها كان خيرًا له من اعتكاف عشر سنين، ومن اعتكف يومًا ابتغاء وجه الله تعالى، جعل الله بينه وبين النار ثلاث خنادق أبعد مما بين الخافقين (المشرق والمغرب))
    [الطبراني والبيهقي والحاكم].
    وكان يحب إخوانه المسلمين، ويسعى في قضاء حوائجهم، وكان يقول: لأن أعول أهل بيت من المسلمين شهرًا أو جمعة أو ما شاء الله أحب إلي من حجة بعد حجة، ولهدية أهديها إلى أخ لي في الله أحب إلي من دينار أنفقه في سبيل الله. وكان عمر -رضي الله عنه- يحب عبد الله بن عباس ويقربه من مجلسه ويستشيره في جميع أموره، ويأخذ برأيه رغم صغر سنه، فعاب ناس من المهاجرين ذلك على عمر، فقال لهم عمر: أما أني سأريكم اليوم منه ما تعرفون فضله، فسألهم عمر عن تفسير سورة {إذا جاء نصر الله والفتح}، فقال بعضهم: أمر الله نبيَّه إذا رأى الناس يدخلون في دين الله أفواجًا أن يحمده ويستغفره، فقال عمر: يا ابن عباس، تكلم. فقال عبدالله: أعلم الله رسوله ( متى يموت، أي: فهي علامة موتك فاستعد، فسبح بحمد ربك واستغفره. [البخاري وأحمد والترمذي والطبراني وأبو نعيم].
    وكان سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- يقول عن ابن عباس: ما رأيت أحدًا أحضر فهمًا، ولا ألب لبًّا (عقلاً)، ولا أكثر علمًا، ولا أوسع حلمًا من ابن عباس، لقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات فيقول: قد جاءت معضلة، ثم لا يجاوز قوله وإن حوله لأهل بدر. [ابن سعد]. وكانت السيدة عائشة -رضي الله عنها- تقول: أعلم مَن بقي بالحجِّ ابن عباس.
    وكان ابن عباس يقيم الليل، ويقرأ القرآن، ويكثر من البكاء من خشية الله، وكان متواضعًا يعرف لأصحاب النبي ( قدرهم، ويعظمهم ويحترمهم، فذات يوم أراد زيد بن ثابت -رضي الله عنه- أن يركب ناقته فأسرع ابن عباس إليه لينيخ له الناقة، فقال له زيد: تنيخ لي الناقة يا ابن عم رسول الله؟! فرد عليه ابن عباس قائلاً: هكذا أمرنا أن نأخذ بركاب كبرائنا.
    وكان ابن عباس كريمًا جوادًا، وذات مرة نزل أبو أيوب الأنصاري البصرة حينما كان ابن عباس أميرًا عليها، فأخذه ابن عباس إلى داره وقال له: لأصنعن بك كما صنعت مع رسول الله (، فاستضافه ابن عباس خير ضيافة. وحضر ابن عباس معركة صفين، وكان في جيش الإمام عليَّ، وأقبل ابن عباس على العلم والعبادة حتى أتاه الموت سنة (67 هـ)، حينما خرج من المدينة قاصدًا الطائف، وكان عمره آنذاك (70) سنة، وصلى عليه الإمام محمد بن الحنفية، ودفنه بالطائف وهو يقول: اليوم مات رَبَّاني هذه الأمة.
    وكان ابن عباس -رضي الله عنه- من أكثر الصحابة رواية عن النبي ( فبلغ مسنده (1660) حديثًا، كما كان من أكثر الصحابة فقهًا، وله اجتهادات فقهية تميزه عن غيره من الصحابة.



    الشهيد العائذ بالبيت
    عبد الله بن الزبير

    إنه أبو بكر عبد الله بن الزبير بن العوام -رضي الله عنه-، ابن ذات النطاقين
    أسماء بنت أبي بكر، وقد وضعته أمه حين وصلت قُباء، فكان أول مولود للمهاجرين بعد الهجرة، ثم أتت به أمه الرسول ( فوضعه في حجره، ثم دعا بتمرة فمضغها ثم وضعها في فمه، فكان أول شيء دخل بطنه ريق النبي (، ثم دعا له بالبركة، وسماه عبد الله على اسم جده
    أبي بكر وكناه بكنيته. [مسلم]، وكان ميلاده حدثًا عظيمًا أبطل مزاعم اليهود الذين زعموا أنهم سحروا المسلمين فلن يولد لهم بالمدينة ولد، وكبَّر الصحابة حين ولد تكبيرة اهتزت المدينة منها.
    ونشأ عبد الله في بيت النبوة حيث تربى في حجر خالته عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها-، وظهرت عليه علامات الشجاعة منذ طفولته. وذات يوم تحدث بعض الصحابة مع النبي ( في أمر أبناء المهاجرين والأنصار الذين ولدوا في الإسلام حتى ترعرعوا من أمثال عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن جعفر، وعمر بن أبي سلمة، وقالوا له: لو بايعتهم فتصيبهم بركتك، ويكون لهم ذكر؟، وجاءوا بهم إلى النبي ( فخافوا ووجلوا من النبي ( إلا عبد الله بن الزبير الذي اقتحم أولهم، فرآه النبي ( فتبسَّم، وقال: (إنه ابن أبيه). وبايعه النبي ( وهو ابن سبع سنين. [مسلم].
    وكان عبد الله فارسًا شجاعًا يحب الجهاد، ويذهب مع أبيه ليتدرب على ركوب الخيل والمبارزة، وشهد معه معارك عديدة منها اليرموك، واشترك في فتح إفريقية، وهو الذي حمل البشرى إلى الخليفة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بفتحها. وكان -رضي الله عنه- عابدًا لله، قارئًا لكتاب الله، قوامًا لليل، صوامًا للنهار، قال عنه عمرو بن دينار: ما رأيت مصليًا أحسن صلاة من ابن الزبير. وقال ثابت البناني: كنت أمرُّ بابن الزبير وهو خلف المقام يصلي، كأنه خشبة منصوبة لا تتحرك. وكان أحد الذين أمرهم عثمان -رضي الله عنه- بنسخ المصاحف.
    قال عمر بن عبد العزيز يومًا لابن أبي مليكة: صف لنا عبد الله بن الزبير فقال: والله ما رأيت نفسًا رُكبت بين جنبين مثل نفسه، ولقد كان يدخل في الصلاة، فيخرج من كل شيء إليها، وكان يركع أو يسجد فتقف العصافير فوق ظهره وكاهله لا تحسبه من طول ركوعه وسجوده إلا جدارًا.
    واشترك -رضي الله عنه- مع أبيه في موقعة الجمل، وبعد أن أصبح الحكم في
    يد بني أمية ظل عبد الله على خلاف معهم، فاعترض على ولاية يزيد بن معاوية. ولما توفي يزيد بايعت جميع الولايات الإسلامية عبدالله بن الزبير أميرًا للمؤمنين، واتخذ عبدالله من مكة عاصمة لدولته، وبسط يده على الحجاز واليمن والبصرة والكوفة والشام كلها ما عدا دمشق، وظل عبدالله باسطًا يده على هذه البلاد حتى استطاع مروان بن الحكم أن ينتزع منه هذه الولايات عدا الحجاز التي ظلت تحت سيطرة عبدالله.
    ورغم ذلك لم يهدأ الأمويون، فأخذوا يشنون حروبًا متصلة ضد ابن الزبير، انهزموا في أكثرها حتى جاء عهد عبد الملك بن مروان الذي أرسل
    الحجاج بن يوسف الثقفي على رأس جيش كبير لغزو مكة عاصمة ابن الزبير، فحاصرها ستة أشهر مانعًا عن الناس الماء والطعام كي يحملهم على ترك عبد الله بن الزبير، وتحت وطأة الجوع استسلم الكثير من جنوده، ووجد عبد الله نفسه وحيدًا، فقرر أن يتحمل مسئوليته حتى النهاية، وراح يقاتل جيش الحجاج في شجاعة فائقة، وكان عمره يومئذ سبعين سنة.
    وأثناء ذلك ذهب عبد الله إلى أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنها-، وأخذ يشرح لها موقفه، فقالت له: يا بني، إنك أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق، وتدعو إلى حق، فاصبر عليه حتى تموت في سبيله، ولا تملك من رقبتك غلمان بني أمية، وإن كنت تعلم أنك أردت الدنيا فلبئس العبد أنت أهلكت نفسك، وأهلكت من قتل معك. فقال عبد الله: والله يا أماه، ما أردت الدنيا، ولا ركنت إليها، وما جُرْتُ في حكم الله أبدًا، ولا ظلمت، ولا غدرت.
    فقالت أمه أسماء: أني لأرجو الله أن يكون عزائي فيك حسنًا، إن سبقتني إلى الله
    أو سبقتك، اللهم ارحم طول قيامه في الليل، وظمأه في الهواجر (الأيام الشديدة الحر)، وبرَّه بأبيه وبي، اللهم أني أسلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين.
    وانطلق عبد الله يقاتل الحجاج مع مَنْ تبقَّى معه من المسلمين حتى استشهد ومعه كثير من المسلمين وكان ذلك عام (37هـ). ولما قتل عبد الله كبر أصحاب الحجاج فسمعهم ابن عمر، فقال: أما والله للذين كبروا عند مولده خير من هؤلاء الذين كبروا عند قتله. ثم صلبه الحجاج على إحدى الطرق، فمرَّ به ابن عمر وهو مصلوب فقال: السلام عليك يا أبا خبيب، قالها ثلاث مرات، أما والله، لقد كنت أنهاك عن هذا (يقصد قتال بني أمية) ثم أخذ يثني عليه ويذكر صيامه وقيامه ومكانته. وجاءت أمه أسماء بنت أبي بكر وكانت عجوزًا مكفوفة البصر، فقالت للحجاج: أما آن لهذا الراكب أن ينـزل (تقصد عبد الله المصلوب)؟ فأنزله، فغسله المسلمون ودفنوه -رضي الله عنه-.


    شهيد السماء
    سعد بن معاذ

    إنه الصحابي الجليل سعد بن معاذ -رضي الله عنه-، سيد الأوس، أسلم بعد بيعة العقبة الأولى، وحضر بيعة العقبة الثانية.
    ولإسلام سعد قصة طريفة، فقد بعث النبي ( مصعب بن عمير -رضي الله عنه- ليدعو أهل المدينة إلى الإسلام، ويُعلِّم من أسلم منهم القرآن وأحكام الدين، وجلس مصعب ومعه الصحابي أسعد بن زرارة في حديقة
    بالمدينة، وحضر معهما رجال ممن أسلموا، فلما سمع بذلك سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، وكانا سيديّ قومهما، ولم يكونا أسلما بعد، قال سعد لأسيد بن حضير: انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا ديارنا ليسفها ضعفاءنا، فازجرهما، وانههما عن أن يأتيا ديارنا، فأخذ أسيد حربته ثم أقبل عليهما، فلما رآه أسعد بن زراة قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك، فاصدق الله فيه.
    ووقف أسيد يسبهما، فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره، فجلس أسيد، واستمع إلى مصعب، واقتنع بإسلامه، فأسلم، ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد
    من قومه، وسأرسله إليكما الآن سعد بن معاذ، ثم أخذ أسيد حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس، فقال له: إن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وكان أسعد ابن خالة سعد، فقام سعد غاضبًا فأسرع وأخذ الحربة في يده. فلما رآهما جالسين مطمئنين، عرف أن أسيدًا إنما قال له ذلك ليأتي به إلى هذا المكان، فأخذ يشتمهما، فقال أسعد لمصعب: أي مصعب، جاءك والله سيدٌ من ورائه قومه إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم أحد.
    فقال مصعب لسعد: أو تقعد فتسمع؟ فإن رضيت أمرًا، ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته، عزلنا عنك ما تكره. قال سعد: أنصفت، ثم وضع الحربة، وجلس. فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن كما فعل مع أسيد، فلمح مصعب وأسعد الإسلام في وجه سعد بن معاذ قبل أن يتكلم؛ فقد أشرق وجهه وتهلل، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قال: تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلى ركعتين.
    ففعل سعد ذلك، ثم أخذ حربته ورجع إلى قومه، فلما رآه قومه قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به، فقال لهم سعد: يا بني
    عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيًّا. قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام، حتى تؤمنوا بالله وبرسوله، فما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا ودخل في الإسلام. وبعد انتشار الإسلام في ربوع المدينة، أذن الله سبحانه لنبيه ( بالهجرة إلى المدينة، فكان سعد خير معين لإخوانه المهاجرين إلى المدينة.
    وجاءت السنة الثانية من الهجرة، والتي شهدت أحداث غزوة بدر، وطلب النبي ( المشورة قبل الحرب، فقام أبو بكر وتحدث ثم قام، فتحدث عمر، ثم قام المقداد بن عمرو، وقالوا وأحسنوا الكلام، ولكنهم من المهاجرين، فقال الرسول (: (أشيروا علي أيها الناس)، فقال سعد بن معاذ زعيم الأنصار: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: (: أجل)، فقال سعد: لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر، فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصُبُر في الحرب، صُدُق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقرَّ به عينك، فسر بنا على بركة الله.
    فسُرَّ رسول الله ( عندما سمع كلام سعد، ثم قال: (سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم) [ابن هشام].
    وقبل أن تبدأ المعركة قال سعد بن معاذ: يا نبي الله، ألا نبني لك عريشًا تكون فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا؛ كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى، جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا، فأثنى عليه رسول الله ( خيرًا، ودعا له بخير، ثم بني لرسول الله ( عريشًا، فجلس فيه يدعو الله أن ينصر الإسلام. [ابن هشام].
    وأبلى المسلمون في غزوة بدر بلاء حسنًا، وكان لهم النصر.
    ويروى أن سعد بن معاذ كان يقول: ثلاث أنا فيهن رجل كما ينبغي، وما سوى ذلك فأنا رجل من الناس، ما سمعت من رسول الله ( حديثًا قط إلا علمت أنه حق من الله عز وجل، ولا كنت في صلاة قط فشغلت نفسي بغيرها حتى أقضيها، ولا كنت في جنازة قط، فحدثت نفسي بغير ما تقول، ويقال لها، حتى أنصرف عنها. وكان سعيد بن المسيب يقول: هذه الخصال ما كنت أحسبها إلا في نبي.
    وتأتى غزوة أحد، ويظهر سعد فيها حماسة شديدة وشجاعة عظيمة، وظل يدافع عن النبي ( حتى عاد المشركون إلى مكة.
    وفي غزوة الخندق، تحالف المشركون وتجمعوا من كل مكان يحاصرون المدينة، واستغلَّ بنو غطفان الموقف، فبعثوا إلى رسول الله ( كتابًا يعرضون فيه أن يتركوا القتال في مقابل أن يحصلوا على ثلث ثمار المدينة، فاستشار الرسول ( صحابته في هذا.
    فقال سعد: يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك، وكانوا لا يطمعون أن يأكلوا منا ثمرة واحدة، أفحين أكرمنا الله بالإسلام، نعطيهم أموالنا! والله ما لنا بهذه من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فرضي الرسول ( والصحابة بذلك.
    وأصيب سعد بن معاذ في غزوة الخندق بسهم حين رماه ابن العرقة وقال: خذها وأنا ابن العرقة، فقال سعد: عرق الله وجهك في النار. ثم دعا سعد ربه فقال: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئًا، فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلى من أن أجاهدهم فيك من قوم آذوا نبيك، وكذبوه وأخرجوه. اللهم إن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم، فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقر عيني من قريظة. [أحمد وابن هشام].
    وانتهت غزوة الخندق بهزيمة المشركين، وبعد الغزوة ذهب الرسول ( هو وصحابته لحصار بني قريظة الذين تآمروا مع المشركين على المسلمين، وخانوا عهد الرسول (، وغدروا بالمسلمين، وجعل الرسول ( سعد بن معاذ هو الذي يحكم فيهم، فأقبل سعد يحملونه وهو مصاب، وقال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم. ثم التفت إلى النبي ( وقال: إني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى ذراريهم ونساؤهم، فقال الرسول (: (لقد حكمت فيهم بحكم الله) [ابن عبدالبر].
    ثم يموت سعد بن معاذ -رضي الله عنه-، ويلقى ربه شهيدًا من أثر السهم، وأخبر الرسول ( صحابته أن عرش الرحمن قد اهتز لموت سعد، وجاء جبريل إلى رسول الله ( وقال له: من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء واستبشر به أهلها؟
    وأسرع النبي ( وأصحابه إلى بيت سعد ليغسلوه ويكفنوه، فلما فرغوا من تجهيزه والصلاة عليه، حمله الصحابة فوجدوه خفيفًا جدًّا، مع أنه كان ضخمًا طويلاً، ولما سئل الرسول ( عن ذلك قال: (إن الملائكة كانت تحمله) [ابن عبد البر]، وقال (: (شهده سبعون ألفًا من الملائكة) [ابن عبد البر].
    وجلس الرسول ( على قبره، فقال: (سبحان الله) مرتين، فسبح القوم ثم قال: (الله أكبر) فكبروا، وقال النبي (: (لو نجا أحد من ضغطة القبر، لنجا منها سعد بن معاذ) [ابن عبد البر]. وكانت وفاته -رضي الله عنه- سنة (5هـ)، وهو ابن سبع وثلاثين سنة، ودفن بالبقيع.

    الكريم
    سعد بن عبادة

    إنه سعد بن عبادة -رضي الله عنه- زعيم الخزرج، وحامل راية الأنصار، أمه عمرة بنت مسعود، وكان يكنى أبا ثابت، وأبا قيس، وقد أسلم مبكرًا، وحضر بيعة العقبة الثانية مع سبعين رجلاً وامرأتين من الأنصار، وكان أحد النقباء الإثني عشر.
    ورغم أن سعدًا كان سيد قومه، لم تمنعه تلك السيادة من أن ينال قسطًا من تعذيب قريش، وذلك أنه بعد أن تمت بيعة العقبة الثانية، وأخذ الأنصار يستعدون للسفر والرجوع إلى المدينة، علمت قريش بمبايعتهم للنبي (، واتفاقهم معه على الهجرة إلى المدينة ليناصروه ضد قوى قريش، فجن جنونهم، وطاردوا المسلمين، حتى أدركوا منهم سعد بن عبادة، فأخذه المشركون، وربطوا يديه إلى عنقه، وعادوا به إلى مكة حيث التفوا حوله يضربونه، وينزلون به أشد العذاب.
    يقول سعد: فوالله إني لفي أيديهم إذ طلع عليَّ نفر من قريش فيهم رجل وضئ، أبيض، شعشاع من الرجال (يقصد سهيل بن عمرو)، فقلت في نفسي: إن يك عند أحد من القوم خير، فعند هذا، فلما اقترب مني رفع يده فلكمني (ضربني) لكمة شديدة، فقلت في نفسي: لا والله، ما عندهم بعد هذا من خير، فو الله إني لفي أيديهم يسحبونني إذ أوى (جاء) إلى رجل ممن كان معهم فقال: ويحك، أما بينك وبين أحد من قريش جوار؟ قلت: بلى، كنت أُجير لجبير بن مطعم تجارة، وأمنعهم ممن يريد ظلمهم ببلادي، وكنت أجير للحارث بن حرب بن أمية، فقال الرجل: فاهتف باسم الرجلين، واذكر ما بينك وبينهما من جوار، ففعلت،
    وخرج الرجل إليهما، فوجدهما في الكعبة، فأخبرهما أن رجلا من الخزرج
    يضرب بالأبطح، وهو يهتف باسميهما أن بينه وبينهما جوارًا، فسألاه عن اسمي، فقال: سعد بن عبادة، فقالا: صدق والله، وجاءا فخلصاني من أيديهم.
    [ابن سعد].
    وعندما هاجر الرسول ( وأصحابه إلى المدينة استقبلهم سعد خير استقبال، وسخر ماله لخدمتهم، وعرف سعد بالجود والكرم، وبلغت شهرته في ذلك الآفاق، وكان دائمًا يسأل الله المزيد من رزقه وخيره، فيقول: اللهم هب لي مجدا، لا مجد إلا بفعال، ولا فعال إلا بمال، اللهم إنه لا يصلحني القليل، ولا أصلُح عليه. [الحاكم].
    وكان الرجل من الأنصار يستضيف واحدًا أو اثنين أو ثلاثة بينما هو يستضيف ثمانين، وكان مناديه يصعد أعلى داره وينادي: من كان يريد شحمًا ولحمًا فليأت. وقد دعا له النبي ( فقال: (اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة) [أحمد].
    وكان سعد يجيد الرمي، وكانت له فدائية وشجاعة فائقة، قال عنها ابن عباس
    -رضي الله عنهما-: كان لرسول الله ( في المواطن كلها رايتان؛ مع علي راية المهاجرين، ومع سعد بن عبادة راية الأنصار.
    [عبد الرزاق وأحمد].
    ووقف سعد بن عبادة موقفًا شجاعًا في بدر، حينما طلب النبي ( مشورة الأنصار، فقام سعد مشجعًا على القتال، فقال: يا رسول الله، والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا.
    [أحمد ومسلم].
    وفي غزوة الخندق تجمعت القبائل الكافرة ضد الإسلام، وحاصرت المدينة، وعرضت قبيلة غطفان على النبي ( أن ينسحبوا من جيش الأحزاب، ولا يقفوا مع الكفار، في مقابل أن يأخذوا ثلث ثمار المدينة، فشاور الرسول ( كلا من سعد بن عبادة وسعد بن معاذ في هذا الأمر، فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله، أمرًا تحبه فنصنعه، أم شيئًا أمرك الله
    به، ولابد لنا من العمل به، أم شيئًا تصنعه لنا؟ فقال رسول الله (: (إنما هو شيء أصنعه لكم، لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس
    واحدة).
    فقال سعد بن معاذ: والله يا رسول الله، ما طمعوا بذلك منا قط في الجاهلية، فكيف اليوم؟ وقد هدانا الله بك وأكرمنا وأعزنا، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فقال رسول الله (: (فأنت وذاك)
    [ابن هشام]. وبعد وفاة النبي ( اجتمع الأنصار في سقيفة
    بني ساعدة، والتفوا حول سعد بن عبادة منادين بأن يكون خليفة رسول الله ( من الأنصار، ولكن عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح رأيا أن أبا بكر أحق بالخلافة بعد رسول الله (، فوافق المسلمون على رأيهما، وبايع سعد أبا بكر -رضي الله عنه- بالخلافة، وتوفي سعد في خلافة
    عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.


    ابن الإسلام
    سلمان الفارسي

    إنه الصحابي الجليل سلمان الفارسي، أو سلمان الخير، أو الباحث عن الحقيقة، وكان -رضي الله عنه- إذا سئل مَنْ أنت؟ قال: أنا ابن الإسلام، من بني آدم، وقد اشتهر بكثرة العبادة، وكثرة مجالسته للنبي (، فلم يفارقه إلا لحاجة، وكان النبي ( يحبه حبًّا شديدًا، وسماه أبو هريرة صاحب الكتابين (يعني الإنجيل والفرقان)، وسمَّاه علي بن أبي طالب لقمان الحكيم، وقد آخى النبي ( بينه وبين أبي الدرداء.
    يقول سلمان -رضي الله عنه- عن نفسه: (كنت رجلاً من أهل أصبهان من قرية يقال لها جيّ، وكان أبي دُهْقانها (رئيسها)، وكنت من أحب عباد الله إليه، وقد اجتهدت في المجوسية حتى كنت قاطن النار (ملازمها) الذي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة.
    وكان لأبي ضَيْعَة (أرض)، أرسلني إليها يومًا فخرجت فمررت بكنيسة للنصارى، فسمعتهم يصلُّون، فدخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فأعجبني ما رأيت من صلاتهم، وقلت لنفسي: هذا خير من ديننا الذي نحن عليه فما برحتهم (تركتهم) حتى غابت الشمس، ولا ذهبت إلى ضيعة أبي، ولا رجعت إليه حتى بعث في أثري من يبحث عني، وسألت النصارى حين أعجبني أمرهم وصلاتهم عن أصل دينهم، فقالوا: في الشام، وقلت لأبي حين عُدت إليه: إني مررت على قوم يُصلّون في كنيسة لهم فأعجبتني صلاتهم، ورأيت أن دينهم خير من ديننا، فحاورني وحاورته، ثم جعل في رجلي حديدًا وحبسني.
    وأرسلت إلى النصارى أخبرهم أني دخلت في دينهم، وسألتهم إذا قدم عليهم ركب من الشام أن يخبروني قبل عودتهم إليها؛ لأرحل معهم، وقد فعلوا فحطمت الحديد، وخرجت، وانطلقت معهم إلى الشام، وهناك سألت عن عالمهم فقيل لي: هو الأسقف (رئيس من رؤساء النصارى) صاحب الكنيسة، فأتيته وأخبرته خبري، فأقمت معه أخدم وأصلي وأتعلم، وكان هذا الأسقف رجل سوء في دينه، إذ كان يجمع الصدقات من الناس ليوزعها على الفقراء، ولكنه كان يكتنـزها لنفسه.
    فلما مات جاءوا بآخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلاً على دينهم خيرًا منه، ولا أعظم رغبة في الآخرة وزهدًا في الدنيا، ودأبًا على العبادة، فأحببته حبًّا ما علمت أنني أحببت أحدًا مثله قبله، فلما حضره قدره (الموت)، قلت له: إنه قد حضرك من أمر الله ما ترى، فبم تأمرني؟ وإلى مَنْ توصى بي؟ قال: أي بني، ما أعرف من الناس على مثل ما أنا عليه إلا رجلاً بالموصل.
    فلما توفي أتيت صاحب الموصل، فأخبرته الخبر، وأقمت معه ما شاء الله أن أقيم، ثم حضرته الوفاة، فسألته فدلني على عابد في نصيبين، فأتيته وأخبرته خبري، ثم أقمت معه ما شاء الله أن أقيم، فلما حضرته الوفاة سألته، فأمرني أن ألحق برجل في عمورية من بلاد الروم، فرحلت إليه وأقمت معه، واصطنعت لمعاشي بقرات وغنيمات، ثم حضرته الوفاة، فقلت له: إلى من توصي بي؟ فقال لي: يا بني ما أعرف أحدًا على مثل ما كنا عليه، آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك (أتى عليك) زمان نبي يبعث بدين إبراهيم حنيفًا، يهاجر إلى أرض ذات نخل بين حرتين، فإن استطعت أن تخلص (تذهب) إليه فافعل، وإن له آيات لا تخفى، فهو لا يأكل الصدقة، ويقبل الهدية، وإن بين كتفيه خاتم النبوة، إذا رأيته عرفته.
    ومرَّ بي ركب ذات يوم، فسألتهم عن بلادهم فعلمت أنهم من جزيرة العرب، فقلت لهم: أعطيكم بقراتي هذه وغنمي على أن تحملوني معكم إلى أرضكم؟ قالوا: نعم. واصطحبوني معهم حتى قدموا بي وادي القرى، وهناك ظلموني وباعوني إلى رجل من يهود، وأقمت عنده حتى قدم عليه يومًا رجل من يهود بني قريظة، فابتاعني منه، ثم خرج بي حتى قدمت المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها حتى أيقنت أنها البلد التي وُصِفَتْ لي.
    وأقمت معه أعمل له في نخله، وإني لفي رأس نخلة يومًا، وصاحبي جالس تحتها، إذ أقبل رجل من بني عمه فقال يخاطبه: قاتل الله بني قيلة (الأوس والخزرج)، إنهم ليقاصفون (يجتمعون) على رجل بقباء قادم من مكة يزعمون أنه نبي، فوالله ما هو إلا أن قالها حتى أخذتني العُرَوَاءُ (ريح باردة)، فرجفت النخلة حتى كدت أسقط فوق صاحبي، ثم نزلت سريعًا أقول ما هذا الخبر؟ فرفع سيدي يده ولكزني لكزة شديدة، ثم قال: مالك ولهذا؟ أقبل على عملك، فأقبلت على عملي.
    ولما أمسيت جمعت ما كان عندي ثم خرجت حتى جئت رسول الله ( بقُباء، فدخلت عليه ومعه نفر من أصحابه، فقلت له: إنكم أهل حاجة وغربة، وقد كان عندي طعام نذرته للصدقة، فلما ذُكر لي مكانكم رأيتكم أحق الناس به فجئتكم به، ثم وضعته، فقال الرسول ( لأصحابه: كلوا باسم الله، وأمسك هو فلم يبسط إليه يدًا، فقلت في نفسي: هذه والله واحدة، إنه لا يأكل الصدقة.
    ثم رجعت، وعدت إلى الرسول ( في الغداة أحمل طعامًا، وقلت له عليه السلام: إني رأيتك لا تأكل الصدقة، وقد كان عندي شيء أحب أن أكرمك به هدية، ووضعته بين يده، فقال لأصحابه: كلوا باسم الله، وأكل معهم، قلت لنفسي: هذه والله الثانية، إنه يأكل الهدية، ثم رجعت فمكثت ما شاء الله، ثم أتيته فوجدته في البقيع قد تبع جنازة، وحوله أصحابه وعليه شملتان (الشملة: كساء من الصوف) مؤتزرًا بواحدة، ومرتديًا الأخرى، فسلّمت عليه، ثم عدلت لأنظر أعلى ظهره، فعرف أني أريد ذلك، فألقى بردته عن كاهله، فإذا العلامة بين كتفيه خاتم النبوة، كما وصفه لي صاحبي، فأكببت عليه أقبله وأبكي.
    ثم دعاني عليه الصلاة والسلام فجلست بين يديه، وحدثته كما أحدثكم الآن، ثم أسلمت، وحال الرقُّ بيني وبين شهود (حضور) بدر وأحد، وفي ذات يوم قال الرسول (: (كاتب سيدك حتى يعتقك)، فكاتبته، وأمر الرسول ( الصحابة كي يعاونوني وحرر الله رقبتي، وعشت حُرًّا مسلمًا، وشهدت مع رسول الله ( غزوة الخندق والمشاهد كلها. [أحمد والطبراني].
    وكان سلمان هو الذي أشار بحفر الخندق حول المدينة عندما أرادت الأحزاب الهجوم على المدينة، وعندما وصل أهل مكة المدينة، ووجدوا الخندق، قال أبو سفيان: هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها. ووقف الأنصار يومها يقولون: سلمان منا، ووقف المهاجرون يقولون: بل سلمان منا، وعندها ناداهم الرسول ( قائلاً: (سلمان منا آل البيت) [ابن سعد].
    ومما يحكى عن زهده أنه كان أميرًا على المدائن في خلافة الفاروق عمر، وكان عطاؤه من بيت المال خمسة آلاف دينار، لا ينال منه درهمًا واحدًا، ويتصدق به على الفقراء والمحتاجين، ويقول: (أشتري خوصًا بدرهم فأعمله، ثم أبيعه بثلاثة دراهم، فأعيد درهمًا فيه، وأنفق درهمًا على عيالي، وأتصدق بالثالث، ولو أن عمر بن الخطاب نهاني عن ذلك ما انتهيتُ) [أبو نعيم].
    ويروى أنه كان أميرًا على سرية، فمرَّ عليه فتية من الأعداء وهو يركب حمارًا، ورجلاه تتدليان من عليه، وعليه ثياب بسيطة مهلهلة، فسخروا منه، وقالوا للمسلمين في سخرية وازدراء: هذا أميركم؟ فقيل لسلمان: يا أبا عبد الله ألا ترى هؤلاء وما يقولون؟ فقال سلمان: دعهم فإن الخير والشر فيما بعد اليوم.
    [ابن سعد].
    ومما رُوي في تواضعه أنه كان سائرًا في طريق، فناداه رجل قادم من الشام ليحمل عن متاعه، فحمل سلمان متاع الرجل، وفي الطريق قابل جماعة من الناس فسلم عليهم، فأجابوا واقفين: وعلى الأمير السلام، وأسرع أحدهم نحوه ليحمل عنه قائلا: عنك أيها الأمير، فعلم الشامي أنه سلمان الفارسي أمير المدائن، فأَسْقَطَ ما كان في يديه، واقترب ينتزع الحمل، ولكن سلمان هزَّ رأسه رافضًا وهو يقول: لا، حتى أبلغك منزلك. [ابن سعد].
    ودخل صاحب له بيته، فإذا هو يعجن فسأله: أين الخادم؟ فقال سلمان: لقد بعثناها في حاجة، فكرهنا أن نجمع عليها عملين.
    وحين أراد سلمان بناء بيت له سأل البنَّاء: كيف ستبنيه؟ وكان البنَّاء ذكيًّا يعرف زهد سلمان وورعه، فأجابه قائلاً: لا تخف، إنها بناية تستظل بها من الحر، وتسكن فيها من البرد، إذا وقفت فيها أصابت رأسك، وإذا اضطجعت (نمت) فيها أصابت رجلك. فقال له سلمان: نعم، هكذا فاصنع. وتوفي -رضي الله عنه- في خلافة عثمان بن عفان سنة (35هـ).


    شبيه إبراهيم
    معاذ بن جبل

    إنه أبو عبد الرحمن معاذ بن جبل -رضي الله عنه-، أحد السبعين رجلا الذين شهدوا بيعة العقبة الثانية من الأنصار، وقد أسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة، وقد تفقه معاذ في دين الله، فوصفه الرسول ( بأنه (أعلم الناس بالحلال والحرام) [الترمذى].
    وكان الصحابة -رضوان الله عليهم- يجتمعون حوله ليتعلموا منه أمور الحلال والحرام، وقال عنه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: عجزت النساء أن يلدن مثله، ولولاه لهلك عمر. ومدحه عبد الله بن مسعود فقال عنه: كان أمة قانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين، حتى ظن السامع أنه يقصد إبراهيم عليه السلام، فقال له ابن مسعود: مانسيت، هل تدرى ما الأمَّة؟ وما القانت؟ فقال: الله أعلم، فقال الأمة الذي يعلم الخير، والقانت المطيع لله وللرسول) [أبو نعيم والحاكم].
    وكان معاذ أحد الذين يفتون على عهد رسول الله (، وهم: عمر، وعثمان، وعلي من المهاجرين، وأبي بن كعب ومعاذ، وزيد من الأنصار. بل قدمه عمر في الفقه، فقال: من أراد الفقه؛ فليأت معاذ بن جبل. وكان أصحاب رسول الله ( إذا تحدثوا وفيهم معاذ نظروا إليه هيبة له واحتراما [أبو نعيم].
    وقال عمر بن الخطاب يومًا لأصحابه: لو استخلفت معاذَا -رضي الله عنه- فسألني ربى عز وجل ما حملك على ذلك؟ لقلت: سمعت نبيك ( يقول: (يأتي معاذ بن جبل بين يدي العلماء برتوة (مسافة كبيرة))
    [أحمد].
    وقد بعثه رسول الله ( إلى اليمن قاضيًا، وقال له: (كيف تقضي إذا عرض لك قضاء)، قــال: أقضـي بكتاب الله. قال: (فإن لم تجد في كتاب الله)، قال: فبسنة رسول الله (، قال: (فإن لم تجد في سنة رسول الله ( ولا في كتاب الله؟) قال: اجتهد رأيي، فضرب رسول الله ( صدره، وقال: (الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله) [الترمذي وأبو داود وأحمد].
    وقابله النبي ( ذات يوم، وقال له: (يا معاذ، إني لأحبك في الله) قال معاذ: وأنا والله يا رسول الله، أحبك في الله. فقال (: (أفلا أعلمك كلمات تقولهن دبر كل صلاة: رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك). [أبو داود والنسائي والحاكم].
    وكان -رضي الله عنه- أحد الصحابة الذين يحفظون القرآن، وممن جمعوا القرآن على عهد رسول الله (، حتى قال عنه النبي (: (استقرئوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل) [متفق عليه].
    يقول أبو مسلم الخولاني: دخلت مسجد حمص فإذا فيه ما يقرب من ثلاثين شيخًا من أصحاب رسول الله (، وإذا فيهم شاب أجحل العينين (من الاكتحال)، براق الثنايا، ساكت لا يتكلم، فإذا اختلف القوم في شيء أقبلوا عليه فسألوه، فقلت لجليسي: من هذا؟ قال: معاذ بن جبل -رضي الله عنه-، فوقع في نفسي حبه، فكنت معهم حتى تفرقوا.
    وكان معاذ يحث أصحابه دائما على طلب العلم فيقول: تعلموا العلم فإن تعلمه لله تعالى خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلم صدقه، وبذله لأهله قربة، لأنه معالم الحلال والحرام.
    وكان معاذ حريصا على تمام سنة المصطفى (، متمسكًا بها، وكان يقول: من سره أن يأتي الله عز وجل آمنا فليأت هذه الصلوات الخمس؛ حيث ينادي بهن، فإنهن من سنن الهدى، ومما سنه لكم نبيكم (، ولا يقل إن لي مصلى في بيتي فأصلى فيه، فإنكم إن فعلتم ذلك تركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم ( (لضللتم).
    وكان كريمًا، كثير الإنفاق، فيروى أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بعث إليه بأربعمائة دينار مع غلامه، وقال للغلام، انتظر حتى ترى ما يصنع؟ فذهب بها الغلام وقال لمعاذ: يقول لك أمير المؤمنين اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال معاذ: رحم الله وصله، تعالى يا جارية اذهبي إلى بيت فلان بكذا، واذهبي إلى بيت فلان بكذا، فاطلعت امرأة معاذ وقالت: نحن والله مساكين فأعطنا، ولم يبق في الصرة إلا ديناران فأعطاهما إياها، ورجع الغلام إلى عمر فأخبره بما حدث، فسر عمر بذلك. [ابن سعد وأبو نعيم].
    وكان كثير التهجد يصلي بالليل والناس نيام، وكان يقول في تهجده: اللهم نامت العيون وغارت النجوم، وأنت حي قيوم، اللهم طلبي للجنة بطىء، وهربي من النار ضعيف، اللهم اجعل لي عندك هدى ترده إلى يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد.
    ولما حضرته الوفاة قال لمن حوله من أهله: أنظروا أأصبحنا أم لا؟ فقالوا: لا ثم كرر ذلك، وهم يقولون: لا. حتى قيل له أصبحنا فقال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار، مرحبًا بالموت مرحبًا، زائر مغب (أي خير) وحبيب جاء على فاقة (حاجة)، اللهم إني قد كنت أخافك فأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا، وطول البقاء فيها لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر (يقصد الصوم)، ومكابدة الساعات (أي قيام الليل)، ومزاحمة العلماء بالركب عن حلق الذكر. ومات معاذ سنة (18هـ) على الأصح وعمره (38) سنة.


    سيد الحفاظ
    أبو هريرة

    إنه الصحابي الجليل أبو هريرة -رضي الله عنه-، كان اسمه قبل إسلامه عبد شمس، فلما شرح الله صدره للإسلام سماه الرسول ( عبد الرحمن، وكناه الصحابة بأبي هريرة، ولهذه الكنية سبب طريف، حيث كان عبد الرحمن يعرف بعطفه الكبير على الحيوان، وكانت له هرة (قطة) يحنو عليها، ويطعمها، ويرعاها، فكانت تلازمه وتذهب معه في كل مكان، فسمي بذلك أبا هريرة، وكان رسول الله ( يدعوه أبا هريرة، فيقول له: (خذ يا أبا هريرة) [البخاري].
    وقد ولد أبو هريرة في قبيلة دوس (إحدى قبائل الجزيرة)، وأسلم عام فتح خيبر (سنة 7هـ)، ومنذ إسلامه كان يصاحب النبي ( ويجلس معه وقتًا كبيرًا؛ لينهل من علمه وفقهه، وحاول أبو هريرة أن يدعو أمه إلى الإسلام كثيرًا، فكانت ترفض، وذات يوم عرض عليها الإسلام فأبت، وقالت في رسول الله ( كلامًا سيِّئًا، فذهب أبو هريرة إلى الرسول (، وهو يبكي من شدة الحزن، ويقول: يا رسول الله، إنى كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهى مشركة، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة.
    فقال رسول الله (: (اللهم اهد أم أبي هريرة)، فخرج أبو هريرة من عند الرسول ( فرحًا مستبشرًا بدعوة نبي الله (، وذهب إلى أمه ليبشرها، فوجد الباب مغلقًا، وسمع صوت الماء من الداخل، فنادت عليه أمه، وقالت: مكانك يا أبا هريرة، وطلبت ألا يدخل حتى ترتدي خمارها، ثم فتحت لابنها الباب، وقالت: يا أبا هريرة، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله.
    فرجع أبو هريرة إلى الرسول ( يبكي من الفرح، ويقول: يا رسول الله أبشر، قد استجاب الله دعوتك، وهدى أم أبي هريرة، فحمد الرسول ( ربه، وأثنى عليه وقال خيرًا، ثم قال أبو هريرة: يا رسول الله، ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين، ويحببهم إلينا، فقال رسول الله (: (اللهم حبّبْ عُبَيْدَك هذا وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهم المؤمنين)، قال أبو هريرة: فما خلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبني.
    [مسلم].
    وكان أبو هريرة -رضي الله عنه- يحب الجهاد في سبيل الله، فكان يخرج مع المسلمين في الغزوات، وكان يواظب على جلسات العلم ويلازم النبي (، فكان أكثر الصحابة ملازمة للنبي ( وأكثرهم رواية للأحاديث عنه (، حتى قال عنه الصحابة: إن أبا هريرة قد أكثر الحديث، وإن المهاجرين والأنصار لم يتحدثوا بمثل أحاديثه، فكان يرد عليهم ويقول: إن إخواني من الأنصار كان يشغلهم عمل أراضيهم، وإن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق (التجارة)، وكنت ألزم رسول الله ( على ملء بطني، فأشهد إذا غابوا وأحفظ إذا نسوا.
    ولقد قال رسول الله ( يومًا: (من يبسط ثوبه فلن ينسى شيئًا سمعه مني، فبسطت ثوبي حتى قضى من حديثه، ثم ضممتها إليَّ، فما نسيت شيئًا سمعته منه) [مسلم]، ولولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدثت شيئًا أبدًا {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون. إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم } [البقرة: 159- 160].
    وكان لأبي هريرة -رضي الله عنه- ذاكرة قوية قادرة على الحفظ السريع وعدم النسيان، قال عنه الإمام الشافعي -رحمه الله- : إنه أحفظ من روى الحديث في دهره. وقال هو عن نفسه: ما من أحد من أصحاب رسول الله ( أكثر حديثًا عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو بن العاص فإنه كان يكتب ولا أكتب.
    وكان يحب العلم، فكان طلابه يقبلون عليه، حتى يملئوا بيته، كما كان مقدرًا للعلم، فذات يوم كان ممددًا قدميه فقبضهما ثم قال: دخلنا على رسول الله ( حتى ملأنا البيت وهو مضطجع لجنبه، فلما رآنا قبض رجليه ثم قال: (إنه سيأتيكم أقوام من بعدي يطلبون العلم، فرحبوا بهم وحيُّوهم وعلموهم) [ابن ماجه].
    وكان أبو هريرة شديد الفقر، لدرجة أنه كان يربط على بطنه حجرًا من شدة الجوع، وذات يوم خرج وهو جائع فمر به أبو بكر -رضي الله عنه-، فقام إليه أبو هريرة وسأله عن تفسير آية من كتاب الله، وكان أبو هريرة يعرف تفسيرها، لكنه أراد أن يصحبه أبو بكر إلى بيته ليطعمه، لكن أبا بكر لم يعرف مقصده، ففسر له الآية وتركه وانصرف، فمر على أبي هريرة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فسأله ففعل معه مثلما فعل أبو بكر.
    ثم مر النبي ( فعلم ما يريده أبو هريرة فقال له النبي (: (أبا هريرة)، فقال: لبيك يا رسول الله، فدخلت معه البيت، فوجد لبنًا في قدح، فقال (: (من أين لكم هذا؟) قيل: أرسل به إليك. فقال النبي (: (أبا هريرة، انطلق إلى أهل الصفة (الفقراء الذين يبيتون في المسجد) فادعهم)، فحزن أبو هريرة، وقال في نفسه: كنت أرجو أن أشرب من اللبن شربة أتقوى بها بقية يومي وليلتي، ثم قال في نفسه: لابد من تنفيذ أمر الرسول (، وذهب إلى المسجد، ونادى على أهل الصفة، فجاءوا، فقال في نفسه: إذا شرب كل هؤلاء ماذا يبقى لي في القدح، فأتوا معه إلى بيت النبي (، فقال له النبي (: (أبا هر، خذ فأعطهم)، فقام أبو هريرة يدور عليهم بقدح اللبن يشرب الرجل منهم حتى يروى ويشبع، ثم يعطيه لمن بعده فيشرب حتى يشبع، حتى شرب آخرهم، ولم يبق في القدح إلا شيء يسير، فرفع النبي ( رأسه وهو يبتسم وقال: (أبا هر) قلت: لبيك يا رسول الله، قال: (بقيت أنا وأنت) قلت: صدقت يا رسول الله، فقال الرسول: (فاقعد فاشرب).
    قال أبو هريرة: فقعدت فشربت، فقال: (اشرب). فشربت، فما زال النبي ( يقول لي اشرب فأشرب حتى قلت: والذي بعثك بالحق ما أجد له مساغًا (مكانًا)، فقال النبي (: (ناولني القدح) فأخذ النبي ( القدح فشرب من الفضلة. [البخاري].
    وقد أكرم الله أبا هريرة نتيجة لإيمانه وإخلاصه لله ورسوله (، فتزوج من سيدة كان يعمل عندها أجيرًا قبل إسلامه، وفي هذا يقول: نشأتُ يتيمًا، وهاجرت مسكينًا، وكنت أجيرًا عند بسرة بنت غزوان بطعام بطني، فكنت أخدم إذا نزلوا، وأحدوا إذا ركبوا (أي أمشى أجر ركائبهم)، فزوجنيها الله، فالحمد لله الذي جعل الدين قوامًا، وجعل أبا هريرة إمامًا.
    وفي عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- تولى أبو هريرة إمارة البحرين، وكان نائبًا لمروان بن الحكم على المدينة، فإن غاب مروان كان هو الأمير عليها، وكان يحمل حزمة الحطب على ظهره في السوق ويراه الناس.
    وكان أبو هريرة -رضي الله عنه- ناصحًا للناس؛ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وبينما كان يمر بسوق المدينة رأى الناس قد اشتغلوا بالدنيا، فوقف في وسط السوق وقال: يا أهل السوق: إن ميراث رسول الله ( يقسم وأنتم هنا، ألا تذهبون فتأخذوا نصيبكم منه! فقالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد. فأسرع الناس إلى المسجد ثم رجعوا إلى أبي هريرة فقال لهم: ما لكم رجعتم؟! قالوا: يا أبا هريرة، قد ذهبنا إلى المسجد، فدخلنا فيه فلم نر فيه شيئًا يقسم! فقال: وماذا رأيتم؟ قالوا: رأينا قومًا يصلون، وقومًا يقرءون القرآن، وقومًا يذكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة: فذاك ميراث محمد (.
    وعاش أبو هريرة لا يبتغي من الدنيا سوى رضا الله وحب عباده من المسلمين حتى حضرته الوفاة، فبكى شوقًا إلى لقاء ربه، ولما سئل: ما يبكيك؟ قال: من قلة الزاد وشدة المفازة، وقال: اللهم إني أحب لقاءك فأحبب لقائي. وتوفي -رضي الله عنه- بالمدينة سنة (59 هـ)، وقيل سنة (57هـ)، وعمره (78) سنة، ودفن بالبقيع بعدما ملأ الأرض علمًا، وروى أكثر من (5000) حديث.


    الشاعر الشهيد
    عبد الله بن رواحة

    إنه الصحابي الجليل عبد الله بن رواحة الخزرجي الأنصاري -رضي الله عنه- وكان يكنى أبا محمد. وقد حضر بيعتي العقبة الأولى والثانية، وشهد بدرًا وأحدًا والخندق، وكان أحد شعراء النبي ( الثلاثة، وكان بين يدي النبي ( في عمرة القضاء يقول:
    خَلُّوا بني الكُفَّار عَنْ سَبيلِهِ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
    ضَرْبًا يُزِيلُ الهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ وَيُذْهِلُ الخَلِيلَ عَنْ خَلِيـله
    فنادى عليه عمر وقال له: في حرم الله وبين يدي رسول الله ( تقول هذا الشعر؟ فقال له النبي (: (خَلِّ عنه يا عمر، فوالذي نفسي بيده لكلامه أشد عليهم من وَقْعِ النبل) [أبو يعلي].
    وكان عبد الله عابدًا محبًا لمجالس العلم والذِّكر، فيروى أنه كان إذا لقى رجلا من أصحابه قال له: تعال نؤمن بربنا ساعة. وذات مرة سمعه أحد الصحابة يقول ذلك، فذهب إلى النبي (، وقال: يا رسول الله، ألا ترى ابن رواحة، يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة؟! فقال له النبي (: (رحم الله ابن رواحة إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة) [أحمد].
    وذات مرة ذهب عبد الله إلى المسجد والنبي ( يخطب، وقبل أن يدخل سمع النبي ( يقول: (اجلسوا) فجلس مكانه خارج المسجد حتى فرغ النبي ( من خطبتيه، فبلغ ذلك النبي (، فقال له: (زادك الله حرصًا على طواعية الله ورسوله) [البيهقي].
    وكان كثير الخوف والخشية من الله، وكان يبكي كثيرًا، ويقول: إن الله تعالى قال: {وإن منكم إلا واردها} [مريم: 17]، فلا أدري أأنجو منها أم لا؟
    وعُرفَ عبد الله بن رواحة بكثرة الصيام حتى في الأيام الشديدة الحر، يقول أبو الدرداء -رضي الله عنه- خرجنا مع النبي ( في بعض أسفاره في يوم حار حتى وضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا النبي ( وابن رواحة.
    ولما نزل قول الله تعالى: {والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كل واد يهيمون. وأنهم يقولون ما لا يفعلون} [224-226] أخذ عبد الله في البكاء لأنه كان شاعرًا يقول الشعر، ويدافع به عن الإسلام والمسلمين، وقال لنفسه: قد علم الله أني منهم، وكان معه كعب بن مالك، وحسان بن ثابت، وهم شعراء الرسول ( الثلاثة، فنزل قول الله تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرًا وانتصروا من بعد ما ظلموا} [_الشعراء: 227]. ففرح عبد الله بذلك، واستمر في نصرة المسلمين بشعره.
    وذات يوم أنشد عبد الله من شعره بين يدي النبي (، وقال:
    إِنِّي تَفَرَّسْتُ فِيكَ الخَيْــــرَ أَعْرِفُـــهُ
    وَاللهُ يَعْرِفُ أنْ ما خَانَنِي الخَبَــــــرُ
    أَنْتَ النبي وَمَنْ يُحْــرَمْ شَفَاعَتُـــــهُ
    يَوْمَ الحِسَابِ لَقَدْ أَزْرَى بِـهِ القَــــدَرُ
    فَثَّبَتَ اللهُ مَا آتَـــاكَ مـِنْ حـُسْـــنٍ
    تَثَبِيتَ مَــــوسَى وَنَصْرًا كَالذي نَصَروا
    فدعا له الرسول (: (وإياك فثبَّتَكَ الله) [ابن سعد].
    وكما نصر عبد الله الإسلام في ميدان الكلمة، فقد نصره باقتدار في ميدان الحرب والجهاد بشجاعته وفروسيته.
    وكان ابن رواحة أمينًا عادلاً، وقد أرسله النبي ( إلى يهود خيبر؛ ليأخذ الخراج والجزية مما في أراضيهم، فحاولوا إعطاءه رشوة؛ ليخفف عنهم الخراج، فقال لهم: يا أعداء الله، تطعموني السحت؟ والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إليَّ، ولأنتم أبغض إليَّ من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم (أي أتعامل معكم بالعدل).
    وفي شهر جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة، علم الرسول ( أن الروم قد حشدوا جيوشهم استعدادًا للهجوم على المسلمين، فأرسل النبي ( جيشًا إلى حدود الشام عدده ثلاثة آلاف مقاتل؛ ليؤمِّن الحدود الإسلامية من أطماع الروم، وجعل زيد بن حارثة أميرًا على الجيش، وقال لهم: (إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رَواحة) [البخاري].
    فلما وصل جيش المسلمين إلي حدود الشام، علموا أن عدد جيش الروم مائتا ألف فارس، فقالوا: نكتب إلى النبي ( ليرسل إلينا مددًا من الرجال، أو يأمرنا أن نرجع أو أي أمر آخر، فقال لهم ابن رواحة: يا قوم، والله إن التي تكرهون هي التي خرجتم تطلبون، إنها الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، إنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور (نصر) وإما شهادة.
    فكبر المسلمون وواصلوا مسيرتهم حتى نزلوا قرية بالشام تسمى مؤتة، وفيها دارت الحرب، وقاتل المسلمون أعداءهم قتالاً شديدًا، وأخذ زيد بن حارثة يقاتل ومعه راية المسلمين، فاستشهد زيد، فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب، وراح يقاتل في شجاعة حتى استشهد، فأخذ عبد الله الراية، فأحس في نفسه بعض التردد، ولكنه سرعان ما تشجع، وراح يقاتل في شجاعة ويقول:
    أَقْسَمْتُ يَا نَفْسُ لَتَنْزِلِنَّـه طَائِعَةً أَوْ لَتُكْرهِنَّـــــــه
    فَطَالَمَا قَدْ كُنْتِ مُطْمَئِنَّـة مَالِي أَرَاكِ تَكْرَهِينَ الجَنَّــــةْ
    يَا نَفْسُ إلا تُقْتَلِى تَمُوتـي وَمَا تَمَنَّيْتِ فَقَدْ أُعْطِيـــــت
    إِنْ تَفْعَلِى فَعْلَهُمَا هُدِيـتِ وَإِنْ تَأَخَّرْتِ فَقَد شُقِيــــتِ
    ونال عبد الله الشهادة، ولحق بصاحبيه زيد وجعفر.


    محامي الفقراء
    أبو ذر الغفاري

    إنه الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري جندب بن جنادة -رضي الله عنه-، ولد في قبيلة غفار، وكان من السابقين إلى الإسلام، وكان أبو ذر قد أقبل على مكة متنكرًا، وذهب إلى الرسول ( وأعلن إسلامه، وكان الرسول ( يدعو إلى الإسلام في ذلك الوقت سرًّا، فقال أبو ذر للنبي (: (بم تأمرني؟ فقال له الرسول (: (ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري)، فقال أبو ذر: والذي نفسي بيده لأصرخنَّ بها (أي الشهادة) بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد ونادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.
    فقام إليه المشركون فضربوه ضربًا شديدًا، وأتى العباس بن عبد المطلب عم النبي ( فأكب عليه، وقال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وأنه طريق تجارتكم إلى الشام؟ فثابوا إلى رشدهم وتركوه، ثم عاد أبو ذر في الغد لمثلها فضربوه حتى أفقدوه وعيه، فأكب عليه العباس فأنقذه._[متفق عليه].
    ورجع أبو ذر إلى قومه فدعاهم إلى الإسلام، فأسلم على يديه نصف قبيلة غفار ونصف قبيلة أسلم، وعندما هاجر النبي ( إلى المدينة، أقبل عليه أبو ذر مع قبيلته غفار وجارتها قبيلة أسلم، ففرح النبي ( وقال: (غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله) [مسلم]. وخصَّ النبي ( أبا ذر بتحية مباركة فقال: (ما أظلت الخضراء (السماء)، ولا أقلت الغبراء (الأرض) من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر) [الترمذي وابن ماجه].
    وكان أبو ذر من أشد الناس تواضعًا، فكان يلبس ثوبًا كثوب خادمه، ويأكل مما يطعمه، فقيل له: يا أبا ذر، لو أخذت ثوبك والثوب الذي على عبدك وجعلتهما ثوبًا واحدًا لك، وكسوت عبدك ثوبًا آخر أقل منه جودة وقيمة، ما لامك أحد على ذلك، فأنت سيده، وهو عبد عندك، فقال أبو ذر: إني كنت ساببت (شتمت) بلالاً، وعيرته بأمه؛ فقلت له: يا ابن السوداء، فشكاني إلى رسول الله (، فقال لي النبي (: (يا أبا ذر، أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية)، فوضعت رأسي على الأرض، وقلت لبلال: ضع قدمك على رقبتي حتى يغفر الله لي، فقال لي بلال: إني سامحتك غفر الله لك، وقال (: (إخوانكم خولكم (عبيدكم)، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم) [البخاري].
    وكان أبو ذر -رضي الله عنه- يحب الله ورسوله ( حبًّا كبيرًا، فقد روى أنه قال للنبي (: يا رسول الله، الرجل يحب القوم ولا يستطيع أن يعمل بعملهم، فقال له النبي (: (أنت مع مَنْ أحببت يا أبا ذر) فقال أبو ذر: فإني أحب الله ورسوله، فقال له النبي (: (أنت مع مَن أحببت) [أحمد]، وكان ( يبتدئ أبا ذر إذا حضر، ويتفقده (يسأل عنه) إذا غاب.
    وقد أحب أبو ذر العلم والتعلم والتبحر في الدين وعلومه، وقال عنه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: وعى أبو ذر علمًا عجز الناس عنه، ثم أوكأ عليه فلم يخرج شيئًا منه. وكان يقول: لباب يتعلمه الرجل (من العلم) خير له من ألف ركعة تطوعًا.
    وكان -رضي الله عنه- زاهدًا في الدنيا غير متعلق بها لا يأخذ منها إلا كما يأخذ المسافر من الزاد، فقال عنه النبي (: (أبو ذر يمشى في الأرض بزهد عيسى بن مريم عليه السلام) [الترمذي].
    وكان أبو ذر يقول: قوتي (طعامي) على عهد رسول الله ( صاع من تمر، فلست بزائد عليه حتى ألقى الله تعالى. ويقول: الفقر أحب إليَّ من الغنى، والسقم أحب إليَّ من الصحة. وقال له رجل ذات مرة: ألا تتخذ ضيعة (بستانًا) كما اتخذ فلان وفلان، فقال: لا، وما أصنع بأن أكون أميرًا، إنما يكفيني كل يوم شربة ماء أو لبن، وفي الجمعة قفيز (اسم مكيال) من قمح. وكان يحارب اكتناز المال ويقول: بشر الكانزين الذين يكنزون الذهب والفضة بمكاوٍ من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم يوم القيامة.
    وكان يدافع عن الفقراء، ويطلب من الأغنياء أن يعطوهم حقهم من الزكاة؛ لذلك سُمي بمحامي الفقراء، ولما عرض عليه عثمان بن عفان أن يبقى معه ويعطيه ما يريد، قال له: لا حاجة لي في دنياكم.
    وعندما ذهب أبو ذر إلى الرَّبذة وجد أميرها غلامًا أسود عيَّنه عثمان بن عفان
    -رضي الله عنه-، ولما أقيمت الصلاة، قال الغلام لأبي ذر: تقدم يا أبا ذر، وتراجع الغلام إلى الخلف، فقال أبو ذر، بل تقدم أنت، فإن رسول الله ( أمرني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدًا أسود. فتقدم الغلام وصلى أبو ذر خلفه.
    وظل أبو ذر مقيمًا في الرَّبَذَة هو وزوجته وغلامه حتى مرض مرض الموت فأخذت زوجته تبكي، فقال لها: ما يبكيك؟ فقالت: ومالي لا أبكي وأنت تموت بصحراء من الأرض، وليس عندي ثوب أكفنك فيه، ولا أستطيع وحدي القيام بجهازك، فقال أبو ذر: إذا مت، فاغسلاني وكفناني، وضعاني على الطريق، فأول ركب يمرون بكما فقولا: هذا أبو ذر. فلما مات فعلا ما أمر به، فمرَّ بهم
    عبد الله بن مسعود مع جماعة من أهل الكوفة، فقال: ما هذا؟ قيل: جنازة أبي ذر، فبكى ابن مسعود، وقال: صدق رسول الله (: يرحم الله أبا ذر، يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده)، فصلى عليه، ودفنه بنفسه.
    [ابن سعد]، وكان ذلك سنة (31هـ) وقيل: سنة (32 هـ).


    سيد القراء
    أبي بن كعب

    إنه أبي بن كعب -رضي الله عنه- أحد فقهاء الصحابة وقرَّائهم، (وقد شهد بيعة العقبة الثانية، وبايع النبي ( فيها، وكان من الأنصار الذين نصروا رسول الله (، واستقبلوه في يثرب، وقد شهد كل الغزوات مع النبي (، وأمه صهيلة بنت الأسود، عمة أبي طلحة الأنصاري، وكان يُكَنَّى بأبي الطفيل وأبي المنذر.
    وسأله النبي ( ذات يوم: (يا أبا المنذر أتدرى أي آية من كتاب الله معك أعظم؟) فأجاب قائلا: الله ورسوله أعلم. فأعاد النبي ( سؤاله: (يا أبا المنذر أتدرى أي آية من كتاب الله معك أعظم؟) فأجاب أُبي: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} فضرب النبي ( صدره بيده، ودعا له بخير، وقال: (ليَهْنِك العلم أبا المنذر (أي هنيئًا لك العلم).
    [مسلم].
    وكان أبي بن كعب -رضي الله عنه- من (أوائل الذين كانوا يكتبون الوحي عن النبي (، ويكتبون الرسائل، وقد قال عنه النبي (: (أقرأ أمتي أبى) [الترمذي].
    وكان من أحرص الناس على حفظ القرآن الكريم، قال له رسول الله ( يومًا: (يا أبي بن كعب، إن الله أمرني أن أقرأ عليك: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب} [البينة: 1]، فقال أُبي في نشوة غامرة: يا رسول الله: بأبي أنت وأمى، آلله سمَّاني لك؟ فقال الرسول (: (نعم)، فجعل أبي -رضي الله عنه- يبكى من شدة الفرح. [مسلم].
    وكان -رضي الله عنه- واحدًا من الستة أصحاب الفُتْيَا الذين أذن لهم رسول الله ( بالحكم في حوائج الناس، وفض المنازعات التي تحدث بينهم، وردِّ المظالم إلى أهلها، وهم: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن حارثة، وأبو موسى الأشعري.
    وقال ( فيه وفي غيره: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدَّهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأفرضهم (أعلمهم بالمواريث) زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإن لكل أمة أمينًا، وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح)
    [الترمذى وابن ماجه].
    وكان -رضي الله عنه- لا يخاف في الله لومة لائم، وكان من الذين لا يطلبون من الدنيا عرضًا، فليس لها نصيب في قلوبهم، فعندما اتسعت بلاد المسلمين ورأى الناس يجاملون ولاتهم في غير حق قال: هلكوا وربِّ الكعبة، هلكوا وأهلكوا، أما إني لا آسى (أحزن عليهم) ولكن آسى على من يهلكون من المسلمين.
    وكان أبي بن كعب ورعًا تقيًّا يبكي إذا ذكر الله، ويهتز كيانه حين يرتل آيات القرآن أو يسمعها، وكان إذا تلا أو سمع قوله تعالى: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون}_[الأنعام: 65]، يغشاه الهم والأسى.
    وقد روي أن رجلا من المسلمين، قال يا رسول الله: أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا وما نلاقيها؟ قال: (كفارات)، فقال أبي ابن كعب: يا رسول الله، وإن قَلَّتْ؟ قال: (وإن شوكة فما فوقها)، فدعا أبي أن لا يفارقه الوَعْك حتى يموت، وأن لا يشغله عن حج، ولا عمرة ولا جهاد، ولا صلاة مكتوبة في جماعة، فقال أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-: فما مس إنسان جسده إلا وجد حرَّه حتى مات. [أحمد وابن حبان].
    وقد كان أبي -رضي الله عنه- مستجاب الدعوة، فيحكى ابن عباس أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال لجمع من الصحابة: اخرجوا بنا إلى أرض قومنا. فكان ابن عباس مع أبي بن كعب في مؤخرة الناس، فهاجت سحابة، فدعا أبي قائلا: اللهم اصرف عنا أذاها. فلحق ابن عباس وأبي الناس، فوجدوا أن رحالهم ابتلت: فقال عمر: ما أصابكم؟ (أي: كيف لم تبل رحالكما؟) فقال ابن عباس: إن أبيَّا قال: اللهم اصرف عنا أذاها. فقال عمر: فهلا دعوتم لنا معكم.
    وكان عمر يجل أبيَّا، ويستفتيه في القضايا، وقد أمره أن يجمع الناس فيصلي بهم في المسجد صلاة التراويح في رمضان، وقبلها كان يصلي كل إنسان وحده.
    وروى أبي بن كعب -رضي الله عنه- بعض الأحاديث عن رسول الله ( ، وروى عنه بعض الصحابة والتابعين، ومن أقواله -رضي الله عنه-: ما ترك أحد منكم لله شيئًا إلا آتاه الله ما هو خير له منه من حيث لا يحتسب، ولا تهاون به وأخذه من حيث لا يعلم إلا آتاه ما هو أشد عليه من حيث لا يحتسب. وقال له رجل -ذات يوم- أوصني: فقال له أُبيُّ: اتخذ كتاب الله إمامًا، وارض به قاضيًا وحكمًا، فإنه الذي استخلف فيكم رسولكم، شفيع، مطاع، وشاهد لا يتهم، فيه ذكركم وذكر من قبلكم، وحكم ما بينكم، وخبركم وخبر ما بعدكم. [أبو نعيم].
    وتوفي -رضي الله عنه- في خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، ويوم موته رأى رجل الناس في المدينة يموجون في سككهم، فقال: ما شأن هؤلاء؟ فقال بعضهم: ما أنت من أهل البلد؟ قال: لا. قال: فإنه قد مات اليوم سيد المسلمين، أبي بن كعب.


    الحِب بن الحِب
    أسامة بن زيد

    إنه الصحابي الجليل أسامة بن زيد -رضي الله عنه-، وهو ابن مسلمين كريمين من أوائل السابقين إلى الإسلام، فأبوه زيد بن حارثة، وأمه السيدة أم أيمن حاضنة رسول الله ( ومربيته.
    كان شديد السواد، خفيف الروح، شجاعًا، رباه النبي ( وأحبه حبًّا كثيرًا، كما كان يحب أباه فسمي الحِبّ بن الحبّ، وكان النبي ( يأخذه هو والحسن ويقول: (اللهم أحبهما فإني أُحِبُّهما) [أحمد والبخاري].
    وكان أسامة شديد التواضع، حاد الذكاء، يبذل أقصى ما عنده في سبيل دينه وعقيدته.
    وخرج أسامة مع النبي ( (عام الفتح إلى مكة راكبًا خلفه ( على بغلته، ودخل النبي ( الكعبة ليصلي فيها ركعتين، ومعه أسامة وبلال، ووقع أسامة على الأرض فجرحت جبهته؛ فقام النبي ( مسرعًا ليمسح الدم الذي يسيل منها حتى وقف النزيف.
    وذات يوم تلقى أسامة من رسول الله ( درسًا لا ينساه أبدًا، يقول أسامة: بعثنا رسول الله ( إلى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله فكف الأنصاري فطعنته برمح حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي ( فقال: يا أسامة أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟ قلت كان متعوذًا، فما زال يكررها الرسول ( حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم. ثم قال أسامة للرسول (: إني أعُطى الله عهدًا، ألا أقتل رجلا يقول: لا إله إلا الله أبدًا، فقال النبي (: (بعدى يا أسامة؟) قال: بعدك. [متفق عليه].
    وقد حمل أسامة كل صفات ومواهب القائد الشجاع، مما زاد من إعجاب النبي ( به، فجعله قائدًا لجيش المسلمين لغزو الروم، وجعله الرسول ( أميرًا على جيش فيه كبار الصحابة، كأبي بكر وعمر، فاستكثر بعض المسلمين على أسامة كل هذا، وتكلموا في ذلك، ولما علم النبي ( صعد المنبر وحمد الله ثم أثنى عليه وقال: (إن تطعنوا في إمارته (أي إمارة أسامة)؛ فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وأيم الله، إن كان لخليقًا للإمارة لجديرًا بها، وإن كان لمن أحب الناس إليَّ (يقصد زيد بن حارثة)، وإن هذا لمن أحب الناس إليَّ بعده) [متفق عليه].
    ويموت النبي ( قبل أن يتحرك جيش أسامة إلى غايته التي حددها الرسول ( وهى قتال الروم، (وقبل أن يموت النبي ( أوصى أصحابه أن يسارعوا بتحريك جيش أسامة فقال لهم: (أنفذوا بعث أسامة، أنفذوا بعث أسامة) [ابن حجر في الفتح].
    ويتولى أبو بكر الخلافة بعد رسول الله (، ويصر على إنجاز وصية الرسول (، فيقول له عمر: إن الأنصار ترى أن يتولى قيادة الجيش من هو أكبر سنًّا من أسامة، فيغضب أبو بكر -رضي الله عنه- ويقول: ثكلتك أمك يابن الخطاب، استعمله رسول الله ( وتأمرني أن أنزعه، والذي نفسي بيده لو ظننت أن السباع تخطفني؛ لأنفذت بعث أسامة.
    ويخرج القائد أسامة من المدينة بجيشه، ويخرج معه أبو بكر مودعًا، وبينما أسامة راكب على فرسه، إذا بأبي بكر يسير على قدميه، فيستحي أسامة من هذا الموقف، ويقول لأبي بكر: يا خليفة رسول الله (، والله لتركبن أو لأنزلن. فيقول أبو بكر: والله لا نزلت، والله لا ركبتُ، وما عليَّ أن أغبر
    قدمي في سبيل الله ساعة، ثم يستأذن أبو بكر من أسامة أن يبقى معه عمر في المدينة ليعينه على أمور الحكم فيعطي أعظم قدوة في استئذان القائد مهما كان صغيرًا.
    وانطلق جيش أسامة إلى البلقاء، ليهاجم القرى التي حددها له رسول الله ( وخليفته أبو بكر، فينتصر عليهم ويأسر منهم الكثير، ويجمع الغنائم، ويعود إلى المدينة منتصرًا بعد أن لقن الروم درسًا لا ينسى، ويعود الجيش بلا ضحايا فيقول المسلمون يومئذ: ما رأينا جيشًا أسلم من جيش أسامة.
    وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عندما يقسم أموال بيت المال على المسلمين، يجعل نصيب أسامة منها ثلاثة آلاف وخمسمائة، في حين يعطي ابنه
    عبد الله ثلاثة آلاف، فيقول ابن عمر لأبيه: لقد فضلت عليَّ أسامة، وقد شهدت مع رسول الله ( ما لم يشهد، فيرد عليه عمر قائلاً: إن أسامة كان أحب إلى رسول الله ( منك، وأبوه كان أحب إلى رسول الله ( من أبيك._[الترمذي وابن سعد].
    وعندما نشبت الفتنة بين علي ومعاوية -رضي الله عنهما- وقف أسامة محايدًا مع حبه الشديد لعلي، وبعث له رسالة قال فيها: يا أبا الحسن إنك والله لو أخذت بمشفر الأسد (فمه) لأخذت بمشفره الآخر معك حتى نهلك جميعًا أو نحيا جميعًا، فأما هذا الأمر الذي أنت فيه فوالله لا أدخل فيه أبدًا، ولزم أسامة داره فترة النزاع حتى لا يقتل مسلمًا.
    وكان -رضي الله عنه- كثير العبادة، محافظًا على صوم يوم الاثنين والخميس مع كبر سنه وضعف جسمه؛ تأسيًا برسول الله ( ، وتوفي أسامة
    -رضي الله عنه- في خلافة معاوية بن أبي سفيان سنة (54هـ)، وقد روى عنه جماعة من الصحابة والتابعين.


    صاحب الصوت الجميل
    أسيد بن حضير

    إنه أسيد بن حضير بن عبد الأشهل الأنصاري -رضي الله عنه-، فارس قومه ورئيسهم، فأبوه حضير الكتائب زعيم الأوس، وواحد من كبار أشراف العرب في الجاهلية.
    وكان أسيد أحد النقباء الذين اختارهم الرسول ( ليلة العقبة الثانية، فقد أسلم أسيد بعد بيعة العقبة الأولى، عندما بعث النبي ( مصعب بن عمير إلى المدينة، فجلس هو وأسعد بن زرارة في بستان، وحولهما أناس يستمعون إليهما، وبينما هم كذلك، كان أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ زعيما قومهما يتشاوران في أمر مصعب بن عمير الذي جاء يدعو إلى دين جديد.
    فقال سعد لأسيد: انطلق إلى هذا الرجل، فازجره، فحمل أسيد حربته وذهب إليهما غضبان، وقال لهما: ما جاء بكما إلى حيِّنا (مدينتنا)، تسفهان ضعفاءنا)؟ اعتزلانا، إذا كنتما تريدان الحياة. فقال له مصعب: أَوَ تَجْلِس فتسمع، فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره؟ فقال أسيد: لقد أنصفت، هاتِ ما عندك. فأخذ مصعب يكلمه عن الإسلام ورحمته وعدله، وراح يقرأ عليه آيات من القرآن، فأشرق وجه أسيد بالنور، وظهرت عليه بشاشة الإسلام حتى قال من حضروا هذا المجلس: والله (لقد عرفنا في وجه أسيد الإسلام قبل أن يتكلم، عرفناه في إشراقه وتسهله.
    ولم يكد مصعب ينتهي من حديثه حتى صاح أسيد قائلاً: ما أحسن هذا الكلام وأجمله، كيف يصنع من يريد أن يدخل في هذا الدين؟ فقال له مصعب: تطهّر بدنك وثوبك، وتشهد شهادة الحق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم تصلي.
    فقام أسيد مسرعًا فاغتسل وتطهر ثم صلى ركعتين معلنًا إسلامه. وعاد أسيد إلى سعد بن معاذ، وما كاد يقترب من مجلسه، حتى قال سعد لمن حوله: أقسم، لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به، ثم قال له سعد: ماذا فعلت؟ فقال أسيد: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأسًا، وقد نهيتهما، فقالا لي: نفعل ما أحببت، ثم قال أسيد لسعد بن معاذ: لقد سمعت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وهم يعلمون أنه ابن خالتك، فقام سعد غضبان وفي يده حربته، ولما وصل إلى مصعب وأسعد وجدهما جالسين مطمئنين، عندها أدرك أن هذه حيلة من أسيد لكي يحمله على السعي إلى مصعب لسماعه، واستمع سعد لكلام مصعب واقتنع به وأعلن إسلامه، ثم أخذ حربته، وذهب مع أسيد بن حضير إلى قومهما يدعوانهم للإسلام، فأسلموا جميعًا.
    وقد استقبل أسيد النبي ( لما هاجر إلى المدينة خير استقبال، وظل أسيد يدافع عن الإسلام والمسلمين، فحينما قال عبد الله بن أبي بن سلول لمن حوله من المنافقين أثناء غزوة بني المصطلق: لقد أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير دياركم، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فقال أسيد: فأنت والله يا رسول الله تخرجه منها إن شاء الله، هو والله الذليل، وأنت العزيز يا رسول الله، ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز (حبات يطرز بها التاج) ليتوجوه على المدينة ملكًا، فهو يرى أن الإسلام قد سلبه ملكًا.
    وذات ليلة أخذ يقرأ القرآن، وفرسه مربوطة بجواره، فهاجت الفرس حتى كادت تقطع الحبل، وعلا صهيلها، فسكت عن القراءة فهدأت الفرس ولم تتحرك، فقرأ مرة ثانية فحدث للفرس ما حدث لها في المرة الأولى، وتكرر هذا المشهد عدة مرات، فسكت خوفًا منها على ابنه الصغير الذي كان ينام في مكان قريب منها، ثم نظر إلى السماء فإذا به يرى غمامة مثل الظلة في وسطها مصابيح مضيئة، وهى ترتفع إلى السماء.
    فلما أصبح ذهب إلى الرسول ( وحدثه بما رأى، فقال له النبي (: (تلك الملائكة دنت (اقتربت) لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم) [البخاري].
    وعاش أسيد -رضي الله عنه- عابدًا قانتًا، باذلا روحه وماله في سبيل الله، وندم أسيد على تخلفه عن غزوة بدر، وقال: ظننت أنها العير، ولو ظننت أنه غزو ما تخلفت. [ابن سعد]، وقد جرح أسيد يوم أحد سبع جراحات، ولم يتخلف عن غزوة بعدها قط.
    وبعد وفاة النبي ( اجتمع فريق من الأنصار في سقيفة بني ساعدة على رأسهم سعد بن عبادة، وأعلنوا أحقيتهم بالخلافة، وطال الحوار، واشتد النقاش بينهم، فوقف أسيد بن حضير مخاطبًا الأنصار قائلاً: تعلمون أن رسول الله ( كان من المهاجرين، فخليفته إذن ينبغي أن يكون من المهاجرين، ولقد كنا أنصار رسول الله، وعلينا اليوم أن نكون أنصار خليفته.
    وكان أبو بكر -رضي الله عنه- لا يقدم عليه أحدًا من الأنصار، تقول السيدة عائشة: ثلاثة من الأنصار لم يكن أحد منهم يلحق في الفضل، كلهم من بني
    عبد الأشهل: سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وعباد بن بشر. [ابن هشام].
    وتوفي أسيد -رضي الله عنه- في عام (20 هـ)، وأصرَّ أمير المؤمنين
    عمر بن الخطاب أن يحمل نعشه على كتفه، ودفنه الصحابة بالبقيع بعد أن صلوا عليه، ونظر عمر في وصيته، فوجد أن عليه أربعة آلاف دينار، فباع ثمار نخله (البلح أو التمر) أربع سنين بأربعة آلاف، وقضى دينه. [البخاري وابن سعد].


    خادم الرسول
    أنس بن مالك

    إنه الصحابي الجليل أنس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي -رضي الله عنه-وأمه الرميصاء أم سليم بنت ملحان الأنصارية -رضي الله عنها- وكانت أمه قد أتت به وهو ابن عشر سنين إلى النبي ( في المدينة، وقالت له: هذا غلام يخدمك. فقبله النبي (، وكنَّاه أبا حمزة، ولازم الغلام رسول الله ( ملازمة شديدة، ما فارقه فيها أبدًا. وخدم أنس النبي ( عشر سنين، وشهد معه ثماني غزوات، وصلى معه إلى القبلتين.
    وامتلأ قلب أنس بحب النبي (، فها هو ذا يقول: ما من ليلة إلا وأنا أرى فيها حبيبي (يقصد رسول الله (). وقد أحبت أسرة أنس رسول الله ( حبًّا شديدًا، وكانت لأسرته في قلب رسول الله ( منزلة خاصة، فأمه أم سليم، وخالته أم حرام بنت ملحان، وعمه أنس بن النضر بطل أحد، وعمته الربيع بنت النضر.
    وكان أنس يحفظ سر رسول الله (، فها هو ذا -رضي الله عنه- يقول: أسر إليَّ رسول الله ( سرًا فما أخبرت به أحدًا بعد، ولقد سألتني عنه أم سليم فما أخبرتها به. وكان النبي ( يحب أنسًا ويقربه إليه ويمازحه، فلقد قال له يومًا: (ياذا الأذنين) [أبو داود والترمذي].
    واشتهر أنس -رضي الله عنه- بالعلم والفقه والتبحر في علوم الدين، وروى كثيرًا من أحاديث الرسول ( ، وما يدل على علمه الغزير أنه قال لثابت البناني: يا ثابت خذ عني، فإنك لن تأخذ عن أحد أوثق مني، إني أخذته عن رسول الله ( عن جبريل، وأخذه جبريل عن الله.
    وشارك أنس -رضي الله عنه- في حروب الردة في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، وقد استخدمه أبو بكر -رضي الله عنه- في جمع الصدقات، فدخل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فاستشاره أبو بكر فقال عمر: ابعثه فإنه لبيب كاتب. وكان -رضي الله عنه- ممن حضر موقعة اليمامة، وشهد الفتوحات في عهد عمر، وعثمان بن عفان، ومعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهم-.
    وكان لأنس بن مالك -رضي الله عنه- فضائل كثيرة، فقد روى ثابت البناني قوله: كنت مع أنس فجاء قهرمانه (حاجبه) فقال: يا أبا حمزة، عطشت أرضك، فقام أنس فتوضأ وخرج إلى البرية، فصلى ركعتين ثم دعا، قال ثابت: فرأيت السحاب تلثم ثم أمطرت حتى ملأت كل شيء، فلما سكن المطر بعث أنس بعض أهله فقال له: انظر أين بلغت السماء؟ فنظر فلم تجاوز أرضه إلا يسيرًا، وكان ذلك في الصيف.
    وكان يحب الستر على المسلمين، فيروى أن صالح بن كرز جاء بجارية له زنت إلى الحكم بن أيوب، وبينما هو جالس إذ جاء أنس بن مالك -رضي الله عنه- فجلس فقال: يا صالح ما هذه الجارية معك؟ فقال صالح: جارية لي بغت فأردت أن أرفعها إلى الإمام ليقيم عليها الحد، فقال: لا تفعل، رد جاريتك، واتق الله، واستر عليها، فقال صالح: ما أنا بفاعل، فقال أنس: لا تفعل وأطعني، فلم يزل يراجعه حتى ردها.
    وفي عهد عبد الملك بن مروان، لقى أنس بعض الأذى من الحجاج بن يوسف الثقفي، فاشتكاه أنس إلى عبد الملك وقال: لو أن اليهود رأوا خادم نبيهم لأكرموه، وأنا خدمت رسول الله ( عشر سنين، فبعث
    عبد الملك بن مروان إلى الحجاج يعنفه ويزجره، ويأمره أن يذهب إلى أنس ويقبل يديه ورجليه.
    وقد ضعف أنس في آخر أيامه، ولم يعد يستطيع الصوم فأحضر طعامًا وأطعم ثلاثين مسكينًا، ولما مرض سأله أهله أن يأتوا له بطبيب فقال لهم: الطبيب أمرضني. وقال وهو يحتضر: لقنوني لا إله إلا الله.
    وتوفي أنس -رضي الله عنه- بالبصرة في أوائل التسعينيات من القرن الأول الهجري، وعمره يقترب من المائة، وكان آخر من مات من أصحاب رسول الله ( بالبصرة، ولما مات قال أهل البصرة: ذهب اليوم نصف العلم، وذلك لأنهم كانوا يرجعون إليه في كل ما اختلفوا فيه من حديث رسول الله (.


    المجاهد
    أبو أيوب الأنصاري

    إنه أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد -رضي الله عنه-، حفيد مالك بن النجار، وأمه هند بنت سعيد، آخى الرسول ( بينه وبين مصعب بن عمير، شهد بيعة العقبة الثانية.
    وعندما وصل رسول الله ( إلى أرض النصرة والإيمان مختتمًا رحلته الطويلة التي هاجر فيها من مكة إلى المدينة، وصار وسط جموع المسلمين التي خرجت لاستقباله، وتزاحم الناس حول زمام ناقته، كل يريد أن يستضيف رسول الله (، والنبي ( يقول لهم: (خلوا سبيلها، فإنها مأمورة) [البيهقي].
    ويمضي موكب رسول الله ( ويصل إلى حي بني ساعدة، فحي بني الحارث، فحي بني عدي، ويخرج من كل حي من يعترض طريق الناقة آملاً أن يسعدوا بنزول رسول الله ( في ديارهم، وفي كل مرة يجيبهم النبي ( (خلوا سبيلها، فإنها مأمورة) [البيهقي].
    إن قدر الله -عز وجل- هو الذي يتحكم في اختيار مكان نزول النبي ( حيث سيكون لهذا المكان مكانته العظيمة، ففوق أرضه سيقام المسجد الذي تنطلق منه أشعة الهدى والنور؛ لتضيء الدنيا بأسرها، وبجوار هذا المسجد سيقيم النبي ( في حجرات متواضعة.
    وأمام دار مالك بن النجار بركت الناقة، ثم نهضت وطوَّفت بالمكان، ثم عادت إلى مكانها الأول، ونزل رسول الله ( متفائلا، وتقدم أحد المسلمين، وقد عمرت الفرحة قلبه، فحمل متاع الرسول ( وأدخله بيته، ثم دعا رسول الله ( للدخول.
    وكان بيت أبي أيوب مالك بن دينار طابقين، فاختار رسول الله ( الطابق الأسفل ليكون محل إقامته، وصعد أبو أيوب إلى الدور العلوي ولكنه لم ينم تلك الليلة، لأنه لم يستطع أن يتخيل نفسه وهو نائم في مكان أعلى من المكان الذي ينام فيه الرسول (. وفي الليل سال الماء في غرفته، فقام هو وزوجته أم أيوب ينظفانه خشية أن يصل إلى رسول الله ( منه شيء.
    وفي الصباح ذهب أبو أيوب إلى النبي ( وأخذ يلح عليه ويرجوه أن ينتقل إلى الطابق العلوي، فاستجاب النبي ( لرجائه، وظل الرسول ( في بيت أبي أيوب حتى انتهى من بناء المسجد، وبناء حجرة له بجواره.
    وكان -رضي الله عنه- محبًّا للجهاد في سبيل الله، فمنذ أن حضر بيعة العقبة الثانية وحتى منتصف القرن الأول الهجري وهو يعيش في جهاد متواصل، لا يغيب عن حرب، ولا يتكاسل عن غزو، وشهد مع رسول الله ( بدرًا وأحدًا والخندق، والغزوات كلها، وحتى بعد وفاة النبي ( لم يتخلف عن غزوة كُتب للمسلمين أن يخوضوها إلا غزوة قد أمَّر فيها على الجيش شاب لم يقنع أبو أيوب بإمارته، فقعد ولم يخرج معهم، ولكنه ما لبث أن ندم على موقفه هذا وقال: ما خبرني مَنْ استُعمِلَ عليّ؟ ثم خرج فلحق بالجيش.
    ورغم أن عمره تجاوز الثمانين عامًا إلا أنه ما كاد يسمع منادى الجهاد يحثُّ المسلمين على الخروج لفتح القسطنطينية (إستامبول الآن) حتى حمل سيفه على عاتقه قائلا: أمرنا الله -عز وجل- أن ننفر في سبيله على كل حال، فقال تعالى: {انفروا خفافًا وثقالاً} [التوبة: 41].
    وفي هذه المعركة أصيب أبو أيوب، فذهب قائد الجيش يزيد بن معاوية يعوده، وقال له: ما حاجتك أبا أيوب؟ فقال: إذا أنا مت فاحملوني إلى أرض العدو ثم ادفنوني، ثم قال لهم: أما إني أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله ( سمعته يقول: (من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة) [متفق عليه]. وبالفعل كان له ما أراد، فلما كان الصباح قالت الروم للمسلمين: لقد كان لكم الليل شأن عظيم، فقالوا: هذا رجل من أكابر أصحاب نبينا (، وأقدمهم إسلامًا، قد دفناه حيث رأيتم، والله لئن نُبِشَ قبره لا يُضْرَب لكم ناقوس أبدًا (شعائر عبادتهم) في أرض العرب ما كانت لنا دولة، فكان الروم يتعاهدون قبره، ويزورونه.
    وكان -رضي الله عنه- زاهدًا ورعًا لا يحب البذخ أو الترف، فقد دخل يومًا بيتًا من بيوت المسلمين فوجد أصحابه قد زينوه بالستائر فطأطأ رأسه ناكرًا لفعلهم، وتركهم وقفل راجعًا، وكان واحدًا من رهبان الليل وفرسان النهار، عشق الجهاد، وتمنى الشهادة.
    وظل هكذا حتى لقى ربه بعد حياة طويلة شاقة قضاها جنديًّا من جنود الله الذين لم يرضوا لأنفسهم الركون إلى الدنيا، وخرجوا بأنفسهم وأموالهم فاتحين بلاد المشرق والمغرب، ليُخرجوا العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وليسعدوا جميعًا بالإسلام في الأرض.

    ساقي الحرمين
    العباس بن عبد المطلب

    إنه العبَّاس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- عم رسول الله (، كان من أكرم الناس وأجودهم، قال عنه رسول الله (: (هذا العباس أجود قريش كفًّا، وأوصلها) [أحمد]. ويروى أنه أعتق عند وفاته سبعين عبدًا.
    وكان النبي ( يحبه حبًّا شديدًا، ويقول (: من آذى عمي فقد آذاني، فإنما عم الرجل صنو أبيه (أي مثل أبيه)) [الترمذي]. وقد كان العباس أكبر سنًّا من النبي (، فقد ولد قبله بثلاث سنين، ومن حسن أدبه أنه لما سُئل: أأنت أكبر أم رسول الله؟ قال: هو أكبر، وأنا ولدت قبله) [الطبراني].
    وكان العباس من سادة قريش، وكان يتعهد المسجد الحرام، فيسقي الحجاج ويقوم بخدمتهم، وقد ورث ذلك عن أبيه عبد المطلب، وكان قبل إسلامه شديد الحب لرسول الله (، ويقف بجانبه، ويدفع عنه أذى المشركين، وحضر مع النبي ( بيعة العقبة الثانية، ليطمئن عليه ( وهو لم يعلن إسلامه بعد، فلما التقوا، وتواعدوا على أن يكون اللقاء في اليوم التالي، كان العباس أول من أتى، فبايع الأنصار رسول الله ( على النصرة والبيعة، والعباس آخذ بيده. [ابن سعد].
    فلما كانت غزوة بدر، أمر الرسول ( المسلمين بأن لا يقتلوا العباس لأنه خرج مستكرهًا، وبعد المعركة استطاع أبو اليسر -رضي الله عنه- أن يأسر العباس، فلما أحضره إلى النبي ( سأله رسول الله كيف أسرته؟ قال أبو اليسر: لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ولا بعد هيئته كذا، فقال رسول الله (: (لقد أعانك عليه ملك كريم).
    [ابن هشام وابن سعد].
    وقد خشى النبي ( على عمه، وخاف أن يقتله الأنصار، فأمر عمر أن يأتيهم ويأتي بالعباس إليه، فلبَّتْ الأنصار أمر نبيهم، وتركوا العباس، فقال العباس: يا رسول الله، إني كنت مسلمًا. فنزل قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرًا يؤتكم خيرًا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم} [الأنفال: 70].
    ويروى أن رجلا من الأنصار سبَّ أبا للعباس كان في الجاهلية، فغضب العباس ولطمه، فجاء الأنصاري إلى قومه، فقالوا: والله لنلطمنه كما لطمه، فلبسوا السلاح. فبلغ ذلك النبي ( فصعد المنبر، وقال: (أيها الناس، أي أهل الأرض أكرم على الله؟) قالوا: أنت. قال: (فإن العباس مني وأنا منه، لا تسبُّوا أمواتنا فتؤذوا أحياءنا). فجاء القوم فقالوا: نعوذ بالله من غضبك يا رسول الله. [أحمد وابن سعد والحاكم].
    وقد أسلم العباس -رضي الله عنه- قبل فتح مكة، وحضر الفتح، وهو الذي طلب الأمان لأبي سفيان بن حرب، وكان سببًا في إيمانه، واشترك -رضي الله عنه- بعد ذلك في فتوح المسلمين، وكان يوم حنين ممسكًا بلجام بغلة النبي (، وكان ممن التفَّ حول الرسول ( يدافع عنه بعد أن فرَّ أغلب المسلمين، وأخذ العباس ينادى مع رسول الله ( على المسلمين حتى ثبتوا، وأنزل الله عليهم سكينته، وكان النصر العظيم في ذلك اليوم. [مسلم].
    وعندما خرج الرسول ( ومعه أصحابه إلى أهل الطائف، عسكر بجيشه في مكان قريب منها، ثم بعث إليهم حنظلة بن الربيع -رضي الله عنه- ليكلمهم، فلما وصل إليهم خرجوا وحملوه ليدخلوه حصنهم ويقتلوه، فلما رأى الرسول ( ذلك، خاف على حنظلة، ونظر إلى أصحابه يحثهم على إنقاذه، وقال: (مَن لهؤلاء؟ وله مثل أجر غزاتنا هذه) [ابن عساكر]. فلم يقم أحد من الصحابة إلا العباس الذي أسرع ناحية الحصن حتى أدرك حنظلة، وقد كادوا أن يدخلوه الحصن، فاحتضنه وخلصه من أيديهم فأمطروه بالحجارة من داخل الحصن، فجعل النبي ( يدعو له حتى وصل إليه ومعه حنظلة، وقد نجا من هلاك محقق.
    وفي خلافة عمر -رضي الله عنه- أجدبت الأرض وأصابها الفقر الشديد، فخرج الناس إلى الصحراء ومعهم عمر والعباس، فرفع عمر بن الخطاب يديه إلى السماء، وقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيِّنا فتسقينا، وإن نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. [البخاري].
    فلما استسقى عمر بالعباس، قام العباس ورفع يديه إلى ربه وقال: اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث. ولم يكد العباس ينهي دعاءه حتى امتلأت السماء بالغيوم والسحاب، وأنزل الله غيثه، فانطلق الناس يهنئون العباس، ويقولون له: هنيئًا لك ساقي الحرمين.
    وكان للعباس مكانة كبيرة في قلوب المسلمين، وعظماء الصحابة، فيروى أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- كان جالسًا بجانب النبي ( فرأى العباس مقبلاً، فقام أبو بكر له وأجلسه مكانه بجوار رسول الله (، فقال النبي ( لأبي بكر: (إنما يعرف الفضل لأهل الفضل أهلُ الفضل) [ابن عساكر].
    وكان أبو بكر إذا قابل العباس نزل من على دابته، وسار معه احترامًا وإكرامًا له حتى يصل العباس إلى المكان الذي يريده، وكان علي بن أبي طالب يقبل يد العباس ويقول له: يا عم، ارض عني.
    وقد كان للعباس ولدان، هما عبد الله بن عباس حَبرْ الأمة، وعبيد الله بن عباس. وتوفي العباس سنة (32هـ)، ودفن بالبقيع، وكان عمره (88) عامًا، وصلى عليه عثمان -رضي الله عنه-.


    حكيم الأمة
    أبو الدرداء الأنصاري

    إنه الصحابي الجليل أبو الدرداء عويمر بن قيس بن عامر الخزرجي الأنصاري
    -رضي الله عنه-، أسلم في غزوة بدر، وقيل إنه آخر مَنْ أسلم من الأنصار.
    ومما يروى في قصة إسلامه، أنه كان عنده صنم في داره، وذات يوم دخل عليه عبد الله بن رواحة ومحمد بن مسلمة، فشاهدا الصنم فكسراه إلى قطع صغيرة، فبدأ أبو الدرداء يجمع القطع المتناثرة من أحجار الصنم، وهو يقول للصنم: ويحك! هلا امتنعت ألا دافعت عن نفسك؟ فقالت زوجته أم الدرداء: لو كان ينفع أو يدفع عن أحد لدفع عن نفسه ونفعها.
    فقال أبو الدرداء أعدي لي ماءً في المغتسل، ثم قام فاغتسل، ولبس حلته، ثم ذهب إلى النبي (، فنظر إليه ابن رواحة مُقبلا، فقال: يا رسول الله، هذا أبو الدرداء، وما أراه إلا جاء في طلبنا. فأخبره رسول الله ( أن أبا الدرداء إنما جاء ليسلم، وأن الله وعد رسوله بأن يسلم أبو الدرداء، وبالفعل أعلن أبو الدرداء إسلامه، فكان من خيرة الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم-.
    وشهد أبو الدرداء مع رسول الله ( غزوة أحد وغيرها من المشاهد، وعرف -رضي الله عنه- بالعفو والسماحة، ويحكى أن رجلا قال له ذات مرة قولاً جارحًا، فأعرض عنه أبو الدرداء ولم يرد عليه، فعلم بذلك
    عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فغضب وذهب إلى أبي الدرداء وسأله عما حدث فقال: اللهم غفرانًا، أوكل ما سمعنا منهم نأخذهم به (أي نعاقبهم ونحاسبهم عليه)؟!
    وكان أبو الدرداء تاجرًا مشهورًا، فلما أسلم تفرغ للعلم والعبادة، وقال: أردت أن أجمع بين التجارة والعبادة، فلم يستقم، فتركت التجارة وأقبلت على العبادة. ووصف بالشجاعة، حتى قيل عنه: نعم الفارس عويمر. وكان ينطق بالحكمة، فقيل عنه: حكيم الأمة عويمر.
    وكان لأبي الدرداء ثلاثمائة وستون صديقًا، فكان يدعو لهم في الصلاة، ولما سئل عن ذلك قال: إنه ليس رجل يدعو لأخيه في الغيب إلا وكل الله به مَلَكيْن يقولان، ولك بمثل، أفلا أرغب أن تدعو لي الملائكة؟!
    وحفظ أبو الدرداء القرآن في حياة الرسول (، وكان ابن عمر يقول لأصحابه: حدثونا عن العاقلين: معاذ بن جبل وأبي الدرداء.
    وكان من العابدين الزاهدين، وقد زاره أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في بيته فلم ير فيه غير فراش من جلد، وكساء رقيق لا يحميه من البرد، فقال له: رحمك الله، ألم أوسع عليك؟ فقال له أبو الدرداء: أتذكر حديثًا حدثناه رسول الله (؟ قال عمر: أي حديث؟ قال: (ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب) [الترمذي]. قال: نعم، قال أبو الدرداء: فماذا فعلنا بعده يا عمر؟
    وحرص أبو الدرداء -رضي الله عنه- على العلم، وكان حرصه على العمل بما يعلم أقوى وأشد، وكان ملازمًا للنبي ( حتى قال عنه الصحابة: أتْبَعُنَا للعلم والعمل أبو الدرداء.
    وكان يقول: لن تكون عالمًا حتى تكون متعلمًا، ولن تكون متعلمًا حتى تكون بما علمت عاملاً، إن أخوف ما أخاف إذا وقفت للحساب أن يقال لي: ما عملت فيما علمت؟، وقال: ويل للذي لا يعلم مرة، وويل للذي يعلم ولا يعمل سبع مرات.
    وكان -رضي الله عنه- يعلِّم الناس القرآن الكريم وسنة رسول الله (، ويحثهم على طلب العلم، ويأخذ بأيديهم إلى الصواب، فيقول لهم: ما لي أرى علماءكم يذهبون، وجهَّالكم لا يتعلمون؟! تعلموا فإن العالم والمتعلم شريكان في الأجر.
    وذات يوم مرَّ أبو الدرداء على أناس يضربون رجلاً ويسبونه، فقال لهم: ماذا فعل؟ فقالوا: أذنب ذنبًا، فقال: أرأيتم لو وجدتموه في بئر أكنتم تستخرجونه منها؟ قالوا: نعم نستخرجه، قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم، فقالوا له: ألا تبغضه وتكرهه؟ قال: إنما أبغض عمله، فإذا تركه فهو أخي.
    ويروى أنه كان مع المسلمين في قبرص، ففتحها الله على المسلمين، وغنموا خيرًا كثيرًا، وكان أبو الدرداء واقفًا مع جبير بن نفير، فمرَّ عليه السبي والأسرى، فبكى أبو الدرداء، فقال له جبير: تبكي في مثل هذا اليوم الذي أعزَّ الله فيه الإسلام وأهله؟! فقال أبو الدرداء: يا جبير، بينما هذه الأمة قاهرة ظاهرة إذ عصوا الله فلقوا ما ترى! ما أهون العباد على الله إذ هم عصوا!
    ويحكى أن يزيد بن معاوية تقدم ليخطب ابنة أبي الدرداء فردَّه، فأعاد يزيد طلبه، فرفض أبو الدرداء مرة ثانية، ثم تقدم لخطبتها رجل فقير عرف بالتقوى والصلاح، فزوجها أبو الدرداء منه، فتعجب الناس من صنيعه، فكان رده عليهم: ما ظنَّكم بابنة أبي الدرداء إذا قام على رأسها الخدم والعبيد وبهرها زخرف القصور، أين دينها يومئذ؟! وكان يقول: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يعظم حلمك ويكثر علمك، وأن تبارى (تنافس) الناس في عبادة الله تعالى.
    وعاش أبو الدرداء حياة بسيطة يملؤها الزهد والتواضع حتى جاءته ساعة الموت، فقال عند احتضاره: من يعمل لمثل يومي هذا؟ من يعمل لمثل مضجعي هذا؟ وكان يقول: من أكثر ذكر الموت قل فرحه، وقل حسده. وقد توفي سنة
    (32هـ) في خلافة عثمان بن عفان.


    صاحب سر رسول الله
    حذيفة بن اليمان

    إنه الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-، كان يكنَّى أبا عبد الله، دخل هو وأبوه اليمان في دين الإسلام، وحاَلفَ أبوه بني عبد الأشهل من الأنصار، وعندما توجها إلى المدينة أخذهما كفار قريش، وقالوا لهما: إنكما تريدان محمدًا، فقالا: ما نريد إلا المدينة، فأخذ المشركون عليهما عهدًا أن ينصرفا إلى المدينة، ولا يقاتلا مع النبي (، فلما جاءت غزوة بدر أخبرا النبي ( بعهدهما مع المشركين، فقال لهما النبي (: (انصرفا نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم) [مسلم].
    وشارك حذيفة وأبوه في غزوة أحد، وأثناء القتال، نظر حذيفة إلى أبيه، فرأى المسلمون يريدون قتله ظنًّا منهم أنه من المشركين، فناداهم حذيفة يريد أن ينبههم قائلاً: أي عباد الله! أبي، فلم يفهموا قوله حتى قتلوه، فقال حذيفة: يغفر الله لكم، وأراد النبي ( أن يعطيه دية لأبيه، ولكن حذيفة تصدق بها على المسلمين.
    وفي غزوة الأحزاب، حيث كان المشركون متجمعين حول المدينة، أراد الرسول ( أن يعرف أخبارهم، وطلب من الصحابة أن يقوم رجل
    منهم ويتحسس أخبارهم، قائلاً: (من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم، ثم يرجع، أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة؟) فما قام رجل من القوم من شدة الخوف، وشدة الجوع وشدة البرد، قال حذيفة: فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله ( فلم يكن لي بد من القيام حيث دعاني، فقال: (يا حذيفة، اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يصنعون، ولا تُحْدِثَنَّ شيئًا
    حتى تأتينا).
    فذهبت فدخلت في القوم، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قدرًا ولا نارًا ولا بناء، فقام أبو سفيان، فقال: يا معشر قريش، لينظر امرؤ من جليسه؟ قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي، فقلت: من أنت؟ قال: فلان بن فلان، ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، فارتحلوا إني مرتحل. وعاد حذيفة إلى النبي ( وأخبره بما حدث.
    وذات يوم دخل حذيفة المسجد فوجد الرسول ( يصلي، فوقف خلفه يصلي معه، فقرأ النبي ( سورة الفاتحة ثم البقرة ثم النساء ثم آل عمران في ركعة واحدة، وإذا مَرَّ النبي ( بآية فيها تسبيح سبّح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ استعاذ...)_[مسلم].
    وقد استأمنه الرسول ( على سرِّه، وأعلمه أسماء المنافقين، فكان يعرفهم واحدًا واحدًا، وكان عمر ينظر إليه إذا مات أحد من المسلمين، فإذا وجده حاضرًا جنازته علم أن الميت ليس من المنافقين فيشهد الجنازة، وإن لم يجده شاهدًا الجنازة لم يشهدها هو الآخر. وقال علي -رضي الله عنه-: كان أعلم الناس بالمنافقين، خَيَّرَه رسول الله ( بين الهجرة والنصرة فاختار النصرة.
    ودخل حذيفة المسجد ذات مرة فوجد رجلا يصلي ولا يحسن أداء الصلاة، ولا يتم ركوعها ولا سجودها، فقال له حذيفة: مُذْ كم هذه صلاتك؟ فقال الرجل: منذ أربعين سنة، فأخبره حذيفة أنه ما صلى صلاة كاملة منذ أربعين سنة، ثم أخذ يعلِّمه كيف يصلي.
    وكان حذيفة فارسًا شجاعًا، وحينما استشهد النعمان بن مقرن أمير جيش المسلمين في معركة نهاوند، تولى حذيفة القيادة، وأخذ الراية وتم للمسلمين النصر على أعدائهم، وشهد فتوح العراق وكان له فيها مواقف عظيمة.
    وعرف حذيفة بالزهد، فقد أرسل إليه عمر مالاً ليقضي به حاجته، فقسم حذيفة هذا المال بين فقراء المسلمين وأقاربه، وأرسله عمر أميرًا على المدائن، وكتب لأهلها أن يسمعوا لحذيفة، ويطيعوا أمره، ويعطوه ما يسألهم، وخرج حذيفة متوجهًا إلى المدائن، وهو راكب حمارًا، وبيده قطعة من اللحم، فلما وصل إلى المدائن قال له أهلها: سلنا ما شئت. فقال حذيفة: أسألكم طعامًا آكله، وعلف حماري ما دمت فيكم. وظل حذيفة على هذا الأمر، لا يأخذ من المال قليلاً ولا كثيرًا إلا ما كان من طعامه وعلف حماره.
    وأراد عمر أن يرى حال حذيفة وما أصبح فيه، فكتب إليه يطلب قدومه إلى المدينة، ثم اختبأ في الطريق حتى يرى ماذا جمع؟ فرآه على نفس الحال التي خرج بها، فخرج إليه فرحًا سعيدًا يقول له: أنت أخي وأنا أخوك. وكان عمر يقول: إني أتمنى أن يكون ملء بيتي رجالا مثل أبي عبيدة ومعاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان أستعملهم في طاعة الله.
    وكان حذيفة -رضي الله عنه- يحب العزلة ويقول: لوددت أن لي مَنْ يصلح من مالي (يدير شئونه)، وأغلق بابي فلا يدخل عليَّ أحد، ولا أخرج إليهم حتى ألحق بالله.
    وذات مرة غضب الناس من أحد الأمراء، فأقبل رجل إلى حذيفة في المسجد فقال له: يا صاحب رسول الله ( ألا تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فرفع حذيفة رأسه، وعرف ما يريد الرجل، ثم قال له: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لحسن، وليس من السنة أن تشهر (ترفع) السلاح على أميرك. وقد سئل: أي الفتنة أشد؟ فقال: أن يعرض عليك الخير والشر، فلا تدري أيهما تركب. وقال لأصحابه: إياكم ومواقف الفتن، فقيل له، وما مواقف الفتن يا أبا عبد الله؟ قال: أبواب الأمراء، يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب ويقول له ما ليس فيه. وتُوفي -رضي الله عنه- سنة (36هـ).


    صاحب العمامة الحمراء
    أبو دجانة الأنصاري

    إنه الصحابي الجليل أبو دجانة الأنصاري، واسمه سِمَاك بن أوس بن خرشة، أسلم وآمن بالله ورسوله (، وقد آخى الرسول ( بينه وبين عتبة بن غزوان، وكان شديد الحب لله ولرسوله (، كثير العبادة، اشترك في غزوة بدر وحضر المعارك مع رسول الله (، وأبلى فيها بلاء حسنًا.
    وقف يوم أحد إلى جانب فرسان المسلمين، يستمع إلى رسول الله ( وهو يعرض عليهم سيفه، قائلا: (من يأخذ مني هذا؟) فبسطوا أيديهم، كل إنسان منهم يقول: أنا ..أنا، فقال رسول الله (: (فمن يأخذه بحقه؟)، فأحجم القوم، فقال أبو دجانة: أنا آخذه بحقه، فأخذه أبو دجانة، ففلق به هام المشركين (أي شق رءوسهم) [مسلم].
    وأخذ أبو دجانة عصابته الحمراء وتعصب بها، فقال الأنصار من قومه: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، ثم نزل ساحة المعركة، وهو ينشد:
    أَنَا الذي عَاهَدَنِي خَلِيــلِي وَنَحْنُ بِالسَّفْحِ لَدَى النَّخِيــلِ
    أَنْ لا أُقِيمَ الدَّهرَ في الكبُولِ أَضــْرِبُ بِسَيْفِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ
    وأخذ يقتل المشركين، ويفلق رءوسهم بسيف الرسول ( حتى بدأ النصر يلوح للمسلمين، فلما ترك الرماة أماكنهم، وانشغلوا بجمع الغنائم، عاود المشركون هجومهم مرة أخرى، ففر كثير من المسلمين، وثبت بعضهم يقاتل حول رسول الله (، منهم أبو دجانة الذي كان يدفع السهام عن رسول الله ( بعدما رأى كتائب المشركين تريد الوصول إليه، فتصدى لهم بكل ما أوتى من قوة؛ أملا في الحصول على الشهادة.
    ومات الرسول ( وهو راض عنه، فواصل جهاده مع خليفته
    أبي بكر الصديق، وشارك في حروب الردة، وكان في مقدمة جيش المسلمين الذاهب إلى اليمامة لمحاربة مدعى النبوة مسيلمة الكذاب وقومه بني حنيفة، وقاتل قتال الأسد حتى انكشف المرتدون، وفروا إلى حديقة مسيلمة، واختفوا خلف أسوارها وحصونها المنيعة، فألقى المسلمون بأنفسهم داخل الحديقة وفي مقدمتهم أبو دجانة، ففتح الحصن، وحمى القتال، فكسرت قدمه، ولكنه لم يهتم، وواصل جهاده حتى امتلأ جسده بالجراح، فسقط شهيدًا على أرض المعركة، وانتصر المسلمون، وفرحوا بنصر الله، وشكروا لأبي دجانة صنيعه من تضحية وجهاد لإعلاء كلمة الله.


    أصغر النقباء
    أسعد بن زرارة

    إنه أبو أمامة أسعد بن زرارة الأنصاري الخزرجي -رضي الله عنه-، أول من قدم المدينة بالإسلام، ويروى أنه أول من صلى الجمعة بها مع أربعين من أصحابه.
    وكان قد خرج مع صاحب له يدعى ذكوان بن عبد القيس إلى مكة يتحاكمان إلى عتبة بن ربيعة وكانا قد اختلفا فيما بينهما، فلما وصلا إلى مكة، وسمعا برسول الله ( ذهبا إليه، فعرض عليهما الإسلام، وتلا آيات من القرآن الكريم، فأسلما، ولم يقربا عتبة بن ربيعة، ثم رجعا إلى المدينة فكانا أول من قدم بالإسلام إلى المدينة [ابن سعد].
    شهد بيعة العقبة الأولى والثانية، وكان أول من بايع النبي (، واختاره رسول الله ( نقيبًا على قبيلته، ولم يكن في النقباء أصغر سنًّا منه.
    وعن أم زيد بن ثابت أنها رأت أسعد بن زرارة -قبل مقدم النبي (- يصلي بالناس الصلوات الخمس، يجمع بهم في مسجد بناه في مربد سهل وسهيل ابني رافع. قالت: فانظر إلى رسول الله (، لما قدم في ذلك المسجد وبناه، فهو مسجده اليوم (أي مسجد الرسول () [ابن سعد].
    وكان -رضي الله عنه- كريمًا، وقد استضاف مصعب بن عمير -رضي الله عنه- عندما بعثه الرسول ( إلى المدينة؛ ليعلم أهلها الإسلام، وجلس مصعب وأسعد في أحد بساتين بني عبد الأشهل، فالتفَّ حولهما الناس، وأخذا يدعوان الناس إلى الإسلام فأسلم على يديهما جمع كبير من بني عبد الأشهل ووقف أسعد ابن زرارة -رضي الله عنه- مواقف بطولية تدل على نبل أخلاقه، وصدق إيمانه، وعظمة حبه لله ورسوله (.
    وعندما مرض أسعد بن زرارة، وعلم النبي ( بمرضه، ذهب يزوره، فوجده مريضًا بالذبحة (وجع في الحلق)، ثم مات -رضي الله عنه- في السنة الأولى للهجرة والرسول ( يبني مسجده، وصلى عليه الرسول ( وصحابته، ودفن بالبقيع، فكان -رضي الله عنه- أول صحابي من الأنصار يدفن بالبقيع. وقد أوصى أسعد ببناته إلى رسول الله (، وكن ثلاثًا، فكن في رعاية رسول الله ( وكفالته. [ابن سعد].

    الشهيد الصادق
    أنس بن النضر

    إنه الصحابي الجليل أنس بن النضر -رضي الله عنه-، عم أنس بن مالك خادم رسول الله (، وعلى اسمه يسمَّى، وينسب إلى بني النجَّار في المدينة.
    وقد أحب أنس رسوله (، وظل مدافعًا عنه حتى آخر قطرة دم في جسده، ولم يعلم بخروج النبي ( لقتال المشركين يوم بدر، فحزن حزنًا شديدًا، ونذر نفسه للشهادة في سبيل الله ليعوض ما فاته من يوم
    بدر.
    وذهب إلى الرسول ( نادمًا أن فاتته غزوة بدر، فقال للنبي (: يا رسول الله، غبت عن قتال بدر، غبت عن أول قتال قاتلتَ المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين اللهُ ما أصنع، فلما كان يوم أحد، خرج أنس بن النضر مع المسلمين، وهو يتمنى أن يلقى الله شهيدًا في هذه الغزوة.
    وبدأت المعركة وكان النصر حليف المسلمين إلى أن خالف الرماة أمر رسول الله (، وتحول النصر إلى هزيمة، وفر عدد كبير من المسلمين، ولم يثبت مع النبي ( سوى نفر قليل، فلما رأى أنس بن النضر
    -رضي الله عنه- ذلك المشهد تذكَّر على الفور وعده لله تعالى، وقوله للرسول (: لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع.
    فانطلق يشق صفوف المشركين قائلاً: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء (يعنى أصحابه) وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء (يعنى المشركين)، ثم تقدم شاهرًا سيفه، فاستقبله سعد بن معاذ -رضي الله عنه- فقال: يا سعد بن معاذ، الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أحد. وأخذ يقاتل ويضرب بسيفه يمينًا وشمالاً، حتى سقط شهيدًا على أرض المعركة، وبعد انتهاء القتال حكى سعد بن معاذ
    -رضي الله عنه- للنبي ( ما صنعه أنس بن النضر، وقال: فما استطعت يا رسول الله ما صنع.
    وقام الرسول ( وأصحابه ليتفقدوا شهداء أحد، ويتعرفوا عليهم، فوجدوا أنس بن النضر وبه بضعة وثمانون جرحًا ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، وقد مثل به المشركون فلم يعرفه أحد إلا أخته الربيع بنت النضر بعلامة في أصابعه [البخاري]. وروى أن هذه الآية الكريمة {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا} [الأحزاب: 23] نزلت في أنس بين النضر ومن معه من الصحابة رضوان الله عليهم.


    قاتل المائة
    البراء بن مالك

    إنه البراء بن مالك بن النضر -رضي الله عنه- أخو أنس بن مالك خادم رسول الله (، وأحد الأبطال الأقوياء، بايع تحت الشجرة، وشهد أحدًا وما بعدها من الغزوات مع رسول الله (، عاش حياته مجاهدًا في سبيل الله.
    وكانت كل أمانيه أن يموت شهيدًا، وقتل بمفرده مائة رجل في المعارك التي شارك فيها، فقد دخل عليه أخوه أنس مرة وهو يتغنى بالشعر، فقد منحه الله صوتًا جميلا، فقال له: يا أخي، تتغنى بالشعر، وقد أبدلك الله به ما هو خير منه القرآن؟ فقال له: أتخاف عليَّ أن أموت على فراشي، لا والله، ما كان الله ليحرمني الشهادة في سبيله، وقد قتلت مائة بمفردي سوى من شاركت في قتله.
    وشارك في حروب الردة، وأظهر فيها بطولة فائقة، أبهرت عقول من رآه، وها هو ذا يوم اليمامة يقف منتظرًا أن يصدر القائد خالد بن الوليد أمره بالزحف لملاقاة المرتدين، ونادى خالد: الله أكبر. فانطلقت جيوش المسلمين مكبرة، وانطلق معها عاشق الموت البراء بن مالك.
    وراح يقاتل أتباع مسيلمة الكذاب بسيفه، وهم يتساقطون أمامه قتلى؛ الواحد تلو الآخر، ولم يكن جيش مسيلمة ضعيفًا، ولا قليلا، بل كان أخطر جيوش الردة، وقد تصدوا لهجوم المسلمين بكل عنف حتى كادوا يأخذون زمام المعركة، وتحولت مقاومتهم إلى هجوم، فبدأ الخوف يتسرب إلى صفوف المسلمين، فأسرع خالد بن الوليد إلى البراء بن مالك قائلا له: تكلم يا براء، فقام البراء، وصاح في المسلمين مشجعًا، ومحفزًا لهم على القتال، فقال: يا أهل المدينة، لا مدينة لكم اليوم، إنما هو الله وحده والجنة. وركب فرسه واندفع نحو الأعداء، ومعه المسلمون يقاتلون قتالا شديدًا حتى رجحت كفة المسلمين، واندفع المرتدون إلى الوراء هاربين، واحتموا بحديقة لمسيلمة ذات أسوار عالية .
    ووقف المسلمون أمام الحديقة يفكرون في حيلة يقتحمون بها الحصن، فإذا بالبراء بن مالك، يقول: يا معشر المسلمين، ألقوني إليهم. فاحتمله المسلمون وألقوه في الحديقة، فقاتلهم حتى فتحها على المسلمين، ودخل المسلمون الحديقة، وأخذوا يقتلون أصحاب مسيلمة، وانتصر المسلمون إلا أن حلم البراء لم يتحقق، لقد ألقى بنفسه داخل الحديقة آملا أن يرزقه الله الشهادة، ولكن لم يشأ الله بعد.
    ورجع البراء بن مالك وبه بضعة وثمانون جرحًا ما بين ضربة بسيف أو رمية بسهم، وحمل إلى خيمته ليداوى، وقام خالد بن الوليد على علاجه بنفسه شهرًا كاملا.
    وعندما شُفي البراء من جراحات يوم اليمامة، انطلق مع جيوش المسلمين التي ذهبت لقتال الفرس، وفي إحدى حروب المسلمين مع الفرس لجأ الفرس إلى وسيلة وحشية حيث استخدموا كلاليب من حديد معلقة في أطراف سلاسل ملتهبة محماة بالنار، يلقونها من حصونهم، فترفع من تناله من المسلمين، وسقطت إحدى هذه الكلاليب على أنس بن مالك، فلم يستطع أنس أن يخلص نفسه، فرآه البراء، فأسرع نحوه، وقبض على السلسلة بيديه، وأخذ يجرها إلى أسفل حتى قطعت، ثم نظر إلى يديه فإذا عظامها قد ظهرت وذاب اللحم من عليها، وأنجى الله أنس بن مالك بذلك.
    وظل البراء -رضي الله عنه- يقاتل في سبيل الله معركة بعد أخرى متمنيًا أن يحقق الله له غايته، وها هى ذي موقعة تُسْتُر تأتى ليلاقي المسلمون فيها جيوش الفرس، وتتحقق فيها أمنية البراء.
    لقد تجمع الفرس واحتشدوا في جيش كثيف، وجاءوا من كل مكان للقاء المسلمين، وكتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أميريه على الكوفة والبصرة أن يرسل كل منهما جيشاً إلى الأهواز، والتقى الجيشان القادمان من الكوفة والبصرة بجيش الفرس في معركة رهيبة، وكان البراء أحد جنود المسلمين في تلك المعركة، وبدأت المعركة بالمبارزة كالعادة، فخرج البراء للمبارزة، والتحم الجيشان وتساقط القتلى من الفريقين، وكاد المسلمون أن ينهزموا.
    فاقترب بعض الصحابة من البراء قائلين له: يا براء، أتذكر يوم أن قال الرسول ( عنك: (كم من أشعث أغبر ذى طمرين (ثوبين قديمين)، لا يؤبه له (لا يهتم به أحد) لو أقسم على الله لأبره، منهم البراء بن مالك؟) [الترمذي]. ثم طلب الصحابة منه أن يدعو الله لهم، فرفع البراء يده إلى السماء داعيًا: اللهم امنحنا أكتافهم، اللهم اهزمهم، وانصرنا عليهم، اللهم ألحقني بنبيك.
    ثم انطلق فركب فرسه، وهجم على الفرس، وقتل أحد كبارهم، وفتح الله على المسلمين وانتصروا على الفرس، واستشهد البراء بن مالك في هذه المعركة بعد رحلة جهاد طويلة، قدم فيها البراء كل ما يملك في سبيل دينه، وكانت وفاته في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- سنة (20هـ) رضي الله عنه وأرضاه.


    شهيد اليمامة
    زيد بن الخطاب

    إنه زيد بن الخطاب -رضي الله عنه- أخو عمر بن الخطاب لأبيه، وكان أكبر منه سنًا، وأسلم قبله واستشهد قبله، وقد آخى النبي ( بينه وبين معن بن عدي العجلاني، وظلا معًا حتى استشهدا في اليمامة، وكان إيمانه بالله وبرسوله ( إيمانًا قويًّا، فلم يتخلف عن رسول الله ( في غزوة أو مشهد، شهد بدرًا وأحدًا والخندق وشهد بيعة الرضوان بالحديبية، وفي كل مرة يقابل فيها أعداء الإسلام كان يبحث عن الشهادة.
    رآه أخوه عمر يوم أحد، وقد سقط الدِّرع عنه، وأصبح قريبًا من الأعداء، فصاح قائلا: خذ درعي يا زيد فقاتل به، فردَّ عليه زيد: إني أريد من الشهادة ما تريده
    يا عمر، وظل يقاتل بغير درع في فدائية، ولكن الله لم يكتب له الشهادة في تلك الغزوة.
    وبعد وفاة الرسول (، ارتدت كثير من قبائل العرب، فرفع الصديق لواء الجهاد في وجوه المرتدين حتى يعودوا إلى الإسلام، وكانت حرب اليمامة من أشد حروب الردة، ودارت رحاها بين المسلمين وبين جيوش مسيلمة الكذاب، وكاد المسلمون أن ينهزموا بعد أن سقط منهم شهداء كثيرون، فلما رأى زيد ذلك، صعد على ربوة وصاح في إخوانه: يا أيها الناس، عضوا على أضراسكم، واضربوا عدوكم، وامضوا قدمًا، ثم رفع بصره إلى السماء
    وقال: اللهم إني أعتذر إليك من فرار أصحابي، وأبرأ إليك مما جاء به مسيلمة وأصحابه. ثم نذر ألا يكلم أحدًا حتى يقضي الله بين المسلمين وأعدائهم فيما هم فيه مختلفون، ثم قال: والله لا أتكلم اليوم حتى يهزمهم الله أو ألقى الله، فأكلمه بحجتي.
    ثم أخذ سيفه، وقاتل قتالا شديدًا، وعمد إلى الرجَّال بن عنفوة قائد جيوش مسيلمة وقتله، وكانت أمنيته أن يقتل هذا المرتد، وظل يضرب في أعداء الله حتى رزقه الله الشهادة.
    فحزن المسلمون لموت زيد حزنًا شديدًا، وكان أشدهم حزنًا عليه أخوه عمر الذي قال حينما علم بموته: رحم الله زيدًا سبقني إلى الحسنيين، أسلم قبلي، واستشهد قبلي. وكان دائمًا يقول: ما هبت الصبا إلا وجدت منها ريح زيد، وها هو ذا يقول لمتمم بن نويرة: لو كنت أحسن الشعر لقلت في أخي زيد مثل ما قلت في أخيك مالك، وكان متمم قد رثى أخاه مالكًا بأبيات كثيرة، فقال متمم، ولو أن أخي ذهب على ما ذهب عليه أخوك ما حزنت عليه، فقال عمر: ما عزاني أحد بأحسن مما عزيتني به.


    خطيب قريش
    سهيل بن عمرو

    إنه الصحابي الجليل سهيل بن عمرو -رضي الله عنه-، كان من أشراف قريش وسادتها، وكان خطيبًا مفوهًا، يخطب في أهل مكة؛ ليحرضهم على عداوة النبي ( وأصحابه، وحارب سهيل في صفوف الشرك في غزوة بدر الكبرى، وهو الذي قال: لقد رأيت يوم بدر رجالا بيضًا على خيل بلق (أي بها سواد وبياض)، بين السماء والأرض، معلمين، يقاتلون، ويأسرون، يقصد الملائكة التي أنزلها الله لتقاتل مع المسلمين مشركي قريش.
    وظل سهيل بن عمرو على عناده وكفره حتى خرج النبي ( وأصحابه قاصدين الحج إلى بيت الله الحرام، وعندما علمت قريش انتدبت بعض رجالها ليفاوضوا النبي ( وكان آخرهم سهيل بن عمرو، وتم صلح الحديبية الذي كان فيه سهيل بن عمرو نائبًا وخطيبًا عن قريش، فلما رآه رسول الله ( قال للمسلمين: (قد سهل لكم من أمركم) [البخاري].
    وقال سهيل للنبي (: هات اكتب بيننا وبينكم كتابًا. فنادى رسول الله ( علي بن أبي طالب وقال له اكتب: (بسم الله الرحمن الرحيم) فقال سهيل: أما الرحمن، فوالله ما أدرى ما هي ولكن اكتب: باسمك اللهم، كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم. فقال النبي (: (اكتب باسمك اللهم)، فكتبها عليُّ، ثم قال رسول الله (: (اكتب: هذا ما قاض عليه محمد رسول الله) فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال رسول الله (: (والله إني لرسول الله وإن كذبتموني)، وقال للكاتب: (اكتب محمد بن عبد الله) [البخاري].
    وروى أنه لما فتح رسول الله ( مكة دخل سهيل داره وأغلق عليه بابه، ثم أرسل ابنه عبد الله بن سهيل -وكان مسلمًا- إلى النبي ( يطلب منه الأمان لأبيه، فذهب عبد الله إلى النبي ( وقال له: يا رسول الله: أبي تؤمنه؟ فقال رسول الله (: (نعم هو آمن بأمان الله، فليظهر)، ثم قال النبي ( لمن حوله من المسلمين: (من لقى منكم سهيلا فلا يشدُّ إليه النظر، فليخرج، فلعمري إن سهيلا له عقل وشرف، وما مثل سهيل جهل الإسلام) [ابن عساكر].
    ففرح بذلك عبد الله وأسرع عائدًا إلى أبيه يخبره بما قاله رسول الله ( فسرَّ سهيل بما سمع، وقال: كان والله برًّا صغيرًا وكبيرًا (يقصد النبي ()، ثم خرج من بيته يغدو ويروح لا يتعرض له أحد. وخرج سهيل مع رسول الله ( والمسلمين إلى حنين وهو مازال على شركه، واشترك معهم في القتال، وانتصر المسلمون، فلما عاد المسلمون أعلن إسلامه، فسعد بذلك الرسول ( والمسلمون، وأعطاه من غنائم حنين مائة من الإبل.
    وقد حسن إسلامه، وأصبح كثير العبادة، وأصبح محبًا لله ورسوله، ومكث بمكة يقيم فيها شعائر ربه، ويرفع فيها راية الإسلام خفاقة عالية، حتى إذا جاء نبأ وفاة النبي ( هاج المسلمون في مكة، وهم بعضهم أن يرتد عن الإسلام، فتدارك سهيل بن عمرو الموقف، ووقف خطيبًا في أهل مكة، فتلا قوله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم علي أعقابكم ومن ينقلب علي عقبيه فلن يضر الله شيئًا وسيجزي الله الشاكرين} [آل عمران: 144]. ثم قال: من كان يعبد محمدًا، فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، والله إني أعلم أن هذا الدين سيمتد امتداد الشمس من طلوعها إلى غروبها، فلا يغرنكم هذا من أنفسكم، إن موت النبي ( حق، والله موجود حيٌّ لا يموت، والإسلام باقٍ ما بقِيَت السماء والأرض. فعاد أهل مكة إلى صوابهم، وتمسكوا بإسلامهم.
    وتحققت نبوءة النبي ( حين قال له عمر عن سهيل حين أسر في غزوة بدر: دعني أنزع ثنتيه، فلا يقوم علينا خطيبًا، فقال (: (دعها فلعلها أن تسرك يومًا) [البيهقي في الدلائل].
    وذات يوم أذن عمر بن الخطاب لأهل بدر في الدخول عليه، فأذن لبلال وعمار، بينما لم يأذن لمن حضر من سادة قريش، فكره أبو سفيان ذلك، وقال غاضبًا: ما رأيت كاليوم قط، إنه يأذن لهؤلاء العبيد، ونحن جلوس لا يلتفت إلينا ولا يأذن لنا، فقال سهيل: أيها القوم، إني والله قد أرى الذي في وجوهكم، فإن كنتم غضابًا فاغضبوا على أنفسكم، فقد دعي القوم (يقصد البدريين) ودعيتم إلى الإسلام، فأسرعوا وأبطأتم، أما والله لما سبقوكم به من الفضل فيما يرون أشد عليكم فوتًا من بابكم هذا الذي تنافسون عليه.
    وكان سهيل -رضي الله عنه- شجاعًا، محبًّا للجهاد في سبيل الله، وكان يقول: والله لا أدع موقفًا وقفته مع المشركين إلا وقفت مع المسلمين مثله، ولا نفقة أنفقتها مع المشركين إلا أنفقت على المسلمين مثلها، لعل أمري أن يتلو بعضه بعضًا.
    وقد دخل سهيل على أمير المؤمنين عمر يسأله عن أمر يستدرك به ما فاته وما سبقه به إخوانه المسلمون، فأشار عليه عمر بالجهاد في سبيل الله على حدود الروم، فلم يتوان سهيل عن ذلك، وعزم على أن يقضى باقي عمره مجاهدًا لله ورسوله، ووقف سهيل يخطب في أشراف مكة، ويحثهم على الجهاد في سبيل الله، فقال لهم: والله إني لمرابط في سبيل الله حتى أموت ولن أرجع إلى مكة. وخرج سهيل بأهله إلى الشام، وظل مجاهدًا في سبيل الله عز وجل، حتى رزقه الله بالشهادة في معركة اليرموك.


    صاحب المال الرابح
    أبو طلحة الأنصاري

    إنه أبو طلحة زيد بن سهل الخزرجي الأنصاري -رضي الله عنه-، أحد النقباء الاثني عشر الذين حضروا بيعة العقبة، وكان أبو طلحة يعبد شجرة قبل أن يسلم، فأراد أن يتزوج أم سليم -رضي الله عنها-، وكانت مسلمة، فقالت له: ألست تعلم أن إلهك الذي تعبد نبت من الأرض؟ قال: بلى، قالت: أفلا تستحي أن تعبد شجرة؟ إن أسلمت فإني لا أريد منك صداقًا (مهرًا) غيره. قال: حتى أنظر في أمري، فذهب، ثم جاء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فقالت لولدها أنس: يا أنس زَوِّج أبا طلحة، فزوجه.
    وحضر أبو طلحة مع الرسول ( كل الغزوات، وكان ( في غزوة أحد إذا رمى أبو طلحة سهمًا يرفع بصره ينظر إلى أين يقع السهم، وكان يدفع صدر الرسول ( بيده لخوفه عليه، ويقول: يا رسول الله هكذا لا يصيبك سهم. [أحمد]. وكان يقول له: نفسي لنفسك الفداء، ووجهي لوجهك الوقاء. وفي غزوة حنين قتل أبو طلحة عشرين رجلاً وأخذ أسلابهم. [أبوداود والدارمي والحاكم].
    وكان أبو طلحة أكثر الأنصار مالاً، وكان أحب أمواله إليه (بيرحاء) وهى أرض بها نخيل، وكانت أمام المسجد، فكان النبي ( يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزل قوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92]، ذهب إلى النبي ( وقال له: إن أحب أموالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال (: (بخٍ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت فيها، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين)، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه [متفق عليه].
    وكان أبو طلحة كثير الصيام، وكان حريصًا على الجهاد رغم كبر سنه؛ لقوله تعالى: {انفروا خفافًا وثقالا}، فكان يقول لأبنائه: لا أرى ربنا إلا يستنفرنا شبابا وشيوخًا، يا بني جهزوني، فإني خارج معكم إلى الغزو، فيقول أبناؤه: يرحمك الله يا أبانا، قد غزوت مع الرسول ( حتى مات، وغزوت مع أبي بكر حتى مات، وغزوت مع عمر حتى مات، فدعنا نغزو عنك، ولكنه صمم على رأيه، ولبس ثياب الحرب، وخرج معهم، ومات أثناء غزوة في البحر، ولم يجد الصحابة جزيرة قريبة ليدفنوه فيها إلا بعد سبعة أيام، ولم تتغير رائحة جسده.
    [ابن سعد]. وكان موته -رضي الله عنه- سنة (20 هـ).


    ذو النور
    الطفيل بن عمرو

    إنه الصحابي الجليل الطفيل بن عمرو الدوسي -رضي الله عنه- كان شاعرًا لبيبًا، كثير الترحال والسفر، وكان لمكة من ترحاله نصيب، وقد قدمها مرة بعدما بعث رسول الله (، فحذره أهل مكة من أن يسمع له أو يجالسه.
    ففكر الطفيل ألا يدخل المسجد البتة، ولكنه دخل وقد وضع في أذنه قطنًا، حتى لا يسمع ما يقول الرسول (، ثم حدَّث نفسه أن يسمع، فإن كان ما يقوله خيرًا أخذه عنه، وإن كان شرًّا لم ينصت إليه.
    وقف الطفيل عند رسول الله ( وهو يقرأ القرآن، فإذا به يسمع كلامًا ليس كسائر الكلام، إنه شيء معجز، لا يستطيع أحد من البشر أن يأتي بمثله، ولا يملك من يسمعه بعقل سليم إلا أن يؤمن به.
    فأقبل على رسول الله ( يقول: قد أبى الله إلا أن يسمعني منك ما تقول، وقد وقع في نفسي أنه حق، فاعرض عليَّ دينك، وما تأمر به وما
    تنهى عنه. فعرض عليه رسول الله ( الإسلام فقبله وحسن إسلامه.
    ثم طلب الطفيل -رضي الله عنه- من رسول الله ( أن يرسله إلى قبيلته دوس؛ ليدعوهم إلى الإسلام، وأن يدعو الله سبحانه أن يؤيده بآية من عنده، فقال (: (اللهم نَوِّر له). [ابن عبدالبر]. فسطع نور بين عينيه، فقال: يا رب، أخاف أن يقولوا إنه مُثعلَة (شناعة أو عيب)، فتحول إلى طرف سوطه، فكان يضيء في الليلة المظلمة. [ابن هشام].
    وقدم الطفيل إلى عشيرته، ودعاهم إلى الله، فلم يسلم معه إلا قليل، فرجع الطفيل إلى رسول الله ( يخبره بعصيان قومه له، وأشار على الرسول ( أن يدعو عليهم فيهلكوا، ولكن الرسول ( صاحب القلب الرحيم رفع يديه إلى السماء وقال (اللهم اهدِ دوسًا وائت بهم) [متفق عليه].
    ثم أمره الرسول ( أن يرجع إلى قومه ويدعوهم ويرفق بهم، فعلم الطفيل -رضي الله عنه- أن طريقته في الدعوة هي التي صرفت قلوب الناس عنه، فعاد الطفيل إلى أهله يدعوهم إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، وصبر عليهم حتى لانت قلوبهم، وأقبلوا على الله -عز وجل- ودخلوا جميعًا في الإسلام، وكان من ثمرات هذه القبيلة أبو هريرة -رضي الله عنه-.
    وقدمت قبيلة دوس جميعًا على رسول الله ( في عام فتح خيبر. وظل الطفيل -رضي الله عنه- إلى جوار رسول الله (، فشهد معه غزواته بعد خيبر، وكان معه حين فتحت مكة، وأرسله رسول الله ( بعد الفتح إلى صنم كبير في بيت عمر بن حممة كان يعبده المشركون ويسمونه ذا الكفين، فذهب إليه الطفيل وحرقه، وهو يقول:
    يَاَذا الكَفَّيْنِ لَسْتُ مِنْ عُبَّادِكَا
    مِيلادُنَا أَقْدَمُ مِنْ مِلادِكَـــا
    إِنِّي حَشَوْتُ النَّارَ في فُؤَادِكَـا
    وتوفي رسول الله ( وهو راضٍ عن الطفيل بن عمرو، وفي عهد الخليفة الأول أبي بكر -رضي الله عنه- كان الطفيل علمًا من أعلام المجاهدين، الذين تصدوا للمرتدين وجاهدوهم ، وكان الطفيل في طريقه مع جيش المسلمين إلى قتال مسيلمة قد رأى رؤيا عجيبة، يقول فيها: رأيت كأن رأسي حُلق، وخرج من فمي طائر، وكأن امرأة أدخلتني في فرجها، وكان ابني يطلبني طلبًا حثيثًا، فحيل بيني وبينه، فحدثت بها قومي، فقالوا: خيرًا.
    فقلت: أما أنا، فقد أوَّلتها: أما حلق رأسي فقطعه، وأما الطائر فروحي، والمرأة الأرض أدفن فيها، فقد رُوِّعت أن أقتل شهيدًا، وأما طلب ابني إياي، فما أراه إلا سيعذر في طلب الشهادة، ولا أراه يلحق في سفره هذا. فقتل الطفيل -رضي الله عنه- يوم اليمامة شهيدًا، وجرح ابنه، ثم قتل يوم اليرموك.


    شاعر الرسول
    حسان بن ثابت

    إنه الصحابي الجليل حسان بن ثابت بن المنذر الأنصاري -رضي الله عنه-، وكان يكنى أبا عبد الرحمن، وأبا الوليد، وأبا الحسام، ويقال له: شاعر رسول الله (. وهو أحد فحول الشعراء، وكان شعره في الجاهلية من أجود الشعر، قال عنه أبو عبيدة: فُضِّل حسان على الشعراء بثلاث: كان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر النبي ( في أيام النبوة، وشاعر اليمن كلها في الإسلام.
    وكان ( يضع له منبرًا في المسجد وهو ينشد الشعر، ويقول: (إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما ينافح (يدافع) عن رسول الله () [أحمد والترمذي]، وقال له النبي (: (اهج -يعنى المشركين- وجبريل معك) [البخاري]، وقال له (: (اهج قريشًا، فإنه أشد عليهم من رشق النبل) [مسلم].
    وعندما استأذن حسان النبي ( في هجاء قريش، قال له (: (فكيف بنسبي؟) فقال: والله لأسلنَّك (أنزعك) منهم كما تُسلُّ الشعرة من العجين. [البخاري]، فقال له (: (إيت أبا بكر، فإنه أعلم بأنساب القوم منك)، فكان حسان يذهب إلى أبي بكر ليعرف منه أنسابهم. فلما سمعت قريش هجاء حسان لهم، قالوا: إن هذا الشعر ما غاب عنه ابن أبي قحافة (أي: أبا بكر). وقد هجا حسان أبا سفيان، قائلاً:
    هَجَوْتَ مُحَمّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ وَعَنْدَ اللَّهِ في ذَاكَ الجــَزَاءُ
    هَجَوْتَ مُطَهرًا بـــرَّا حَنِيفًا أمين الله شِيمتُه الوفــاءُ
    فإنَّ أبي وَوَالِدَتِي وَعِرضي لِعِرْضِ مُحَمّدٍ مِنْكُم وِقَاءُ
    وقد أعطاه النبي ( جارية اسمها سيرين، وهى التي أرسلها المقوقس حاكم مصر هدية له ( مع أختها مارية، فتزوجها حسان، وأنجبت له عبد الرحمن. وقال حسان في وصف النبي (:
    مَتَى يَبْدُ في الدَّاجِي البَهيمِ جَبِينـُه يَلُحْ مثلَ مِصْبَاحِ الدُّجى المتوقدّ
    فَمَنْ كَانَ أوْ مَنْ قَدْ يَكُونُ كأَحْمَدٍ نِظَام لحقِّ أوْ نِكَال لِملْحِــدِ
    ومرَّ به عمر وهو ينشد الشعر في المسجد، فقال: أتنشد مثل هذا الشعر في مسجد رسول الله (. فقال حسان: لقد كنت أنشد وفيه من هو خير منك (أي: النبي ()، فسكت عمر. [متفق عليه].
    وقيل لحسان: ضعف شعرك في الإسلام يا أبا الحسام. فقال: إن الإسلام يمنع من الكذب، وإن الشعر يزينه الكذب، والشعر الجيد يقوم على المبالغة في الوصف، والتزيين بغير الحق، وذلك كله كذب. وتوفي حسان في خلافة عليّ، وعمره مائة وعشرون عامًا، ستون منها في الجاهلية، وستون في الإسلام.

    التقي الطيب
    الحسن بن علي

    إنه الحسن بن علي -رضي الله عنه-، سيد شباب أهل الجنة، وحفيد رسول الله (، أمه السيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله (، وأبوه ابن عم رسول الله ( علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-. ولد في النصف الثاني من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة، فلما علم رسول الله ( بمولده ذهب إلى بيت علي، فقال: (أروني ابني، ما سميتموه؟) فقال علي -رضي الله عنه-: حرب. فقال النبي (: (بل هو حسن) [أحمد والطبراني].
    وفي اليوم السابع من مولده، أقام النبي ( عقيقة له، وذبح كبشًا، وحلق رأس الحسن، وأمر أن يتصدق بزنة شعره فضة. [أبوداود وابن حبان].
    وكان جده ( يحبه كثيرًا، ويقول عنه وعن أخيه الحسين: (هذان ابناي وابنا ابنتي، اللهم إني أحبهما، فأحبهما وأحب من يحبهما) [الترمذي]، وقال (: (هذا ملك لم ينزل إلى الأرض قط قبل هذه الليلة استأذن ربه أن يسلم عليَّ، ويبشرني بأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، وأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة). [الترمذي].
    وأخذه رسول الله ( يومًا إلى المسجد، فصعد به المنبر وأجلسه إلى جواره، وقال لأصحابه: (ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين) [البخاري].
    كان -رضي الله عنه- أشبه الناس برسول الله (، وذات يوم رآه أبو بكر الصديق وهو طفل يلعب فحمله، وقال له مداعبًا:
    بأبي شبيه النبي ليس شبيهٌ بعلي
    فتبسم والده الإمام علي من قول الصديق. [البخاري].
    وكان النبي ( إذا سجد يقفز الحسن والحسين على ظهره، فلا يقوم النبي ( من سجوده حتى يتركاه، وكان لا ينهرهما ولا يغضب منهما.
    وذات يوم، رأى أحد الصحابة رسول الله ( يحمل الحسن على ظهره، فقال: نعم المركب ركبت يا غلام. فقال رسول الله (: (ونعم الراكب هو) [الترمذي].
    ونشأ الحسن -رضي الله عنه- متصفًا بصفات رسول الله (، فكان عابدًا حليمًا، ورعًا، فاضلا، وكان ذا هيبة ووقار، فسمّي التقي، والطيب، والذكي، والولي.
    سأل رجل الحسن ذات يوم: أتخاف من عذاب الله وعندك أسباب النجاة؟ ابن رسول الله (، وشفاعته ( لك، ورحمة الله التي وسعت كل شيء؟
    فقال الحسن -رضي الله عنه-: أما إني ابن رسول الله ( فالله تعالى يقول: {إذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} [المؤمنون: 101]. وأما عن الشفاعة؛ فالله سبحانه وتعالى يقول: {من ذا
    الذي يشفع عنده إلا بإذنه} [البقرة: 255]. وإما الرحمة التي وسعت كل شيء، فالله يقول: {فسأكتبها للذين يتقون}_[الأعراف: 156]، فكيف الأمان بعد ذلك؟!
    وكان -رضي الله عنه- جوادًا كريمًا، شجاعًا بطلاً، وقد شارك في فتح شمال أفريقيا وطبرستان، والدفاع عن عثمان بن عفان يوم قتل، ووقف مع أبيه في موقعة الجمل وصفين وحروبه ضد الخوارج.
    وكان -رضي الله عنه- حريصًا على المسلمين وعدم تفرقهم، فتنازل عن الخلافة لما علم أن ذلك سيؤدي إلى قيام حرب بين المسلمين، فلما تنازل عن الخلافة؛ أصلح الله بذلك بين الفئتين كما أخبر بذلك رسول الله ( حين قال: (ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين) [البخاري].
    وسمي العام الذي تنازل فيه الحسن عن الخلافة لمعاوية -رضي الله عنه- بعام الجماعة، وكان ذلك سنة (40هـ).
    وكان إذا تردد في أمرين لا يدرى أيهما أقرب إلى الحسن؛ نظر إلى أيهما أقرب من هواه فخالفه واتقاه. وكان -رضي الله عنه- فصيحًا، له كثير من الأقوال المأثورة التي تحمل معاني الحكمة منها:
    - إن المؤمن من تصغر الدنيا في عينه، ويخرج على سلطان بطنه وفرجه وجهله، لا يسخط ولا يشكو، إذا جالس العلماء كان أحرص الناس على أن يسمع منهم على أن يتكلم، لا يشارك في ادعاء، ولا يدخل في مراء (جدل).
    - لا أدب لمن لا عقل له، ولا سؤددا (لا سيادة) لمن لا همة له، ولا حياء لمن لا دين له.
    - هلاك الناس في ثلاث: الكبر، والحرص، والحسد؛ فالكبر هلاك الدين وبه لعن إبليس. والحرص عدو النفس، وبه أخرج آدم من الجنة، والحسد رائد السوء، وبه قتل قابيل هابيل.
    وفي ربيع الأول سنة (50 هـ) توفي الحسن -رضي الله عنه- ودفن بالبقيع، وقد روى -رضي الله عنه- كثيرًا من الأحاديث عن جده (.


    سيد شباب أهل الجنة
    الحسين بن علي

    إنه الحسين بن علي -رضي الله عنه-، الحفيد الثاني لرسول الله (، من ابنته فاطمة الزهراء -رضي الله عنها-، زوج علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وقد وُلد الحسين -رضي الله عنه- يوم الخامس من شعبان سنة أربعة من الهجرة، وعند ولادته أخذه النبي ( وحمله بين ذراعيه ولثم فاه بقبلة حانية طاهرة، وسماه حسينًا، وقال: (حسين مني وأنا من حسين، أَحَبَ اللهُ من أحب حسينًا) [الترمذي وأحمد].
    وكان النبي ( يحب الحسين حبًّا شديدًا، فنشأ الحسين في حجر النبي ( حتى بلغ السابعة من عمره لا يفارقه، ولا يبعد عنه، ويناديه يا أبت، وكان الحسين أشبه الناس برسول الله (، ولذا أحبه الصحابة وعظمه الخلفاء منذ صغره.
    وذات يوم دخل الحسين -رضي الله عنه- المسجد، فقال جابر ابن عبد الله
    -رضي الله عنه-: (من أحب أن ينظر إلى سيد شباب أهل الجنة فلينظر إلى هذا)، سمعته من رسول الله ( [أبو يعلي].
    وكان الحسين -رضي الله عنه- عابدًا يكثر الصوم والصلاة والحج والصدقة، وكان يحسن المعاملة مع مواليه وخدمه، فيروى أنه دخلت عليه جارية وبيدها باقة من الريحان فحيته بها، فقال لها الحسين: أنت حرَّة لوجه الله -تعالى-، فقيل له: جارية تحييك بطاقة (باقة) ريحان فتعتقها؟
    فقال الحسين: هكذا أدبنا الله، فقال تعالى: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} [النساء: 86]، وكان أحسن منها عتقها.
    وأحب الحسين -رضي الله عنه- العلم حتى صار بحرًا في علوم القرآن وحديث رسول الله ( والفقه، فكان يلقي دروسًا في مسجد رسول الله (، وكان الصحابة والتابعون يحرصون على حضور حلقته واستماع العلم منه، وفي هذا يقول معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-: إذا دخلت مسجد رسول الله ( فرأيت حلقة فيها قوم كأن على رءوسهم الطير فتلك حلقة أبي عبد الله الحسين.
    وقد عُرف -رضي الله عنه- بشجاعته وجهاده العظيم في سبيل الله لنصْرة الدين، فاشترك في فتح شمال إفريقية في خلافة عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وساهم في فتح طبرستان، وساند الحسين أباه الإمام عليَّا في حروبه بالجمل وصفين والخوارج.
    ولما توفي الإمام على وقف الحسين مع أخيه الحسن يناصره ويؤازره، فلما تنازل الحسن -رضي الله عنه- عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان؛ حقنًا لدماء المسلمين، وجمعًا لكلمتهم، قال الحسين لأخيه الحسن في أدب ووقار: أنت أكبر وَلَدِ عليّ، وأمرنا لأمرك تبع، فافعل ما بدا لك.
    وعكف الحسين بعد ذلك على طلب العلم والعبادة، حتى مات معاوية بعد أن أخذ البيعة لابنه يزيد مخالفًا بذلك إحدى شروط الصلح، وهو أن يُترك الأمر من بعده شورى بين المسلمين، عندها لم يسكت الحسين، وبايعه كثير من المسلمين، وطلبوا منه أن يكون خليفتهم، وأرسل إليه أهل الكوفة يبايعونه، ويحثونه على أن يأتي إليهم، فخرج الحسين مع أهله وبعض مناصريه متوجهًا نحو الكوفة، وحاول ابن عباس وأبو سعيد الخدري وابن عمر -رضي الله عنهم- منعه عن الخروج من مكة لكنه -رضي الله عنه- عزم على الخروج.
    وفي الطريق، قابل الفرزدق الشاعر المعروف فسأله: كيف تركت الناس في الكوفة؟ فأجابه الفرزدق: تركتهم قلوبهم معك وسيوفهم عليك. فقال الحسين: لله الأمر من قبل ومن بعد، ثم أكمل سيره حتى وصل إلى مكان يسمى (كربلاء) على مقربة من نهر الفرات؛ حيث دارت المعركة، وراح ضحيتها الحسين شهيدًا مع كثير مـن أهله وصحبه، وكان ذلك سنة (61 هـ).
    وقد حفظ الله نسل النبي ( في الحسن والحسين، فكل من ينتسب إلى النبي ( يرجع نسبه إلى الحسن أو الحسين -رضي الله عنهما-.


    الشهيد أخو الشهيد
    خالد بن سعيد

    إنه خالد بن سعيد بن العاص -رضي الله عنه-، أسلم مبكرًا، فلم يكن قد سبقه إلى الإسلام سوى ثلاثة أو أربعة، وقيل إنه أسلم مع أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-.
    ويروى في إسلامه أنه قام مفزوعًا من نومه ذات يوم، وهو يقول: أحلف بالله إنها لرؤيا حق. فلقى أبا بكر الصديق -رضي الله عنه-، فقال: إني رأيت في منامي أني واقف على شفير نار عظيمة، وأبي يدفعني نحوها، ورسول الله يمنعني من أن أقع فيها، ويجذبني من ملابسي بيده اليمنى المباركة.
    فقال له أبو بكر -رضي الله عنه-: إنه لخير أريد لك، هذا رسول الله ( فاتبعه، وإنك ستتبعه في الإسلام الذي يحجزك من أن تقع فيها، وأبوك واقع فيها.
    وانطلق خالد يبحث عن الرسول ( حتى وجده عند جبل بمكة يسمى أجياد، ثم سأله: يا محمد، إلى من تدعو؟ فقال الرسول (: (أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وتخلع (تترك) ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع، ولا يدرى من عَبَده ممن لم يعبده. [البيهقي والحاكم].
    فقال خالد: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، ففرح الرسول ( بإسلامه.
    ولما علم أبوه سعيد بن العاص بإسلامه، أرسل إليه أحد إخوته، ولم يكونوا أسلموا بعد، فجاء خالد ووقف أمام والده، فأخذ أبوه يشتمه، ويسبه، ويضربه بمقرعة كانت في يده حتى كسرها على رأسه، ثم قال: اتبعت محمدًا وأصحابه، وأنت ترى خلافه مع قومه، وما جاء به من عيب آلهتهم، وعيب من مضى من آبائهم!!
    فقال خالد: نعم تبعته على ما جاء به، فصاح أبوه فيه قائلا: اذهب يا أحمق حيث شئت، فوالله لأمنعنك القوت (أي الطعام)، فقال خالد: إن منعتني فإن الله يرزقني ما أعيش به، ثم طرده من بيته، وقال لإخوته: لا يكلمه أحد منكم إلا صنعت به ما صنعت بهذا اللئيم. وغادر خالد دار أبيه بكل ما فيها من نعيم، وذهب إلى الرسول (، وظل معه، يعيش بجواره، وينهل من علمه
    وفضله.
    وعندما أمر رسول الله ( أصحابه بالهجرة الثانية إلى الحبشة، كان خالد من أوائل من خرج إليها، ومكث هناك ما شاء الله له أن يمكث، ورزقه الله بابنه سعيد وابنته أم خالد.
    ثم يعود خالد مع إخوانه إلى المدينة بعد فتح خيبر، ويقيم بجوار رسول الله ( ويشاركه في فتح مكة وحنين والطائف، وتبوك، لا يتخلف عن غزوة، ولا يتقاعس عن جهاد، ثم بعثه الرسول ( واليًا على اليمن.
    وشاء الله تعالى أن يهدى إخوته إلى الإسلام، فأسلموا جميعًا، وشاركوا الرسول ( غزواته، ثم جعلهم أمراء على بعض الإمارات، ولما توفي الرسول ( ترك خالد وإخوته الإمارات، ورجعوا إلى المدينة، فقال لهم أبو بكر: ما لكم رجعت عن عمالتكم، ما أحد أحق بالعمل من عمال رسول الله (، ارجعوا إلى أعمالكم.
    فقالوا: نحن بنو أبي أحيحة (لقب لأبيهم) لا نعمل لأحد بعد رسول الله ( أبدًا. ثم ذهبوا إلى الشام يجاهدون في سبيل الله حتى قتلوا جميعًا هناك.
    وقد قيل: ما فتحت بالشام بلدة إلا وجد فيها رجل من بني سعيد بن العاص ميتًا. وكان خالد -رضي الله عنه- شديد الحب لله ولرسوله ( حتى إن أباه سعيد بن العاص مرض ذات يوم، فقال: لئن رفعني الله من مرضي هذا، لا يعبد إله ابن أبي كبشة بمكة أبدًا (يقصد بابن أبي كبشة رسول الله ().
    فلما سمع خالد ما يقوله أبوه قال: اللهم لا ترفعه. فمات أبوه في مرضه ذلك. واستشهد خالد بن سعيد -رضي الله عنه- في معركة أجنادين في جمادى الأولى سنة (13 هـ) قبل وفاة أبي بكر، وقيل: استشهد في معركة مرج الصفر سنة (14هـ) في بداية خلافة عمر -رضي الله عنه-.


    بليع الأرض
    خبيب بن عدي

    إنه الصحابي الجليل خبيب بن عدي -رضي الله عنه-، وأحد الأنصار الصادقين، من قبيلة الأوس، لازم النبي ( منذ أن هاجر إليهم، وكان عَذْبَ الروح، قوي الإيمان، وصفه شاعر الإسلام حسان بن ثابت فقال:
    صقرًا توسَّط في الأنصار منصـبُه
    سَمْحَ السَّجِيَّةَ مَحْضًا غير مُؤْتَشَب
    شارك في غزوة بدر، فكان جنديًّا باسلاً، ومقاتلاً شجاعًا، قتل عددًا كبيرًا من المشركين من بينهم الحارث بن عامر بن نوفل.
    وذات يوم أراد النبي ( أن يعرف نوايا قريش، ومدى استعدادها لغزو جديد، فاختار عشرة من أصحابه من بينهم خُبيب بن عدي، وجعل
    عاصم بن ثابت أميرًا عليهم، وانطلق الركب ناحية مكة حتى اقتربوا منها، فوصل خبرهم إلى قوم من بني لحيان فأخذوا يتتبعونهم، وأحسَّ عاصم أنهم يطاردونهم، فدعا أصحابه إلى صعود قمة عالية على رأس جبل، فاقترب منهم مائة رجل من المشركين وحاصروهم، ودعوهم إلى تسليم أنفسهم بعد أن أعطوهم الأمان، فنظر الصحابة إلى أميرهم عاصم فإذا هو يقول: أما أنا فوالله لا أنزل في ذمة مشرك، اللهم أخبر عنا نبيك.
    فلما رأى المشركون أن المسلمين لا يريدون الاستسلام؛ رموهم بالنبال، فاستشهد عاصم ومعه ستة آخرون، ولم يبق إلا خبيب واثنان معه، هما زيد بن الدثنة
    ومرثد بن أبي مرثد، ولما رأى مرثد بداية الغدر حاول الهرب فقتله البغاة، ثم ربطوا خبيبًا وزيدًا وساروا بهما إلى مكة ؛ حيث باعوهما هناك.
    وعندما سمع بنو حارث بوجود خبيب أسرعوا بشرائه ليأخذوا بثأر أبيهم
    الذي قتله خبيب يوم بدر، وظل خبيب في بيت عقبة بن الحارث أسيرًا مقيدًا بالحديد.
    وذات يوم دخلت عليه إحدى بنات الحارث فوجدت عنده شيئًا عجيبًا، فخرجت وهي تناديهم وتقول: والله لقد رأيته يحمل قطفًا (عنقودًا) كبيرًا من عنب يأكل منه، وإنه لموثق (مقيد) في الحديد، وما بمكة كلها ثمرة عنب واحدة، ما أظنه إلا رزقًا رزقه الله خبيبًا.
    ولما أجمع المشركون على قتل خبيب استعار موسيًا من إحدى بنات الحارث ليستحد بها (يزيل شعر العانة) فأعارته، وكان لهذه المرأة صبي صغير، غفلت عنه قليلا، فذهب الصبي إلى خبيب فوضعه على فخذه، وفي يده الموسى، فلما رأته المرأة فزعت وخافت على صبيها، فقال لها خبيب أَتَخْشِينَ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ ما كنت لأفعل إن شاء الله، فقالت المرأة: ما رأيت أسيرًا خيرًا من خبيب.
    وأراد المشركون أن يدخلوا الرعب في قلب خبيب، فحملوا إليه نبأ مقتل
    زيد بن الدثِنَّة، وراحوا يساومونه على إيمانه، ويعدونه بالنجاة إن هو ترك دين محمد، وعاد إلى آلهتهم، ولكن خبيبًا ظل متمسكًا بدينه إلى آخر لحظة في حياته، فلما يئسوا منه أخرجوه إلى مكان يسمى التنعيم، وأرادوا صلبه (تعليقه)، فاستأذن منهم أن يصلي ركعتين، فأذنوا له، فصلى خبيب ركعتين في خشوع، فكان بذلك أول من سنَّ صلاة ركعتين عند القتل.
    وبعد أن فرغ من صلاته نظر إليهم قائلاً: والله لولا أَنْ تَحْسَبُوا أَنَّ بي جزعًا (خوفًا) من الموت؛ لازْددت صلاة. ثم رفع يده إلى السماء ودعا عليهم: (اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تبق منهم أحدًا)، ثم أنشد يقول:
    وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًــا
    عَلَى أي جَنْبٍ كَانَ في اللهِ مَصْرَعِي
    وَذَلِكَ في ذَاتِ الإلهِ وإنْ يَشَـــأ
    يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شَلْوٍ ممَـــزَّعِ
    ثم قاموا إلى صلبه، وقبل أن تقترب منه سيوفهم، قام إليه أحد زعماء قريش وقال له: أتحب أن محمدًا مكانك، وأنت سليم معافى في أهلك، فيصيح خبيب فيهم قائلاً:
    والله ما أحب أني في أهلي وولدي، معي عافية الدنيا ونعيمها، ويصاب رسول الله بشوكة.
    إنها الكلمات التي قالها زيد بن الدثنة بالأمس يقولها خبيب اليوم، مما جعل أبا سفيان -ولم يكن قد أسلم- يضرب كفًا بكف ويقول: والله ما رأيت أحدًا يحب أحدًا كما يحب أصحاب محمدٍ محمدًا.
    وما كاد خبيب ينتهي من كلماته هذه حتى تقدم إليه أحد المشركين، وضربه بسيفه، فسقط شهيدًا، وكانوا كلما جعلوا وجهه إلى غير القبلة يجدوه مستقبلها، فلما عجزوا تركوه وعادوا إلى مكة.
    وبقى جثمان الشهيد على الخشب الذي صلب عليه حتى علم النبي ( بأمره، فأرسل الزبير بن العوام والمقداد بن عمرو فأنزلاه، ثم حمله الزبير على فرسه، وهو رطب لم يتغير منه شيء، وسار به، فلما لحقهما المشركون قذفه الزبير، فابتلعته الأرض، فَسُمِّيَ بَلِيع الأرض.


    التقي المغمور
    سعيد بن عامر

    إنه سعيد بن عامر -رضي الله عنه-، أحد كبار الصحابة، أسلم قبل فتح خيبر، ولازم رسول الله ( في جميع غزواته، وكان تقيًّا ورعًا زاهدًا، فذات يوم أخذ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يبحث عن صحابي يوليه على الشام، وكانت الشام في ذلك الحين بلدًا كبيرًا، ومركزًا هامًا للتجارة، ودار إغراء لكثرة ثرواتها، ولا يصح لها في نظر عمر إلا زاهد تفر أمام زهده كل شياطين الإغراء.
    وبعد قليل صاح عمر قائلاً: ائتوني بسعيد بن عامر، فجاء سعيد إلى أمير المؤمنين، فعرض عليه ولاية حمص، فاعتذر سعيد قائلاً: لا تفتني يا أمير المؤمنين، ولكن عمر أصر على رأيه وقال: والله لا أدعك، أتضعون أمانتكم وخلافتكم في عنقي، ثم تتركونني. فوافق سعيد سمعًا وطاعة لأمير المؤمنين، وخرج إلى حمص ومعه زوجته، وكانا عروسين جديدين، وزوده عمر بقدر من المال.
    ولما وصلا إلى حمص أرادت زوجته أن تستفيد من المال الذي أعطاه عمر لهما، فأشارت على زوجها سعيد أن يشتري لها ما يلزمها من الثياب والمتاع، ثم يدخر الباقي، فقال لها سعيد: ألا أدلك على خير من هذا؟ نحن في بلاد تجارتها رابحة، وسوقها رائجة، فلنعط هذا المال لمن يتاجر لنا فيه ويزيده. فقالت: فإن خسرت تجارته؟ قال سعيد: سأجعل ضمانها عليه، فقالت: نعم، وخرج سعيد فاشترى بعض ضرورات حياته، ثم تصدق بجميع ماله على الفقراء والمحتاجين، وكانت زوجته كلما سألته عن التجارة ، يقول لها: إنها تجارة موفقة، وإن الأرباح تزيد كل يوم.
    وذات يوم أعادت سؤالها عليه أمام قريب لهما يعرف حقيقة الأمر، ويعلم ما صنعه سعيد، فضحك ضحكة فهمت منها الزوجة شيئًا، فألحت عليه أن يصارحها بالحقيقة، فقال لها: إنه تصدق بالمال كله في ذلك اليوم البعيد، فبكت زوجته، وحزنت على المال الذي لم تنتفع منه بشيء.
    فنظر إليها سعيد، وقال: لقد كان لي أصحاب سبقوني إلى الله، وما أحب أن أنحرف عن طريقهم، ولو كانت لي الدنيا بما فيها. ثم قال: تعلمين أن في الجنة من الحور العين، والخيرات الحسان، ما لو أطلت واحدة منهن على الأرض لأضاءتها جميعًا، ولقهر نورها نور الشمس والقمر معًا، فلأن أضحي بك من أجلهن أحرى وأولى من أن أضحى بهن من أجلك. فاقتنعت زوجته، وعلمت أن ما فعله زوجها هو الصواب.
    وكان أهل الشام يحبون سعيد بن عامر حبًّا شديدًا، ويفرحون بإمارته وولايته عليهم، حتى إن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال له يومًا: إن أهل الشام يحبونك، فقال له سعيد: لأني أعاونهم، وأواسيهم. وحدث أن اشتكاه بعضهم لأمير المؤمنين عمر؛ فعندما سألهم عمر قائلا: ما تقولون في سعيد؟ فقال بعضهم: نشكو منه أربعًا لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، ولا يجيب أحدًا بليل، وله في الشهر يومان لا يخرج فيهما إلينا ولا نراه، وأخرى لا حيلة له فيها ولكنها تضايقنا، وهى أنه تأخذه الغشية (الإغماء) بين الحين والحين، فقال عمر في نفسه: اللهم إني أعرفه من خير عبادك، اللهم لا تخيب فيه فراستي، ثم دعا عمر سعيدًا ليدافع عن نفسه.
    فقال سعيد: أما قولهم: إني لا أخرج إليهم حتى يتعالى النهار، فوالله لقد كنت أكره ذكر السبب، إنه ليس لأهلي خادم، فأنا أعجن عجيني، ثم أدعه (أتركه) حتى يختمر، ثم أخبز خبزي، ثم أتوضأ للضحى، ثم أخرج إليهم. أما قولهم: لا أجيب أحدًا بليل، فوالله لقد كنت أكره ذكر السبب، إني جعلت النهار لهم، والليل لربي.
    وأما قولهم: إن لي يومين في الشهر لا أخرج فيهما، فليس لي خادم يغسل ثوبي، وليس لي ثياب أبدلها، فأنا أغسل ثوبي، ثم أنتظر حتى يجف، ثم في آخر النهار أخرج إليهم.
    وأما قولهم: إن الغشية تأخذني بين الحين والحين، فقد شهدت خبيب بن عدي حين صلب بمكة، وهم يقولون له: أتحب أن محمدًا مكانك، وأنت سليم معافى؟ فيجيبهم قائلاً: والله ما أحب أني في أهلي وولدي، معي عافية الدنيا ونعيمها، ويصاب رسول الله ( بشوكة، ثم دعا عليهم قائلاً: اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تبق منهم أحدًا، فكلما تذكرت ذلك المشهد الذي رأيته، وأنا يومئذ من المشركين، أرتجف من عذاب الله، ويغشاني الذي يغشاني. ففرح عمر لما سمع هذا، وقام يعانق سعيدًا ويقبل جبهته ويقول: الحمد لله الذي لم يخيب فراستي.
    وكان سعيد -رضي الله عنه- يتصدق براتبه على الفقراء والمحتاجين، ولقد قيل له يومًا: توسع بهذا الفائض على أهلك وأصهارك. فقال: ولماذا أهلي وأصهاري؟ لا والله، ما أنا ببائع رضا الله بقرابة، ما أنا بالمتخلف عن الرعيل الأول (أوائل الصحابة).
    وفي غزوة اليرموك، كثر عدد الروم، فاستغاث قادة الجيوش الإسلامية بأبي بكر
    -رضي الله عنه- فأمدهم بسعيد بن عامر، وتوفي سعيد -رضي الله عنه- سنة (20 هـ) في خلافة الفاروق عمر بن الخطاب، وهو ابن أربعين سنة.


    سيد فتيان الجنة
    أبو سفيان بن الحارث

    إنه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب -رضي الله عنه-، أحد فضلاء الصحابة، وابن عم النبي (، وأخوه في الرضاعة إذ أرضعتهما حليمة السعدية، قال فيه النبي (: (أبو سفيان بن الحارث سيد شباب أهل الجنة، أو سيد فتيان أهل الجنة) [ابن عبدالبر وابن سعد]. وكان أبو سفيان قبل إسلامه يعادي النبي ( ويهجوه بشعره، ولا يتخلف عن موضع تسير فيه قريش لقتاله.
    وعندما عاد أبو سفيان بن الحارث من بدر، ناداه أبو لهب: يابن أخي، هلم إلينا، حدثنا كيف كان أمر الناس؟ فقال أبو سفيان: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا، وأيم الله مع ذلك ما لمتُ الناس، لقينا رجالاً بيضًا على خيل بُلق بين السماء والأرض، والله ما تليق شيئًا، ولا يقوم لها شيء ولا يقف أمامها شيء.
    وفي الوقت الذي توجه فيه النبي ( إلى مكة عام الفتح، كان الله قد ألقى الإسلام في قلب أبي سفيان بن الحارث، فخرج هو وابنه جعفر، وعبد الله بن أبي أمية، ولقوا النبي ( فأعرض عنهم، فقالت أم سلمة، لا يكن ابن عمك وأخو ابن عمتك أشقى الناس بك. فقال علي بن أبي طالب لأبي سفيان: إيت رسول الله ( من قبل وجهه، فقل له ما قال أخوة يوسف ليوسف: {تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين}
    [يوسف: 91]، فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن قولاً منه، ففعل أبو سفيان ذلك.
    فقال له الرسول (: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين} [يوسف: 92] [ابن عبدالبر]. وأسلم أبو سفيان وحسن إسلامه.
    وشهد مع الرسول ( غزوة حنين، وثبت معه ( عندما فرَّ المسلمون، وأمسك بلجام فرسه (، وراح يضرب رءوس الكفار حتى عاد المسلمون إلى مكانهم، وقاتلوا مع نبيهم، ولما انتهت المعركة نظر ( فوجد أحد أصحابه ممسكا بلجام فرسه، فقال: (من هذا؟) فقال أبو سفيان: أنا ابن أمك يا رسول الله. [ابن هشام].
    ولما مات الرسول ( حزن عليه أبو سفيان حزنًا شديدًا، ورثاه بالشعر، وذات يوم خرج أبو سفيان للحج، وهناك وافته منيته، حيث قطع الحلاق دملاً كان في رأسه، ثم وجدوه يحفر قبرًا، فتعجبوا من ذلك، فقال لهم: إني أعد قبري. ولم تمض ثلاثة أيام حتى مرض، فبكى عليه أهله، فلما رآهم يبكون قال لهم: لا تبكوا علي فإني لم أتلطخ بخطيئة منذ أسلمت.

    المؤمن المنيب
    أبو موسى الأشعري

    إنه الصحابي الجليل عبدالله بن قيس بن سليم، المعروف بأبي موسى الأشعري، وقد رزقه الله صوتًا عَذْبًا فكان من أحسنِ الصحابة صوتًا في قراءة القرآن، قال عنه الرسول (: (لقد أُعْطِىَ أبو موسى مزمارًا من مزامير آل داود) [النسائي].
    وقد مَرَّ به النبي ( ومعه السيدة عائشة، فوجداه يقرأ القرآن في بيته، فاستمعا لقراءته، فلما أصبح أخبره النبي ( بذلك، فقال أبو موسى: لو أعلم بمكانك لحبَّرْتُه لك تحبيرًا (أي جودته وحسنته).
    وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كلما رأى أبا موسى دعاه؛ ليتلو عليه من كتاب الله، وقال له: شوِّقْنَا إلى ربنا يا أبا موسى.
    وقد جاء أبو موسى إلى مكة قبل ظهور الإسلام، واشتهر بين أهل مكة بالتجارة وحسن المعاملة، ولما ظهر الإسلام، ودعا رسول الله ( إليه، أسرع أبو موسى ليعلن إسلامه، ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم طلب من النبي ( أن يرجع إلى قومه بني أشعر ليدعوهم إلى الله، وينشر بينهم الإسلام، ويعلمهم أمور الدين الحنيف، فأذن له رسول الله (.
    فذهب أبو موسى إلى قومه، وأخذ يدعوهم إلى الإسلام، فاستجاب له كثيرون، فهاجر بهم إلى الحبشة، وكان عددهم يزيد على الخمسين رجلا، من بينهم شقيقاه؛ أبو رُهْم وأبو عامر، وأمه ظبية بنت وهب، وبعض النساء والصبيان.
    وبعد أن هاجر الرسول ( إلى المدينة، واستقر له الأمر فيها، هاجر المسلمون من الحبشة إلى المدينة، وكان أبو موسى الأشعري وقومه من هؤلاء المهاجرين، وقد قال النبي ( لأصحابه: (يَقْدُمُ عليكم غدًا قوم هم أرقُّ قلوبًا للإسلام منكم).
    فقدم الأشعريون، ولما اقتربوا من المدينة كانوا يقولون: غدًا نلقى الأحبة محمدًا وحزبه، ولما دخل أبو موسى الأشعري وقومه المدينة قال لهم الرسول (: (لكم الهجرة مرتين؛ هاجرتم إلى النجاشي، وهاجرتم إليَّ)
    [متفق عليه].
    ولما نزل قول الله تعالى: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} [المائدة: 54]، قال النبي (: (هم قومك يا أبا موسى وأومأ (أشار) إليه)
    [ابن سعد والحاكم].
    واستعمله النبي ( على زُبيد وعَدَن، وغزا أبو موسى وجاهد مع النبي ( حتى قيل عنه: سيد الفوارس أبو موسى.
    [ابن سعد]. ودعا له النبي ( فقال: (اللهم اغفر
    لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلا كريمًا) [متفق عليه].
    وذات ليلة كان النبي ( واقفًا عند باب المسجد مع خادمه بريدة، فوجدا أبا موسى يصلي بخشوع وخضوع فقال النبي ( له: (يا بريدة أتراه يرائي؟) قال بريدة: الله ورسوله أعلم. قال: (بل هو مؤمن منيب، لقد أعطى مزمارًا من مزامير آل داود)، فأتاه بريدة فوجد الرجل الذي مدحه الرسول ( وأثنى عليه هو أبو موسى فأخبره. [مسلم].
    وكان النبي ( يضرب بالأشعريين المثل في تكافلهم وتعاونهم فيقول: (إن الأشعريين إذا أرملوا (افتقروا) في الغزو، أو قلَّ طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم بالسَّوية، فهم منِّي وأنا منهم) [البخاري].
    وظل أبو موسى الأشعري مصاحبًا رسول الله ( طوال حياته، وبعد وفاة الرسول ( اشترك أبو موسى في حروب الردة في عهد خليفة المسلمين أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، وجاهد فيها جهادًا حسنًا.
    وكان أبو موسى -رضي الله عنه- متواضعًا، يروى أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ولاه إمارة البصرة، فقال أبو موسى لأهلها حين وصل إليهم: بعثني إليكم أمير المؤمنين أعلِّمكم كتاب ربكم -عز وجل- وسنة نبيكم (، وأنظف لكم طرقكم. فتعجب القوم إذ كيف ينظف الأمير طرق المدينة.
    وكان أبو موسى بحرًا في العلم والفقه وأمور الدين، فقد قال عنه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- حين سُئِلَ عن علمه: صُبغ في العلم صبغة.
    وغزا أبو موسى بالبصريين ابتغاء الأجر والثواب من الله -عز وجل-، فافتتح الأهواز، كما فتح الرها وسميساط وغير ذلك، وظل واليًا على البصرة في خلافة عثمان بن عفان حتى طلب أهل الكوفة من أمير المؤمنين أن يوليه عليهم، فوافق الخليفة عثمان على ذلك، وأقرَّه أميرًا على الكوفة.
    ومكث أبو موسى في إمارة الكوفة حتى استشهد عثمان -رضي الله عنه-، وجاء من بعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، فعاد أبو موسى إلى مكة المكرمة، وعكف على العبادة والصلاة حتى توفي -رضي الله عنه- سنة (42) من الهجرة.


    أول فرسان الإسلام
    المقداد بن عمرو

    إنه الصحابي الجليل المقداد بن عمرو -رضي الله عنه-، وهو من المبكرين بالإسلام، حيث ذكر ضمن السبعة الأوائل الذين اعتنقوا الإسلام.
    وكان المقداد قد جاء إلى مكة، فأخذه الأسود بن عبد يغوث وتبناه، فصار يدعى المقداد بن الأسود، فلما نزلت آية تحريم التبني نُسب لأبيه عمرو بن سعد.
    وتزوج المقداد ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب ابنة عم النبي (، مع أنه مولى وهى قرشية هاشمية شريفة؛ وذلك لأن الإسلام لا يفرق بين عبد أو سيد ولا بين شريف ووضيع، فالكل في نظر الإسلام سواء، لا فرق بين عربي ولا أعجمي ولا أسود ولا أبيض إلا بالتقوى والعمل الصالح.
    وهاجر المقداد إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وحضر بدرًا، وشهد المعارك كلها، وكان أول من قاتل على فرس في سبيل الله، وقيل إنه الوحيد الذي قاتل على فرس يوم بدر، أما بقية المجاهدين فكانوا مشاة أو راكبين إبلاً.
    وعُرف المقداد بالشجاعة والفروسية والحكمة، وكانت أمنيته أن يموت شهيدًا في سبيل الله، ويبقى الإسلام عزيزًا قويًّا، فقال -رضي الله عنه-: لأموتن والإسلام عزيز.
    وروى أنه لما وقف النبي ( يشاور أصحابه قبيل غزوة بدر الكبرى تقدم هذا الصحابي الجليل بعد أن استمع إلى كلام أبي بكر وعمر
    -رضي الله عنهما-، وقال مخاطبًا الرسول (: يا رسول الله، امض لما أراك الله، فنحن معك، والله، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى -عليه السلام-: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، بل نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد (موضع في اليمن) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله ( خيرًا، ودعا له. [ابن هشام].
    انطلقت هذه الكلمات الطيبة من فم هذا الصحابي، فتهلل وجه النبي (، ودعا له دعوة صالحة، وتمنى كل صحابي لو أنه كان صاحب هذا الموقف العظيم، يقول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- لما سمع هذا الكلام: لقد شهدت من المقداد مشهدًا، لأن أكون صاحبه، أحب إلي مما في الأرض جميعًا.
    وكان النبي ( يحب المقداد حبًّا كبيرًا، ويقرِّبه منه، وجعله ضمن العشرة الذين كانوا معه في بيت واحد، عندما قسَّم المسلمين بعد الهجرة إلى المدينة إلى عشرات، وجعل كل عشرة في بيت.
    وقال (: (إن الله أمرني بحب أربعة، وأخبرني أنه يحبهم) فقيل: يا رسول الله، سمهم لنا؟ قال: (عليٌّ منهم، يقول ذلك ثلاثًا، وأبوذرِّ، والمقداد، وسلمان، أمرني بحبهم، وأخبرني أنه يحبهم). [أحمد والترمذي].
    وكان المقداد حكيمًا عاقلا، وكانت مواقفه تعبِّر عن حكمته فها هو ذا يقول للنبي ( عندما سأله: (كيف وجدت الإمارة؟) وكان النبي ( قد ولاه إحدى الإمارات، فقال المقداد: لقد جعلتني أنظر إلى نفسي كما لو كنت فوق الناس، وهم جميعًا دوني، والذي بعثك بالحق، لا أتأمرن على اثنين بعد اليوم أبدًا.
    فالمقداد لا يخدع نفسه، إنما يعرف ضعفه، ويخاف على نفسه من الزهو والعجب، فيقسم على عدم قبوله الإمارة، ثم يبّر بقسمه فلا يكون أميرًا بعد ذلك، ويتغنى بحديث للرسول ( قال فيه: (إن السعيد لمن جنب الفتن)
    [أبو داود].
    وللمقداد موقف آخر تظهر فيه حكمته، فيقول أحد أصحابه: جلسنا إلى المقداد يومًا فمر به رجل، فقال مخاطبًا المقداد: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله (، والله، لوددنا أنا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شاهدت، فأقبل عليه المقداد، وقال: ما يحمل أحدكم على أن يتمنى مشهدًا غيبه الله عنه، لا يدري لو شهده كيف كان يصير فيه؟ والله لقد عاصر رسول الله ( أقوامًا، كبهم الله -عز وجل- على مناخرهم (أي: أنوفهم) في جهنم، أو لا تحمدون الله الذي جنبكم مثل بلائهم، وأخرجكم مؤمنين بربكم ونبيكم.
    [أبو نعيم].
    وأوصى الرسول ( بحبه، فقال النبي (: (عليكم بحب أربعة: علي، وأبي ذر، وسلمان، والمقداد) [أحمد والترمذي
    وابن ماجه].
    وقد كان المقداد جوادًا كريمًا، فقد أوصى للحسن والحسين بستة وثلاثين ألفًا، ولأمهات المؤمنين لكل واحدة سبعة آلاف درهم، وتوفي المقداد -رضي الله عنه- بالمدينة سنة (33هـ) في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وعمره حينئذ سبعون عامًا.


    فادي النبي
    قتادة بن النعمان

    إنه الصحابي الجليل قتادة بن النعمان -رضي الله عنه-، أحد الأنصار الذين شهدوا بيعة العقبة، وعاهدوا الرسول ( على أن ينصروه ويمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وأبناءهم، ووفوا له بعهدهم، فرضوان الله عليهم أجمعين.
    جاهد قتادة مع الرسول ( جهادًا عظيمًا، وعندما اشتد القتال يوم أحد، ولاحت في سماء المعركة هزيمة المسلمين؛ انتهز المشركون هذه الفرصة ليتخلصوا من رسول الله (، خاصة بعد أن انفضّ عنه أكثر أصحابه، ولم يبق معه إلا قليل، وكان قتادة -رضي الله عنه- واحدًا من أولئك القليل، وكان الرسول ( قد دفع إليه قوسًا، فأخذها وظل يرمي بها بين يدي رسول الله ( حتى لم تعد صالحة للرمي؛ فوجد قتادة -رضي الله عنه- نفسه، وليس معه ما يدافع به عن نبيه (، وهو أحب الناس إليه، فوضع جسده أمام رسول الله ( ليتلقى عنه السهام المصوبة نحوه.
    فأصاب سهم وجهه فسالت منه عين قتادة -رضي الله عنه- على خده، ورأى الصحابة أن عين قتادة بن النعمان قد أصيبت، فسالت حدقته على وجنته، ورأى الصحابة ما أصاب أخاهم فأشاروا عليه بقطعها، ولكنه ذهب إلى رسول الله ( وهو يحمل عينه في كفه، فلما رآه رسول الله ( رقَّ له، ودمعت عيناه، وقال: (اللهم إن قتادة قد وقى وجه نبيك بوجهه، فاجعلها أحسن عينيه وأحدَّهما نظرًا) [ابن عبد البر]، فاستجاب الله لدعوة نبيه (.
    فما أروع التضحية بالنفس الغالية، انتصارًا لدين الله، وإبقاء على حياة رسول الله (، وما أعظم الجزاء من الله -عز وجل-.
    وفي ليلة مظلمة من ليالي الشتاء شديدة البرد؛ حيث يقل الساعون إلى المسجد للصلاة، تحن نفس قتادة -رضي الله عنه- إلى رؤية النبي (، ويقول في نفسه: لو أتيت رسول الله ( وشهدت معه الصلاة وآنسته بنفسي، فقام وخرج إلى المسجد؛ فلما دخل برقت السماء (أضاءها البرق) فرآه رسول الله ( فقال: (ما السُّري يا قتادة؟)، ما هاج عليك (أي ما الذي أخرجك في هذه الليلة). فقال قتادة -رضي الله عنه-: إن شاهد الصلاة الليلة قليل؛ فأحببت أن أشهدها معك بأبي أنت وأمي وأؤنسك بنفسي. فقال: (فإذا صليت فأت). قال قتادة: فأتيته؛ فقال: خذ هذا العرجون فتحصَّن به، فإنك إذا خرجت أضاء لك عشرًا (أي أمامك وعشرًا خلفك)، ثم قال لي: (فإذا دخلت البيت ورأيت سوادًا في زاوية البيت فاضربه قبل أن يتكلم فإنه شيطان)، فلما دخلت البيت وجدته كما وصف لي، فضربته حتى خرج من بيتي. [أحمد].
    وكرامة ثالثة يرويها المفسرون أكرم الله بها قتادة -رضي الله عنه-، فقد كان رفاعة بن زيد -رضي الله عنه- عمًا لقتادة بن النعمان -رضي الله عنه- وكانت له مشربة (غرفة) يضع فيها طعامه وشرابه، فعمد رجل من المنافقين اسمه
    بشر بن أبيرق إلى تلك المشربة فنقبها (أحدث بها فتحة)، وأخذ ما فيها من طعام وسلاح.
    فلما أصبحوا جاء قتادة إلى عمه فأخبره بالخبر، فأخذا يتحسسان الأمر ليعلما من الذي اعتدى على غرفتهما، وأخذ الطعام والسلاح إلى أن تأكد لهما أن الذي صنع ذلك هو ابن أبيرق، فقال رفاعة لابن أخيه: لو أتيت رسول الله (، فقلت: يا رسول الله، إن أهل بيت منا أهل جفاء، عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد فنقبوا شربة له، وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردوا علينا سلاحنا، وأما الطعام فلا حاجة لنا فيه.
    ولكن المنافقين من بني أبيرق ومن ناصرهم لا يفقهون، عمدوا إلى رسول الله ( فكذبوا عليه ليضلوه، قالوا: يا رسول الله، إن
    قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت من أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة، وكذبوا، ورسول الله ( بشر لا يعلم من الغيب شيئًا إلا ما يخبره به ربه.
    وجاء قتادة -رضي الله عنه- ليعرف منه الجواب، فلقيه رسول الله ( محتدًا يقول له: عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة من غير بينة تثبت، وكانت مفاجأة لقتادة -رضي الله عنه- حين غاب عنه أنه لا يجوز اتهام الناس من غير بينة ولا دليل. فخشى قتادة أن يكون رسول الله ( قد غضب عليه، وأخذ يقول في نفسه: لوددت أني خرجت من أهلي ومالي (فُقدت) ولم أكلم رسول الله (
    في ذلك. ويأتيه عمه يسأله: يابن أخي ما صنعت؟ فيخبره بما قال رسول الله (، فيقول عمه: كما قال نبي الله يعقوب: فصبر جميل والله المستعان.
    وينزل القرآن: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا. واستغفر الله إن الله كان غفورًا رحيمًا}
    [النساء: 105-106]. ويدعو الرسول ( قتادة فيقرؤه عليه، ويأتي بالسلاح فيدفعه إليه ليرده إلى عمه رفاعة، ففرح قتادة بتأييد الله له، فحمل السلاح إلى عمه، فينتفض الرجل فرحًا؛ ليس لرجوع سلاحه وعتاده، لكن لمثل ما فرح به قتادة، ثم يزيد فيقول: يابن أخي هي في سبيل الله. [الترمذي].
    وتوفي قتادة -رضي الله عنه- في خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فحضر عمر جنازته وصلى عليه.


    قاهر قيصر
    عبد الله بن حذافة

    إنه عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي -رضي الله عنه-، أحد السابقين إلى الإسلام، هاجر إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، وأرسله النبي ( برسالة إلى كسرى.
    وذات يوم سمعه النبي ( وهو يرفع صوته بقراءة القرآن، فقال له: (يابن حذافة، لا تُسَمِّعْنِي وَسَمِّعِ الله) [ابن سعد].
    وكان عبد الله رجلا يحب المرح، فقد بعثه النبي ( في سرية، وجعل عليهم علقمة بن مجزر، فاستأذنت طائفة منهم في الطريق، فأذن لهم علقمة، وأمَّر عليهم عبد الله بن حذافة، وبينما هم في الطريق، أوقد القوم نارًا ليتدفئوا، ويصنعوا عليها طعامًا، فقال لهم عبد الله: أليس لي عليكم السمع والطاعة؟ قالوا: بلى، قال فإني أعزم عليكم بحقي وطاعتي إلا تواثبتم في هذه النار، فقام ناس فتحجزوا حتى إذا ظن أنهم واقعون فيها، قال: أمسكوا إنما كنت أضحك معكم، فلما قدموا على النبي ( ذكروا ذلك له، فقال: (من أمركم بمعصية فلا تطيعوه) [أحمد وابن ماجه وابن خزيمة].
    وفي خلافة عمر، خرج عبد الله مع جيش المسلمين المتجه إلى الشام لقتال الروم، فأسره الروم ومعه بعض المسلمين، ، وذهبوا به إلى قيصر، فقال له قيصر: هل لك أن تتنصر وأعطيك نصف ملكي؟ فقال عبد الله: لو أعطيتني جميع ما تملك، وجميع ملك العرب، ما رجعت عن دين محمد طرفة عين. فقال قيصر: إذًا أقتلك، فقال عبد الله: أنت وذاك. فقال القيصر للرماة: ارموه قريبًا من بدنه، وأخذ يعرض عليه المسيحية وعبد الله يأبى، فقال القيصر: أنزلوه، ودعا بوعاء كبير فصبَّ فيه ماء، وأشعل تحته النار، ودعا بأسيرين من المسلمين فأمر بأحدهما فألقى فيها، فاستشهد وهو ثابت على دينه، فبكى عبد الله، فقيل للملك: إنه بكى. فظن الملك أنه جزع.
    فقال الملك: ردوه. ثم سأله: ما أبكاك؟ فقال عبد الله: قلت هي نفس واحدة، تلقى الساعة، فتذهب فكنت أشتهي أن يكون بعدد شعري أنفس تلقى في النار في سبيل الله. فقال الملك: هل لك أن تقبل رأسي وأخلي عنك، فقال عبد الله: وعن جميع الأسرى؟ فقال الملك: نعم، فقبل عبد الله رأسه، وأخذ عبد الله جميع الأسرى، وقدم بهم إلى عمر، فأخبره بما حدث، فقال عمر: حق على كل مسلم أن يقبِّل رأس ابن حذافة، وأنا أبدأ، فقبل رأسه. [ابن عساكر]. وانتقل عبد الله إلى مصر مع جيش عمرو، واستقر فيها حتى مات في خلافة عثمان.


    العالم العامل
    عبد الله بن عمرو

    إنه عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه-، أمه رائطة بنت
    الحجاج بن منبه السهمية. كان اسمه قبل إسلامه العاص، فلما أسلم سماه النبي ( عبد الله. [ابن عساكر]. وكان النبي ( يقول: (نعم أهل البيت أبو عبد الله وأم عبد الله وعبد الله) [أحمد].
    أسلم عبد الله قبل أبيه، وكان شديد الحب لله ورسوله (، وكان يكثر من العبادة، وقراءة القرآن، وكتابة أحاديث الرسول (، وكان يحافظ على حضور مجالس الرسول ( واستماع حديثه وتدوينه، حتى أنه سأل الرسول ( يومًا: يا رسول الله، أأكتب كل ما أسمع منك؟ فقال (: (نعم). فقال عبد الله: في الرضا والغضب؟ فقال (: (نعم، فإني لا أقول إلا حقًا)
    [أبو داود].
    وعلم النبي ( أنه يصوم كل يوم ولا يفطر، فقال له: (كيف تصوم؟). قال: أصوم كل يوم. فقال (: (وكيف تختم؟) قال: كل ليلة، فقال (: (صم في كل شهر ثلاثة، واقرأ القرآن في كل شهر)، فقال عبد الله: أطيق أكثر من ذلك؟ فقال (: (صم ثلاثة أيام في الجمعة)، فقال عبد الله: أطيق أكثر من ذلك، قال: (أفطر يومين، وصم يومًا)، قال عبد الله: أطيق أكثر من ذلك، فقال (: (صم، أفضل الصوم صوم داود، صيام يوم وإفطار يوم، واقرأ في كل سبع ليالٍ مرة) [البخاري].
    وفي رواية: (فاقرأه في كل سبع ولا تزد على ذلك، فإن لزوجك عليك حقًّا، ولزورك (ضيوفك) عليك حقًّا، ولجسدك عليك حقًّا)، ثم قال له النبي (: (فإنك لا تدري لعلك يطول بك عمرٌ) [أحمد]. ولما كبر سنه كان يقول: ليتني قبلت رخصة رسول الله (.
    وقد روى عبد الله عن النبي ( أحاديث كثيرة، وروى أنه قال: حفظت عن رسول الله ( ألف مثل، وكان أبو هريرة -رضي الله عنه- يقول: ما كان أحد من أصحاب رسول الله ( أكثر حديثًا مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب.
    وكان عبد الله جوادًا كريمًا يحب الإنفاق في سبيل الله، فكان يملك ثلاثمائة راحلة بمكة، فجعل منها مائة للمسلمين يركبونها، ويحملون عليها أمتعتهم، ومائتين لأهل البلدان البعيدة يذبح لهم منها في موسم الحج، ويتصدق بها عليهم. وكان محبًّا لأبيه عمرو وبارًا به، لقول الرسول ( له: (أطع أباك ما دام حيًّا) [أحمد]. وتوفي عبد الله سنة (65 هـ) في مصر، وعمره آنذاك (72) سنة.


    قاتل السبعة
    عبد الرحمن بن أبي بكر

    إنه عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة -رضي الله عنه-، يكنى أبا عبد الله، وقيل أبا محمد، وأمه أم رومان بنت الحارث، وهو شقيق أم المؤمنين عائشة
    -رضي الله عنها-.
    كان أشجع رجال قريش، وأرماهم بسهم، وقف ضد المسلمين في بدر، وكان أحد الرماة الذين جندتهم قريش يوم أحد، تأخر إسلامه حتى هدنة الحديبية (الفترة التي توقف فيها القتال)، رغم أن أباه كان أول الناس إيمانًا بالله ورسوله.
    كان على رأس رماة قريش في غزوة أحد، وقبل أن يلتحم الجيشان، وقف
    عبد الرحمن متحديًا يدعو من يبارزه من المسلمين، ونهض أبوه أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- ليبارزه، لكن رسول الله ( أمسك به ومنعه من مبارزة ولده.
    وظل عبد الرحمن يحارب دين الله حتى شرح الله صدره للإيمان، فاندفع إلى الرسول ( معلنًا إسلامه، فتألق وجه أبي بكر، وفرح حينما رأى ابنه يبايع رسول الله (، وانطلق عبد الرحمن بعد إسلامه يدافع عن رسول الله ( ليعوض ما فاته، وبعد وفاة الرسول ( ظل يجاهد في سبيل الله مع الخلفاء الراشدين، لا يتخلف عن غزو، ولا يقعد عن جهاد.
    وفي يوم اليمامة وقف موقفًا عظيمًا، وجاهد جهادًا كبيرًا، وكان له دور كبير في كسب المعركة؛ حيث قتل محكم بن الطفيل العقل المدبر لمسيلمة الكذاب، والذي كان يحمي بقوته أهم أماكن الحصن الذي احتمى فيه جيش مسيلمة، فلما قتل محكم بسهم من عبد الرحمن تفرق من معه، وانفتح الحصن، فتدفق المسلمون داخله، وتم نصر الله، وقد قتل عبد الرحمن سبعة من الكفار في هذه المعركة.
    وكان -رضي الله عنه- صالحًا، يخلص لله في عبادته، ويخاف عقابه، وكان يتمتع بروح الدعابة والظرف، وشارك في فتح الشام في عهد أمير المؤمنين
    عمر بن الخطاب.
    وكان -رضي الله عنه- لا يخاف في الله لومة لائم، يدافع عن الحق أينما وجد، ويعلنه في كل مكان.


    الهارب من الفتن
    محمد بن مسلمة

    إنه أبو عبد الله محمد بن مسلمة الأنصاري، أحد فضلاء الصحابة، شهد بدرًا وما بعدها من الغزوات، ولد قبل البعثة باثنتين وعشرين سنة، وكان أسمر شديد السمرة، طويلاً، أصلع الرأس، ضخم الجسم، استخلفه النبي ( على المدينة في بعض غزواته، وأمَّره على نحو (51) سرية، وكان يرسله ليأتي بالصدقات من الإمارات الإسلامية.
    وآخى الرسول ( بينه وبين أبي عبيدة بن الجراح، وأسلم على يد مصعب بن عمير حينما كان في المدينة، وكان أحد الذين قتلوا
    كعب بن الأشرف الشاعر اليهودي الذي كان يؤذي النبي (.
    وظل يجاهد في سبيل الله بعد وفاة النبي ( مع أبي بكر وعمر، وعثمان -رضي الله عنهم-.
    وكان عمر -رضي الله عنه- يعتمد عليه في الأمور الصعبة، فقد بعثه إلى
    سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- حين بنى لنفسه قصرًا بالكوفة، واحتجب عن الرعية، وأمره أن يحرق باب القصر، فذهب إلى هناك، وفعل ما أمره به أمير المؤمنين.
    وكان -رضي الله عنه- شجاعًا في الحق، فقد روى أنه لما تولى عمر بن الخطاب الخلافة سأل قائلاً: كيف تراني يا فلان؟ فقال له: أراك والله كما أحب، وكما يحب من يحب لك الخير، أراك قويًّا على جمع المال، عفيفًا عنه، عدلاً في قسمه، ولو مِلْتَ عدلناك كما يعدل السهم في الثقاب، فقال عمر متعجبًا من شجاعته، ومسرورًا بما قال: الحمد لله الذي جعلني في قوم إذا مِلْتُ عدلوني.
    وعندما قامت الفتنة الكبرى بعد مقتل عثمان، أخذ محمد بن مسلمة سيفه، وذهب إلى صخرة قوية، وأخذ يضرب السيف على الصخرة حتى كسَّر السيف، واتخذ لنفسه سيفًا من خشب، وذهب إلى الربذة وبنى لنفسه بيتًا صغيرًا جلس فيه، فقال له أصحابه: لماذا فعلت ذلك يا محمد؟ فأجابهم قائلا: أعطاني رسول الله ( سيفًا، وقال لي: (يا محمد بن مسلمة، جاهد بهذا السيف في سبيل الله، حتى إذا رأيت أمتي يضرب بعضهم بعضًا، فائت به أُحَدًا (أي: جبل أحد) فاضرب به حتى ينكسر، ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منية قاضية (يعنى الموت))، وقد فعلت ما أمرني به رسول الله (. [أحمد].
    ومات -رضي الله عنه- سنة (43 هـ)، وعمره (77) سنة، وترك من الولد عشرة ذكور وست بنات، وقد روى بعض الأحاديث عن رسول الله (.


    التائب الصادق
    كعب بن مالك

    إنه الصحابي الجليل كعب بن مالك -رضي الله عنه-، صاحب التوبة الصادقة، وكان كعب قد أسلم حين سمع بالإسلام، فأتى مكة، وبايع النبي ( في بيعة العقبة الثانية، فلما هاجر الرسول ( وأصحابه آخى النبي بينه وبين طلحة بن عبيد الله.
    وكان كعب شاعرًا مجيدًا، وخاصة في مجال المغازي والحروب الإسلامية، وكان واحدًا من شعراء الرسول ( الثلاثة الذين يردون عنه الأذى بقصائدهم، وهم: كعب بن مالك، وحسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، فكان كعب يخوفهم بالحرب، وكان حسان يهجوهم بالأنساب، وكان عبد الله يعيرهم بالكفر.
    وقد جاء كعب إلى النبي ( فقال: يا رسول الله، ماذا ترى في الشعر؟ فقال رسول الله (: (المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه)
    [ابن عبد البر].
    وكان لكعب مواقف مشهودة في غزوة أحد، حين دعاه النبي ( وألبسه ملابسه التي يلبسها في الحرب، ولبس النبي ( ملابس كعب الحربية، يقول كعب: لما انكشفنا يوم أحد كنت أول من عرف رسول الله ( وبشرت به المؤمنين حيًّا سويًّا، وأنا في الشِّعْب، وقد جرح سبعة عشر جرحًا. [ابن هشام]، وكان المشركون يوجهون إليه السهام ظنًّا منهم أنه رسول الله (.
    وكان كعب قد تخلف عن غزوة تبوك التي سمي جيشها بجيش العسرة، والسبب في هذه التسمية أن المسلمين مروا بصعوبات كثيرة في تمويل الجيش؛ حيث إن العدد كان كبيرًا، وعدتهم كانت ضئيلة، وقد تخلف المنافقون عن هذه الغزوة بدون أعذار.
    ولما عاد المسلمون إلى المدينة دخل الرسول ( إلى المسجد أولا، وصلَّى فيه ركعتين، فدخل عليه المنافقون الذين تخلفوا عن الجهاد مع النبي (، وبدءوا يكذبون على الرسول (، ويتعللون بأعذار واهية.
    ولكن كعبًا لم يكذب على النبي (، وأقر بذنبه وتقصيره في حق الله وتكاسله عن الجهاد، وفعل مثله هلال بن أمية ومرارة بن الربيع، وكانا قد تخلفا أيضًا.
    وبعدما سمع النبي ( كلام كعب، أمر المسلمين أن يقاطعوه وصاحبيه الذين تخلفوا عن غزوة تبوك بدون عذر، فلم يكلمهم أحد من المسلمين، ولم يتعاملوا معهم.
    فجلس الاثنان كل منهما في بيته يبكيان، أما كعب فلم يحبس نفسه مثلهما، بل كان يخرج للصلاة، وكان إذا سار في السوق أو غيره لا يتحدث معه أحد، وكان لكعب ابن عم يحبه حبًّا شديدًا هو الصحابي الجليل أبو قتادة -رضي الله عنه-، ولما اشتد الأمر بكعب، ذهب إلى ابن عمه أبي قتادة في بستانه وألقى عليه السلام، ولكن أبا قتادة لم يرد عليه، فقال له كعب: يا أبا قتادة، أنشدك بالله، هل تعلمني أحب الله ورسوله (؟ فلم يرد عليه أبو قتادة، فكرر كعب السؤال، فقال أبو قتادة: الله ورسوله أعلم، ففاضت عينا كعب بالدموع وتركه.
    وذات يوم، ذهب كعب إلى السوق، فإذا برجل نصراني من الشام يسأل عنه، وعندما قابله أعطاه النصراني رسالة من ملك غسان، فقرأها كعب ووجد فيها: أما بعد، فإنه قد بلغني أن صاحبك محمدًا جفاك، (هجرك وتركك) ولم يجعلك الله بدار مذلة أو هوان، فالحق بنا نواسك.
    وبعد أن قرأ كعب الرسالة قال في نفسه: والله إن هذه أيضا من الفتنة والابتلاء، ثم ألقى بالرسالة في النار.
    ومضى على كعب وصاحبيه أربعون يومًا، وهم على تلك الحالة من الندم والبكاء والمقاطعة الكاملة من كل المسلمين، وبعدها أمرهم النبي ( أن يهجروا زوجاتهم، وظلوا على هذه الحالة عشرة أيام.
    وبعد خمسين يومًا جاء الفرج، ونزلت التوبة من الله على هؤلاء المؤمنين الصادقين الذين لم يكذبوا على رسول الله (، فبعد أن صلى كعب صلاة الفجر، جلس بمفرده، فسمع صوتًا ينادى من بعيد: يا كعب، أبشر يا كعب، فلما سمعها كعب خرَّ ساجدًا لله -عز وجل-، وعلم أن الله قد تاب عليه، وبلغ من شدة فرحته أنه خلع ثوبه وألبسه للرجل الذي بشره، ثم انطلق مسرعًا إلى النبي ( في المسجد، فاستقبله الصحابة وهم سعداء، وقام
    طلحة بن عبيد الله من بين الحاضرين جميعًا وأسرع ليهنئ كعبًا، فلم ينسها له كعب أبدًا، وتبسم له الرسول ( وقال له: (أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك) [البخاري]، وأنزل الله فيه وفي صاحبيه قرآنًا، قال تعالى: {وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب} [التوبة: 118].
    وكان كعب -رضي الله عنه- يقول: والله، ما مر عليَّ يوم كان خيرًا ولا أحب إليَّ من ذلك اليوم الذي بشرت فيه بتوبة الله تعالى عليَّ وعلى صاحبيّ، ثم قال للرسول (: إن من توبتي أن أتصدق بمالي كله لله ولرسوله، فقال له النبي (: (أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك) [البخاري]، فقال كعب: يا رسول الله، إن الله تعالى أنجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقًا ما بقيت، فوالله ما أعلم أحدًا من المسلمين ابتلاه الله في صدق الحديث أحسن مما ابتلاني.
    وكان كعب يقول بعد ذلك: ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله ( إلى يومي هذا شيئًا من الكذب، وإني لأرجو أن يحفظني الله تعالى بقية عمري.
    وكان كعب -رضي الله عنه- يقول: والله ما أنعم الله عليَّ من نعمة قط بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي أمام رسول الله ( أن لا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوا، فقد قال الله تعالى: {سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنه إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاءً بما كانوا يكسبون. يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين} [التوبة: 95-96].
    وهكذا كان صدق كعب سببًا في نجاته، وقبول توبة الله عليه، بينما أهلك الله المنافقين الذين كذبوا على رسول الله (، واعتذروا بالباطل، فجعلهم الله من أهل النار.
    وظل كعب يجاهد في سبيل الله، ولا يتخلف عن حرب أبدًا، فحارب المرتدين في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، وشارك في الفتوحات الإسلامية على عهد الفاروق عمر، وكذلك في خلافة كل من عثمان وعليّ وأول خلافة معاوية -رضي الله عنهم-، وظل على صدق إيمانه وقوة عقيدته.
    وتوفي -رضي الله عنه- بالشام في خلافة معاوية سنة (50هـ) وقيل سنة
    (53 هـ)، وعمره آنذاك (77) سنة ويقال: إن الله سبحانه قد ابتلاه بفقد بصره قبل وفاته، فصبر لذلك حتى ينعم بما عند الله من الجنة.
    وقد روى كعب بن مالك ثلاثين حديثًا من أحاديث رسول الله (، وروى عنه جماعة من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين.


    الشهيد ذو الابتسامة
    أبو حذيفة بن عتبة

    إنه الصحابي الجليل أبو حذيفة بن عتبة -رضي الله عنه-، ابن عتبة بن ربيعة
    شيخ قريش، وأخته هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان، كان من السابقين إلى الإسلام، فقد أسلم قبل دخول المسلمين دار الأرقم بن أبي الأرقم، وهاجر مع امرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو إلى أرض الحبشة، وولدت له هناك ابنه محمد بن أبي حذيفة، ثم قدم على الرسول ( في مكة، فأقام بها حتى هاجر إلى المدينة، وشهد المشاهد والغزوات كلها مع النبي (.
    وفي غزوة بدر، كان أبو حذيفة يقاتل في صفوف المسلمين، بينما أبوه عتبة وأخوه الوليد وعمه شيبة يقفون في صفوف المشركين، فطلب أبو حذيفة من أبيه الكافر عتبة بن شيبة أن يبارزه، فقالت أخته: هند بنت عتبة شعرًا، جعلته يصرف النظر عن مبارزة أبيه، وبعد انتهاء غزوة بدر، أمر النبي ( بسحب القتلى المشركين؛ لتطرح جثثهم في البئر، ثم وقف على حافة البئر، وخاطب المشركين، وقال: (يا أهل القليب، هل وجدتم ما وعد ربكم حقًّا فإني قد وجدت ما وعدني ربى حقًّا؟) فقالوا: يا رسول الله، تكلم قومًا موتي؟ قال: (والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون الجواب).
    ورأى أبو حذيفة أباه يسحب ليرمي في البئر، فتغير لونه، وأصابه الحزن، وعرف النبي ( ذلك في وجهه، فقال له: (كأنك كاره لما رأيت) فقال: يا رسول الله، إن أبي كان رجلاً سيدًا، فرجوت أن يهديه ربه إلى الإسلام، فلما وقع الموقع الذي وقع أحزنني ذلك، فدعا رسول الله ( له بخير. [ابن جرير].
    وكان أبو حذيفة يتمنى أن يستشهد في سبيل الله، فظل يجاهد حتى توفي الرسول (، وفي عهد الخليفة أبي بكر -رضي الله عنه-، كان أبو حذيفة في أول صفوف الجيش الإسلامي المتجه إلى اليمامة لقتال مسيلمة الكذاب، وتحقق لأبي حذيفة ما كان يتمناه من الشهادة في سبيل الله فوقع شهيدًا، وعلى وجهه ابتسامة لما رأى من منزلته عند ربه.


    معلم الخير
    عبادة بن الصامت

    إنه الصحابي الجليل أبو الوليد عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-، أحد أفراد وفد الأنصار الذين جاءوا إلى مكة ليبايعوا رسول الله ( بيعة العقبة الأولى، وكان أحد الاثني عشر نقيبًا الذين اتخذهم الرسول ( نقباء على أهليهم وعشائرهم.
    وواحد من أولئك الذين قال فيهم رسول الله (: (لو أن الأنصار سلكوا واديًا أو شعبًا، لسلكت في وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار) [البخاري].
    وقد شهد بدرًا وأحدًا والخندق والغزوات كلها مع رسول الله (، ولم يتخلف عن مشهد، وهو أحد الذين ساهموا في جمع القرآن زمن النبي (.
    وقد كان ولاؤه لله ورسوله عظيمًا، حيث يُروى أن قومه كانوا مرتبطين بعهد مع يهود بني قينقاع بالمدينة قبل مجيء النبي ( إليها، ولما هاجر الرسول ( وأصحابه واستقروا بها، وتجمعت قبائل اليهود عقب غزوة بدر، وافتعلت إحدى قبائلهم وهم بنو قينقاع أسبابًا للفتنة والصدام مع المسلمين، فلما رأى عبادة موقفهم هذا نبذ إليهم عهدهم قائلا: إنما أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ إلى الله ورسوله من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم.
    فنزل القرآن مؤيدًا موقفه هذا قائلاً: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} إلى أن قال: {ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} [المائدة: 51-56].
    لقد سمع عبادة بن الصامت رسول الله ( يومًا وهو يتحدث عن مسئولية الأمراء والولاة، والمصير الذي ينتظر من يفرط منهم في حق من حقوق المسلمين، قائلاً: (والذي نفس محمد بيده، لا ينال أحد منكم منها شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه) [مسلم]، فأقسم عبادة بالله ألا يكون أميرًا على اثنين.
    ولما فتح المسلمون الشام أرسل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عبادة ومعاذ بن جبل وأبا الدرداء إلى أهلها؛ ليعلموهم القرآن ويفقهوهم في الدين، فأقام عبادة بحمص، ثم انتقل منها إلى فلسطين؛ حيث تولى القضاء بها، فكان بذلك أول من تولى قضاء فلسطين.
    وفي سنة (34 هـ) توفي عبادة بالرَّمْلَة من أرض الشام -وقيل ببيت المقدس-، فرضي الله عنه وأرضاه.


    سفير الصدق
    حبيب بن زيد

    إنه حبيب بن زيد -رضي الله عنه- أحد الصحابة الفضلاء، وأحد الرجال السبعين الذين بايعوا النبي ( في بيعة العقبة الثانية، وكان أبوه وأمه ممن شاركوا في هذه البيعة أيضًا، وقد لازم رسول الله ( بعد الهجرة، وشهد معه الغزوات كلها، ولم يتخلف عن غزوة واحدة.
    ولما ادعى مسيلمة الكذاب النبوة، وزاد إضلاله وفساده، رأى الرسول ( أن يبعث إليه رسالة ينهاه فيها عن حماقته، ووقع اختيار النبي ( على حبيب بن زيد بن عاصم ليكون سفيره إلى مسيلمة الكذاب.
    وأخذ حبيب الرسالة وسافر إلى مسيلمة متمنيًا أن يكون سببًا في هدايته وعودته إلى رشده، ووصل حبيب إلى مسيلمة وأعطاه رسالة الرسول (، ولكن مسيلمة أصر على ضلاله وغروره، وأمر شرذمة من قومه أن يعذبوه أمام حشد كبير من بني حنيفة.
    وظن مسيلمة أن كل هذا التعذيب سيجعل حبيبًا يؤمن به، وبذلك يحقق معجزة أمام قومه الذين دعاهم لحضور هذا المشهد، وتوجه مسيلمة بالحديث إلى حبيب قائلا: أَتَشْهَدُ أن محمدًا رسول الله؟
    قال حبيب: نعم أشهد أن محمدًا رسول الله.
    فأصاب الخزى مسيلمة، وعاد يسأل حبيبًا في غضب: وتشهد أني رسول الله؟ فقال حبيب في سخرية واستهزاء: أنا أصم لا أسمع، فكرر مسيلمة السؤال مرارًا، ولكن حبيبًا ظل يردد جوابه السابق، فاسودَّ وجه مسيلمة الكذاب، وفشلت خطته، فهاج، ونادى جلاده، فجاء برمحه وطعن حبيبًا، ثم قطع جسده عضوًا عضوًا، وحبيب يردِّد في إيمان صادق: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
    وبلغ رسول الله ( نبأ استشهاد حبيب، فغضب غضبًا شديدًا، وجهز جيشًا لمحاربة مسيلمة، ولكنه ( توفي قبل توجه الجيش لمحاربته. فلما تولى أبو بكر الخلافة من بعده، لاقى مسيلمة في موقعة اليمامة تلك المعركة التي انتصر فيها المسلمون، وقُتل مسيلمة وأصحابه، وثأر المسلمون لحبيب من هذا الكذاب.


    الشهيد القارئ
    سعد بن عبيد

    إنه أبو عمير سعد بن عبيد بن النعمان الأنصاري الأوسي -رضي الله عنه-، أسلم قبل الهجرة، وعمل على نشر الإسلام بالمدينة، فأسلم معه جماعة من الأنصار، ولما هاجر النبي ( ورأى ما صنعه سعد، جعله إمامًا لمسجد قباء الذي بناه رسول الله (، ولقبه بالقارئ، ولم يلقب بهذا اللقب غيره، ثم جاء أبو بكر فأقرّه على إمامة المسجد، وكذلك فعل عمر بن الخطاب.
    وكان سعد أحد الأنصار الأربعة الذين جمعوا القرآن الكريم على عهد رسول (، ولم ينصرف سعد إلى العلم والتفقه في الدين فقط، بل وهب روحه ونفسه في سبيل الله، واشترك في الجهاد ضد المشركين في بدر وأحد، وفي كل المشاهد مع رسول الله (.
    وخرج -رضي الله عنه- مع جيش أسامة وتحت إمرته لقتال الروم، كما أذن له الصديق -رضي الله عنه- في الخروج إلى العراق للجهاد في سبيل الله، وحمله أمانة تعليم المسلمين والقضاء فيما بينهم، فخرج سعد القارئ -رضي الله عنه- خلف قائده أبي عبيد بن مسعود الثقفي -رضي الله عنه- يبارز بالسيف، ويعلم بالقلم.
    ثم خرج في جيش المسلمين تحت إمرة سعد بن أبي وقاص في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى بلاد كسرى في العراق؛ ليواصل جهاده هناك، لتكون كلمة الله هي العليا.
    ويبدأ الجيش المسلم سلسلة من اللقاءات الحاسمة مع أعداء الله، بدأها بلقاء مع ملك الحيرة وحليف كسرى، الملك العربي النصراني المنذر بن النعمان بن المنذر.
    واصطف الجيشان، وبدأ ملك الحيرة يخطب في جيشه؛ ليشجعهم على القتال، ويشعل الحماسة في قلوبهم، وبينما هو كذلك إذ صاح الحاجب: رسول من قائد الأعداء يطلب مقابلتك أيها الملك.
    فحدث بين صفوف الجيش هرج ومرج، فقال ملك الحيرة غاضبًا: ائتني به. فدخل القارئ مرفوع الرأس، ثابت الخطأ يدكُّ الأرض برجله وسيفه، وهو يخترق تلك الجموع الحاشدة التي تأهبت لقتال المسلمين ثم وقف أمام الملك، فقال قائد الحرس لسعد القارئ: قبل الأرض تحية للملك.
    فنظر القارئ باستخفاف واستنكار قائلا: الله أمرنا ألا يسجد بعضنا لبعض، ولعمري إن هذه كانت العادة المعروفة في الجاهلية قبل أن يبعث الله نبيه محمدًا (، فلما بعث جعل تحيته السلام، أما تحيتكم هذه فهي تحية جبابرة الملوك. اضطرب ملك الحيرة، وارتاع من جرأته، فأسرع صائحًا: ويح قومك! ما الذي جئت لأجله.
    فعرض عليهم سعد الإسلام وخيّرهم بين ثلاثة أمور: إما الإسلام، أو الجزية، أو هي الحرب.
    فقال له الملك: لقد حدثتكم أنفسكم بالأباطيل، أظننتم أن الفرس مثل الروم؟ كلا، وحق المسيح، إنهم أثبت وأشد، وهذا الملك أزدشير ملك الفرس قد جمع لكم جيوشه وعساكره، وسينالون منكم. فرد سعد القارئ في حزم وقوة: أيها الملك لقد تشرفت بالباطل، وتفوهت بكلام غير عاقل، أما علمت أن العاقبة للمتقين، وأن الله بكرمه يرفع عنا البأس، ويظفرنا بجميع الناس، وإن نبينا ( قال: (ستفتح على أمتي كنوز كسرى وقيصر) فأما كنوز قيصر فقد فتحها الله علينا، وبقيت كنوز صاحبك.
    فزاد غضب ملك الحيرة حتى فقد صوابه، فقال: ما عندنا جواب إلا السيف. ورجع القارئ إلى المعسكر، وأخبر قائده سعد بن أبي وقاص بالأمر، وما هي إلا فترة وجيزة حتى زحفت قوات الحق على أهل الباطل، فتطايرت الرءوس، وعلت الصيحات، وكتب الله النصر للمسلمين.
    وتقدم المسلمون نحو القادسية، وهناك كانت جيوش الفرس في أوج أهبتها واستعدادها؛ فقد جمعت عدتها وعتادها في انتظار المسلمين.
    وظلت الحرب دائرة يومين، وفي مساء اليوم الثالث، أخذ القارئ يحدث الناس، ويحمسهم، ويحثهم على الصبر والإخلاص، ويرغبهم في الشهادة، وما أعده الله للشهيد من فضل وكرامة، وقال لأصحابه: إنا مستشهدون غدًا، فلا تكفنونا إلا في ثيابنا التي أُصِبْنَا فيها.
    وفي الصباح كتب الله للمسلمين النصر، وأنعم الله على القارئ بما كان يتمناه، فاستشهد في سبيل الله.
    وقد روى سعد القارئ -رضي الله عنه- كثيرًا من أحاديث النبي (، وترك بنين وبنات، أشهرهم ابنه عمير الذي ولاه أمير المؤمنين
    عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ولاية الشام.


    الجعد الأبيض
    عمرو بن الجموح

    إنه عمرو بن الجموح -رضي الله عنه- أحد زعماء المدينة، وسيد سادات بني سلمة، وشريف من أشرافهم، وآخر الأنصار إسلامًا، كان زوجًا لهند بنت عمرو أخت عبد الله بن عمرو بن حرام، وقد سبقه ابنه معاذ إلى الإسلام.
    وكان عمرو بن الجموح قد اتخذ لنفسه صنمًا من الخشب في داره سماه منافًا، فحزن معاذ، وأخذ ينصحه بالدخول في الإسلام، لكنه ظل مصرًّا على عبادة ذلك الصنم الذي لا ينفع ولا يضر.
    وذات يوم، فكر معاذ ومعه بعض الفتيان من بني سلمة في حيلة يُعَرِّفُ بها أباه أن ما يعبده إنما هو صنم لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعًا ولا ضرًّا، بل لا يمكنه الدفاع عن نفسه.
    فدخلوا ليلا، وأخذوا الصنم من مكانه، ووضعوه في حفرة منكسًا على رأسه، فلما أصبح عمرو بن الجموح لم يجد منافًا، فكاد أن يجن، وغضب غضبًا شديدًا، وخرج يبحث عنه فإذا به ملقى في حفرة على رأسه.
    فثار وأخذ يصيح: ويلكم مَنْ عدا على آلهتنا هذه الليلة؟ ثم رفعه من الحفرة، وغسّله، وطيَّبه، ووضعه في مكانه بالدار، وهو يقول: أما والله لو أعلم مَنْ فعل هذا بك لأخزينه.
    ولما جاء الليل، ونام عمرو، ذهب الفتيان إلى الصنم، وفعلوا به مثلما فعلوا من قبل، وتكرر ذلك عدة مرات، فلم يجد عمرو حيلة إلا أن يعلق سيفه في رقبة ذلك الصنم ويقول له: إني والله لا أعلم مَنْ يصنع بك ما ترى، فإن كان فيك خير فامتنع بهذا السيف (أي فادفع عن نفسك).
    فلما جاء الليل أخذ معاذ وأصحابه كلبًا ميتًا، وربطوه في عنق الصنم، ثم ألقوه في البئر بعد أن أخذوا السيف، فلما أصبح عمرو لم يجد الصنم، فأخذ يبحث عنه فوجده في البئر مربوطًا فيه كلب ميت، فكرهه عمرو واحتقره وأخذ يقول:
    والله لو كنت إلهًا لم تكن أنت وكلب وسط بئر في قرن، ثم ذهب إلى الرسول ( معلنًا إسلامه.
    وكان -رضي الله عنه- جوادًا كريمًا، يقيم الولائم، ويطعم الطعام، ويكرم الضيف، وكان يقيم الولائم في زواج الرسول (، وكان النبي ( يعرف فضل عمرو، ففي إحدى المرات سأل الرسول ( جماعة من بني سلمة قبيلة عمرو بن الجموح فقال: (مَنْ سيدكم يا بني سلمة؟) فقالوا: الجد بن قيس، على بخل فيه (أي: رغم أنه بخيل)، فقال لهم رسول الله (: (وأي داء أدوى من البخل؟ بل سيدكم الجعد الأبيض عمرو بن الجموح) [أبو نعيم والبخاري في الأدب المفرد]، فكانت هذه الشهادة من رسول الله ( تكريمًا لابن الجموح.
    وفي هذا قال شاعر الأنصار:
    فسود عمرو بن الجموح لجوده
    وحق لعمرو بالندى أن يسودا
    إذا جاءه السؤال أذهب مالـــه
    وقـال خـذوه إنه عائد غدا
    وكان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج إلا أنه كان يحب الجهاد والغزو في سبيل الله، وكان يريد أن يجود بروحه وحياته في سبيل الله، كما كان يجود بماله، وكان له أربعة أولاد كلهم مسلمون، وكانوا رجالا صادقين في الإسلام يشهدون الغزوات مع رسول الله (.
    وفي غزوة بدر أراد عمرو أن يخرج مجاهدًا مع المسلمين، لكن أبناءه ذهبوا إلى الرسول ( وطلبوا منه أن يمنع أباهم من الخروج، فأمره الرسول ( بالبقاء في المدينة.
    ثم جاءت غزوة أحد، وأراد أن يخرج مع أبنائه فقالوا له: والله ما عليك حرج، إن الله قد عذرك (أي جعل لك عذرًا)، ونحن نجاهد عنك، فأخذ عمرو سيفه، وذهب إلى الرسول ( وقال له: يا رسول الله، إن بني (أبنائي) يريدون منعي من الخروج معك إلى الجهاد، والله إني لأرجو أن أطأ (أمشي) بعرجتي هذه الجنة. [ابن هشام].
    فلما رأى الرسول ( إصراره على الخروج أذن له، وقال له: (أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك، وأما أنتم يا بنيه فما عليكم أن لا تمنعوه، لعل الله أن يرزقه الشهادة).
    فأخذ عمرو سيفه فرحًا، وانطلق ناحية القبلة ثم رفع يديه داعيًا: اللهم ارزقني الشهادة، ولا تردني إلى أهلي خائبًا.
    والتقى الجيشان، وانطلق عمرو بن الجموح، وأبناؤه الأربعة يضربون مع جيش الإسلام بسيوفهم جيش الشرك، وأخذوا يقاتلون في بسالة وإصرار، وأنعم الله على عمرو بن الجموح بالشهادة كما تمنى.
    وأخذ المسلمون يدفنون شهداءهم، وعندما أتوا على عبد الله ابن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح أمرهم النبي ( أن يدفنا في قبر واحد، ثم قال الرسول (: (والذي نفسي بيده إن منكم لمن لو أقسم على الله لأبره (يقصد: عمرو بن الجموح)) [أحمد].
    وكان -رضي الله عنه- يقول للنبي ( قبل معركة أحد: يا رسول الله، أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل، أأمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة؟ وكانت رجله عرجاء، فقال رسول الله (: (نعم)، فلما قتل يوم أحد مرَّ عليه رسول الله (، وقال: (ولقد رأيته يطأ في الجنة بعرجته) [ابن عبدالبر].


    الذي أطعمه الله وسقاه
    أبو أمامة الباهلي

    إنه أبو أمامة الباهلي صدى بن عجلان -رضي الله عنه-، وعندما أسلم، وبعثه رسول الله ( إلى قومه باهلة يدعوهم إلى الله عز وجل، ويعرض عليهم شرائع الإسلام، فلما جاءهم قالوا له: سمعنا أنك صبوت (أسلمت) إلى هذا الرجل الذي يدعى محمدًا، فقال أبو أمامة لهم: لا ولكن آمنت بالله ورسوله، وقد أرسلني رسول الله إليكم أدعوكم إلى عبادة الله الواحد الأحد، وأعرض عليكم الإسلام، ثم أخذ أبو أمامة يحدثهم عن الإسلام ويدعوهم إليه، ولكنهم أصروا على الشرك وعبادة الأوثان.
    فلما أطال الحديث معهم، ويئس منهم، قال لهم: ويحكم، ايتوني بشربة ماء، فإني شديد العطش وكان عليه عمامة، فقالوا له: لا، ولكن ندعك تموت عطشًا، فحزن أبو أمامة وضرب رأسه في عمامته ونام، وكان الحر شديدًا، فأتاه آت في منامه حسن المنظر بإناء فيه شراب، لم ير الناس أجمل منه لونًا وطعمًا، فأخذه منه، وشرب حتى ارتوى.
    فلما شبع من الشراب، استيقظ من نومه، فلما رآه القوم قد استيقظ قال رجل منهم: يا قوم أتاكم رجل من سراة القوم فلم تتحفوه (أي تعطوه ما يريد)، فأتوني بلبن، فقال له أبو أمامة: لا حاجة لي به، إن الله أطعمني وسقاني، ثم أظهر لهم بطنه، فلما رأوا بطنه مملوءة، وليس به عطش ولا جوع قالوا له: ماذا حدث يا أبا أمامة، فحكى لهم ما رآه في منامه فأسلموا جميعًا.
    وقال أبو أمامة بعد تلك الشربة: فوالله ما عطشت، ولا عرفت عطشًا بعد تيك (تلك) الشربة) [الطبراني والحاكم والبيهقي].
    وكان -رضي الله عنه- يحب الجهاد في سبيل الله، وفي يوم بدر أراد أن يخرج مع رسول الله (، فقال له خاله أبو بردة بن نيار: ابق مع أمك العجوز؛ لتقض حاجتها، فقال له أبو أمامة: بل ابق أنت مع أختك. وظل كل منهما يريد أن يخرج مع الرسول ( للجهاد، فاحتكما إلى رسول الله ( في ذلك، فأمر رسول الله ( أبا أمامة أن يبقى مع أمه.
    وظل -رضي الله عنه- ملازمًا النبي ( في جميع غزواته لا يتخلف عن غزوة ، ولا يتقاعس عن جهاد. وشارك -رضي الله عنه- في جميع الحروب مع خلفاء الرسول (.
    وتوفي أبو أمامة الباهلي بحمص في الشام سنة (81هـ)، وقيل سنة (86هـ)، وكان عمره (91) سنة، وقيل: إنه آخر من مات بالشام من صحابة رسول الله (.


    أول من دفن بالبقيع
    عثمان بن مظعون

    إنه عثمان بن مظعون -رضي الله عنه- عُرِف بحسن الخلق ورجاحة العقل، وُلِدَ بمكة المكرمة، وأبوه مظعون بن حبيب بن وهب، وأمه سخيلة بنت العنبس، وكان يكنى أبا السائب.
    أسلم بعد ثلاثة عشر رجلا، وكان عمره آنذاك ثلاثين عامًا، وعاش في حماية الوليد بن المغيرة، ثم رأى ما يحدث للمسلمين من اضطهاد وتعذيب، بينما هو يمشى آمنًا ولا يتعرض له أحد من المشركين بسوء، فوقف مع نفسه قائلاً: والله إن غدوّي ورواحي آمنًا بجوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يلقون من الأذى والبلاء ما لا يصيبني لنقص كبير في نفسي، ثم ذهب إلى الوليد وردَّ عليه حمايته، وقال له: يا أبا عبد شمس، قد وفت ذمتك، فرددت إليك جوارك، فقال له الوليد: ولِمَ يا بن أخي؟ لعله آذاك أحد من قومي؟ فقال: لا، ولكني أرضي بجوار الله -عز وجل- ولا أريد أن أستجير بغيره.
    فقال له الوليد: إذن فهيا أردد عليَّ جواري علانية أمام أهل مكة كما أمنتك علانية، فانطلقا حتى وصلا إلى المسجد الحرام، ووقف الوليد، ونادى على الناس بصوت عال، فرد عليه عثمان جواره وقال: قد وجدته وفيًّا كريمًا، حافظًا للجوار، ولكنى أحببت أن لا أستجير بغير الله، فقد رددت عليه جواره.
    وكان عثمان ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية، وكان يقول: لا أشرب شرابًا يذهب عقلي، ويُضحك بي من هو أدنى مني، ويحملني على أن أنكح كريمتي. فلما حرمت الخمر، قال: تبًّا لها، قد كان بصري فيها ثاقبًا.
    وتعرض عثمان لأذى المشركين، وشارك إخوانه المسلمين في محنتهم، وهاجر معهم إلى الحبشة لمّا أمرهم النبي ( بالهجرة، وأخذ معه ابنه السائب، وكان عثمان أمير الفوج الأول إلى الحبشة، ثم قُدّر له أَن يعود من الحبشة إلى مكة مرة أخرى.
    وذات يوم، كان أهل مكة يجتمعون على الشاعر العربي لبيد ابن ربيعة؛ لينشدهم الشعر، فدخل عليهم عثمان، فسمعه يقول:
    ألا كل شيء ما خلا الله باطل
    فقال عثمان بن مظعون: صدقت، فقال لبيد:
    وكل نعيـم لا محــالة زائـــل
    فقال عثمان -رضي الله عنه-: كذبت، نعيم الجنة لا يزول، فغضب لبيد، وقال: يا معشر قريش، والله ما كان يؤذي جليسكم، فمتى حدث فيكم هذا؟!
    فقام رجل من المشركين إلى عثمان، وضربه على إحدى عينيه ضربة شديدة أوجعته وأصابت عينه بضرٍّ شديد، ورأى الوليد بن المغيرة ما حدث
    لعثمان بن مظعون، فقال: أما والله يابن أخي إن كانت عيناك عما أصابها لغنية، لقد كنت في ذمة ومنعة.
    فقال عثمان: بلى والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى ما أصاب أختها في سبيل الله، وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر، يا أبا عبد شمس. فقال الوليد: هلمَّ يابن أخي فَعُدْ إلى جواري، فقال عثمان: لا.
    وحينما أذن للمسلمين بالهجرة إلى المدينة، هاجر معهم عثمان، وعاش مع المسلمين حتى جاءت غزوة بدر، فقاتل مع المسلمين، وكان -رضي الله عنه- عابدًا زاهدًا، يجتهد في العبادة، وعندما أراد أن ينقطع للعبادة، ولا يتزوج، نهاه النبي ( وقال: (يا عثمان، إن الله لم يبعثني بالرهبانية، وإن خير الدين عند الله الحنيفية السمحة) [ابن سعد].
    ومكث عثمان بعد غزوة بدر عدة أيام يشارك المسلمين فرحة النصر على أعداء الله، ولكنه لم يدم طويلاً، فسرعان ما مرض مرضًا شديدًا حبسه في بيته، فزاره النبي ( ليطمئن عليه، وشاء الله أن يكون مرض الموت، فمات عثمان بن مظعون وهو سعيد بإسلامه، مستبشر بما أعده الله له من الخير والكرامة في الجنة.
    وبعد موته قَبَّله الرسول (، وغسَّله، وكفَّنه، وصلى عليه، ثم دفنه بالبقيع، وقال له وهو في مثواه الأخير: (ذهبت ولم تلبس منها (الدنيا) بشيء) [مالك].
    فكان أول من دُفن بالبقيع، وأول من مات من المهاجرين بالمدينة المنورة، وكانت وفاته -رضي الله عنه- في السنة الثالثة من الهجرة.


    الراكب المهاجر
    عكرمة بن عمرو

    إنه الصحابي الجليل عكرمة بن عمرو بن هشام -رضي الله عنه-، أبوه عمرو بن هشام الذي سماه النبي ( أبا جهل، لشدة عدائه للإسلام والمسلمين، وقد أسلم عكرمة بعد فتح مكة، وكان الرسول ( قد أباح قتله؛ بسبب ما ظهر منه من شدة العداء لله ورسوله (.
    فلما فتح الرسول ( مكة، فر هاربًا وترك أهله وماله، واتجه نحو اليمن يفكر في الذهاب إلى الحبشة، إلا أن الله سبحانه كان قد رزقه بزوجة وفية سبقته إلى الإسلام، وهى أم حكيم بنت الحارث بن هشام، وكانت تحب زوجها وتتمنى له الهداية.
    ولما رأت ما كان من هروب زوجها، ذهبت إلى الرسول ( تطلب منه العفو والأمان لزوجها، فرق قلب النبي ( لحالها، وأعطاه الأمان، فأسرعت أم حكيم إلى زوجها لتبشره بعفو رسول الله ( عنه، وبعد أن عانت الزوجة المخلصة من سفرها في الصحراء، وصلت إلى ساحل البحر فلحقت بزوجها، وهو في السفينة.
    وظلت تنادي عليه حتى سمعها، فقالت: يابن العم، جئتك من عند أوصل الناس، وأبر الناس، وخير الناس، لا تهلك نفسك، فعاد إليها، فقالت له: إني قد استأمنت لك رسول الله (، فقال لها: أنت فعلت ذلك؟ فقالت: نعم أنا كلمته فأمَّنك، فرجع معها إلى مكة حتى لقى رسول الله ( وأعلن إسلامه، فقال له الرسول (: (مرحبًا بالراكب المهاجر) [الترمذي].
    وقال النبي ( لأصحابه: (يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنًا مهاجرًا، فلا تسبُّوا أباه، فإن سب الميت يؤذى الحي، ولا يبلغ الميت)
    [الواقدي وابن عساكر].
    ووقف عكرمة بين يدي الرسول ( نادمًا على ما حدث منه، وقال: يا رسول الله، علمني خير شيء تعلمه حتى أقوله، فقال له النبي (: (شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله)، فقال عكرمة: أنا أشهد بهذا وأشهد بذلك من حضرني، وأسألك يا رسول الله أن تستغفر لي، فاستغفر له رسول الله (، فقال عكرمة: والله لا أدع نفقة كنت أنفقتها في صد عن سبيل الله إلا أنفقت
    ضعفها في سبيل الله، ولا قتالاً قاتلته إلا قاتلت ضعفه، وأشهدك يا رسول الله على ذلك.
    وهكذا أسلم عكرمة فحسن إسلامه، وشارك مع جيوش المسلمين في كثير من الغزوات، واستعمله الرسول ( على صدقات هوازن في عام وفاته، وواصل عكرمة جهاده مع المسلمين في عهد أبي بكر، واشترك في حروب الردة، وأبلى فيها بلاء حسناً، وسار إلى عمان فحارب المرتدين هناك، وجعله
    أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- أميرًا عليها، وبقى فيها حتى وفاة أبي بكر.
    فلما تولى عمر بن الخطاب الخلافة، واتسعت في عهده الفتوحات الإسلامية، اشترك عكرمة فيها، وظل يجاهد في سبيل الله، حتى جاءت موقعة اليرموك، وكان عكرمة أميرًا على بعض الكراديس (مجموعة من الجنود)، فنادى في المسلمين: من يبايعني على الموت؟
    فأسرع إليه ابنه عمرو وعمه الحارث بن هشام وضرار بن الأزور، ومعهم فارس من المسلمين، وانطلقوا نحو جيوش الروم يحصدون رقابهم، وأظهر عكرمة -رضي الله عنه- في هذه المعركة فدائية وشجاعة نادرة حتى جرح وجهه وصدره، وانتصر المسلمون انتصارًا حاسمًا، ولكن جرح عكرمة كان عميقًا فأدى إلى استشهاده، فقد وجدوا فيه بضعة وسبعين جرحًا ما بين طعنة ورمية وضربة.
    وقبل أن يستشهد عكرمة ضرب أروع مثل في الإيثار، فقد كان بجواره الحارث بن هشام وسهيل بن عمرو، فدعا الحارث بن هشام بماء ليشربه، فجيء إليه بماء فنظر إليه عكرمة، فقال هشام: ادفعه (أعطه) إلى عكرمة، فلما أخذه عكرمة نظر إليه سهيل، فقال عكرمة: ادفعه إلى سهيل، فلما وصل الماء إلى سهيل كان قد مات، ثم تبعه عكرمة والحارث، واستشهدوا جميعًا وقد آثر كل واحد منهم الآخر بشربة الماء -رضي الله عنهم أجمعين-.


    شهيد نهاوند
    النعمان بن مقرن

    إنه الصحابي الجليل النعمان بن مقرن -رضي الله عنه- الذي قدم على النبي ( في المدينة مع أربعمائة من قومه مُزَيْنَة ، فاهتزت المدينة فرحًا بهم، واستبشر بهم المسلمون، وقد هداه الله للإسلام، وهدى معه أهله وإخوته السبعة.
    وقد اشتهر بنو مقرن بحب الله ورسوله (، والإنفاق في سبيل الله عز وجل، والتضحية من أجل دين الله سبحانه، وفيهم نزل قول الحق تبارك وتعالى: {ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول إلا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم} [التوبة: 99].
    ومنذ أن أسلم النعمان بن مقرن وهو يرفع لواء قومه مجاهدًا بهم في سبيل الله شرقًا وغربًا، فنجده في فتح مكة، وفي الجهاد ضد هوازن والطائف وثقيف، ومحاربة المرتدين ومدِّعي النبوة في عهد الصديق -رضي الله عنه-، ثم يرفع لواء قومه في موقعة القادسية والتي شهدت أروع بطولاته وتضحياته. خاض النعمان بقومه كل هذه الحروب محتسبًا أجره عند الله، وطمعًا في مرضاته، متمنيًا أن ينعم الله عليه بالشهادة في سبيله.
    وكان النعمان لين الجانب، زاهدًا في الدنيا ومفاتنها، لا يرضى حياة الرفاهية والإمارة، بل يفضل حياة العمل والجهاد، فحين عرض عليه أمير المؤمنين
    عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الإمارة على قبيلته، رفض ذلك واعتذر لأمير المؤمنين، ويواصل النعمان رحلة جهاده في سبيل إعلاء كلمة الحق، فكان على رأس الجيش الذي نجح في فتح البصرة ثم الكوفة، وقضى بذلك على وجود الفرس في بلاد العرب.
    وجمع يزدجر كسرى فارس آنذاك جيشًا عظيمًا عدده أكثر من مائتي ألف فارس، وجعل من نهاوند قلعة يوجِّه منها سهامه إلى الإسلام، وأصر على محاربة المسلمين والقضاء عليهم، وأحس أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بخطورة الأمر، فحشد جيوشه الإسلامية، وأراد أن يقود الجيش بنفسه، إلا أن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أشار عليه بأن وجوده في المدينة خير للمسلمين من خروجه، حتى يرعى شئون الأمة الإسلامية التي امتدت أطرافها شرقًا وغربًا، واقتنع الفاروق عمر برأى علي، وقال لمن حوله: أشيروا عليَّ برجل أوليه قائدًا في هذه الحرب، وليكن عراقيًّا، وله خبرة بطرقها ومسالكها.
    فقال له أصحابه: يا أمير المؤمنين، أنت أعلم لجندك وقد وفدوا عليك. فقال عمر: والله لأولين أمرهم رجلاً يكون أول الأسنة إذا لقيها غدًا. فقالوا: ومن يكون؟ قال عمر: النعمان بن مقرن المزني. قالوا: هو لها يا أمير المؤمنين.
    فأمر عمر -رضي الله عنه- النعمان بن مقرن أن يتجه بالجيش إلى نهاوند، ثم أرسل إليه عمر جيشًا آخر بقيادة حذيفة بن اليمان ليكون مددًا وعونًا له، فأصبح عدد الجيش الإسلامي ثلاثين ألف فارس، والتقى بجيش الفرس في حرب شديدة، ظلت يومين لم يستطع أحد أن يحقق النصر على الآخر، وفي اليوم الثالث نجح المسلمون في أن يبعدوا الفرس عن مواقعهم ويدخلوهم خنادقهم وحصونهم ويحاصرونهم فيها.
    وطال حصار المسلمين للفرس، ففكر النعمان وجنده في حيلة يخرجون بها الفرس من حصونهم، فأشار طليحة بن خويلد الأسدي -رضي الله عنه- بأن يوهم بعض المسلمين الفرس أنهم قد انهزموا، وينسحبوا من الميدان، فينجذب نحوهم الفرس، ويتركوا مواقعهم، ثم ينقض عليهم الجيش الإسلامي كله مرة واحدة، فيهزموهم بإذن الله.
    ونفذ هذه الخطة الحربية القعقاع بن عمرو -رضي الله عنه- مع بعض جنود المسلمين، ونجحت الحيلة، وظن الفرس أن في جيش المسلمين ضعفًا، فخرجوا وراءهم ليقضوا عليهم، فانقض عليهم المسلمون، واندفع النعمان بن مقرن في صفوف الفرس، يقاتل قتالاً شديدًا؛ طامعًا في النصر للمسلمين وفي الشهادة لنفسه، ودعا الله قائلاً: اللهم إني أسألك أن تقرِّ عيني بفتح يكون فيه عز الإسلام، واقبضني إليك شهيدًا.
    ونال النعمان أمنيته، فسقط شهيدًا في أرض المعركة، وقبل أن تقع الراية من يده أسرع إليه أخوه نعيم وأخذ الراية منه ليواصل المسلمون جهادهم، ويكتم نعيم خبر استشهاد القائد، ويقوم حذيفة بن اليمان الذي أوصى النعمان له بقيادة الجيش من بعده، فيواصل المسيرة حتى تنتهي المعركة بنصر كبير، أعز الله به الإسلام والمسلمين، وفي جو الفرحة تساءل المسلمون عن قائدهم؟ فأجابهم نعيم قائلاً: هذا أميركم، قد أقر الله عينه بالفتح وختم له بالشهادة.
    ووصل الخبر إلى المدينة، فصعد عمر المنبر ينعي للمسلمين ذلك البطل الشهيد، ويقول وعيناه تذرفان بالدموع: إنا لله وإنا إليه راجعون، فيبكي المسلمون بالمدينة، ويرتفع صوت عبد الله بن مسعود بالبكاء وهو يقول: إن للإيمان بيوتًا وإن بيت ابن مقرن من بيوت الإيمان.
    وهكذا يسجل التاريخ يومًا من أعظم أيام الإسلام، يوم نهاوند سنة (21هـ)، ذلك اليوم الذي استشهد فيه أمير نهاوند، وقائد المسلمين فيها النعمان بن مقرن.
    وفي نهاوند، دفن النعمان يوم الجمعة في سهل ممتد تكسوه الأشجار العالية، ودفن معه مَنْ استشهد في ذلك اليوم الخالد.


    فارس العرب
    عمرو بن معد يكرب

    إنه الصحابي الجليل أبو ثور عمرو بن معد يكرب الزُّبَيْدي -رضي الله عنه- الشاعر والفارس، اشتهر بالشجاعة والفروسية حتى لُقِبَّ بفارس العرب، وقد شارك في فتوح الشام والعراق، ولم يتخلف عن حرب مع المسلمين ضد أعدائهم قط.
    ومما يروى عن إسلامه، أنه قال لصديقه قيس بن مكشوح حينما بلغهما أمر النبي (: قد ذُكر لنا أن رجلاً من قريش يقال له محمد، قد خرج بالحجاز، يقول: إنه نبي، فانطلق بنا إليه حتى ننظر أمره، فإن كان نبيًّا كما يقول؛ فإنه لن يخفي عليك، وإن كان غير ذلك؛ علمنا، فرفض قيس ذلك، فذهب هو إلى المدينة، ونزل على سعد بن عبادة، فأكرمه، وراح به إلى النبي ( فأسلم. وقيل: إنه قدم المدينة في وفد من قومه زُبَيْد، فأسلموا جميعًا.
    وفي يوم اليرموك حارب في شجاعة واستبسال يبحث عن الشهادة، حتى انهزم الأعداء، وفروا أمام جند الله. وقبيل معركة القادسية طلب قائد الجيش
    سعد بن أبي وقاص مددًا من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ليستعين به على حرب الفرس، فأرسل أمير المؤمنين إلى سعد رجلين فقط، هما: عمرو بن معد يكرب، وطليحة بن خويلد، وقال في رسالته لسعد: إني أمددتك بألفي رجل.
    [الطبراني].
    وعندما بدأ القتال ألقى عمرو بنفسه بين صفوف الأعداء يضرب فيهم يمينًا ويسارًا، فلما رآه المسلمون؛ هجموا خلفه يحصدون رءوس الفرس حصدًا، وأثناء القتال وقف عمرو وسط الجند يشجعهم على القتال قائلاً: يا معشر المهاجرين كونوا أسودًا أشدَّاء، فإن الفارس إذا ألقى رمحه يئس.
    فلما رآه أحد قواد الفرس يشجع أصحابه رماه بنبل، فأصابت قوسه ولم تصبه، فهجم عليه عمرو فطعنه، ثم أخذه بين صفوف المسلمين، واحتز رأسه، وقال للمسلمين: اصنعوا هكذا. وظل يقاتل حتى أتمَّ الله النصر للمسلمين.
    [الطبراني].
    وفي موقعة نهاوند، استعصى فتح نهاوند على المسلمين، فأرسل عمر بن الخطاب إلى النعمان بن مقرن قائد الجيش قائلاً: اسْتَشِر واستعن في حربك بطلحة
    وعمرو بن معد يكرب، وشاورهما في الحرب، ولا تولِّهما من الأمر شيئًا، فإن كل صانع هو أعلم بصناعته. وقاتل عمرو في هذه المعركة أشدَّ قتال حتى كثرت جراحه، وفتح الله على المسلمين نهاوند، وظفر عمرو في تلك المعركة بالشهادة، ودفن بقرية رُوذَة من قرى نهاوند.


    شبيه عيسى
    عروة بن مسعود

    إنَّه عروة بن مسعود الثقفي أحد أكابر قومه، وكان أحد الذين أرسلتهم قريش إلى النبي ( يوم صلح الحديبية ليفاوضه، ويومها قال عروة للنبي (: أي محمد، أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك. [البخاري].
    ثم رجع عروة إلى أهل مكة، وقال: إني رأيت من أصحاب محمد العجب، فوالله ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلَّك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيمًا له: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكًا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمدٍ محمدًا، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فكان لعروة اليد البيضاء في تقرير الصلح يوم الحديبية.
    وروى أن عروة بن مسعود ظل على شركه حتى عزم الرسول ( على فتح الطائف، وجهز النبي ( سرية من أصحابه، وخرج معهم إلى ثقيف، التي تحصنت بحصون عظيمة، فعسكر النبي ( بسريته حول الحصن عدة أيام، فلما وجد أن الحصار لا يفيد قرر العودة إلى المدينة، فلحق به عروة سيد ثقيف، فأسلم وحسن إسلامه، ثم استأذن النبي ( أن يرجع إلى قومه ليدعوهم إلى الإسلام، فقال له النبي (: (إن فعلت فإنهم قاتلوك)، فقال عروة: يا رسول الله، أنا أحبُّ إليهم من أبصارهم، فأذن له النبي (.
    ورجع عروة إلى قومه ليدعوهم إلى الإسلام، ولكنهم غضبوا منه وسبوه، وأسمعوه ما يكره، وفي فجر اليوم التالي صعد عروة فوق سطح غرفة له وأذن للصلاة، فخرجت إليه ثقيف، ورموه بالنبل من كل اتجاه، فأصابه سهم فوقع على الأرض، فحمله أهله إلى داره، وهناك قيل لعروة: ما ترى في دَمِكَ؟ قال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إليَّ، فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله ( قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم، فدفنوه معهم. فلما علم ( بما حدث لعروة قال: (مَثَلُ عروة في قومه مَثَلُ صاحب ياسين دعا قومه إلى الله فقتلوه) [الطبراني].
    وقال (: (عُرض عليَّ الأنبياء، فإذا موسى ضرب من الرجال كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى بن مريم -عليه السلام- فإذا أقرب مَنْ رأيت به شبهًا عروة بن مسعود. [مسلم].


    معمر البصرة
    عتبة بن غزوان

    إنه عتبة بن غزوان أحد الرماة الأفذاذ الذين أبلوا في سبيل الله بلاء حسنًا، سابع سبعة سبقوا إلى الإسلام، وبسطوا أيديهم مبايعين رسول الله (، ومُتحدِّين قريشًا بكل ما معها من قوة وبأس، وتحمل مع إخوانه عذاب قريش واضطهادها.
    هاجر إلى الحبشة في المرة الثانية، فلم يطق فراق رسول الله (، وسرعان ما رجع ليبقى بجوار الرسول ( حتى حان موعد الهجرة إلى المدينة، فهاجر مع المسلمين، ولكن قريشًا لم تهدأ بعد هجرة النبي ( وأصحابه إلى المدينة، بل بدأت في محاربة الإسلام، واصطدمت مع المسلمين في بدر، فحمل عتبة سلاحه ليضرب به رءوس الكفر، وظل رافعًا سلاحه مع الرسول ( في كل لقاءاته مع المشركين لا يتخلف عن جهاد، أو يتكاسل عن معركة.
    وبقى عتبة بعد وفاة النبي ( مجاهدًا في سبيل الله، فقد أرسله أميـر المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أرض البصرة لقتال الفرس في الأُبُلَّة، وليطهر أرضها من رجسهم. ومضى عتبة بجيشه إلى الأبلة، والتقى بأقوى جيوش الفرس، ووقف عتبة أمام جنوده حاملاً رمحه بيده، وصاح: الله أكبر. تلك الكلمة التي زلزلت الأرض من تحت أقدام الفرس، وما هي إلا جولات مباركة حتى استسلمت الأبلة، وطهرت أرضها من الكفر، وتحرر أهلها من طغيان الفرس.
    وبعد فتح الأبلة، أسس عليها عتبة مدينة البصرة، وبني فيها مسجدًا كبيرًا، وبقى عتبة -رضي الله عنه- بالبصرة يصلي بالناس، ويفقههم في دينهم، ويحكم بينهم بالعدل، ضاربًا لهم أروع مثال في الزهد والورع.
    وظل عتبة -رضي الله عنه- واليًا على البصرة حتى جاء موسم الحج، فخرج حاجَّا بعدما استخلف المغيرة بن شعبة على البصرة، ولما فرغ من حجه، سافر إلى المدينة، وطلب من أمير المؤمنين عمر أن يعفيه من الإمارة، ولكن أمير المؤمنين رفض أن يعفيه منها، ولم يكن أمام عتبة إلا الطاعة، فأخذ راحلته ليركبها راجعًا إلى البصرة، واعتلى ظهرها، ثم دعا ربه قائلاً: اللهم لا تردّني إليها.
    فاستجاب الله دعاءه، فسقط من على راحلته، فمات وهو في طريقه بين مكة والبصرة، وكان ذلك سنة ( 17هـ).


    أفضل من قدم البصرة
    عمران بن حصين

    إنه الصحابي الجليل أبو نُجيد عمران بن حصين -رضي الله عنه-، صاحب راية خزاعة يوم الفتح. أسلم عام خيبر، وبايع الرسول ( على الإسلام والجهاد، وكان صادقًا مع الله ومع نفسه، ورعًا زاهدًا مجاب الدعوة، يتفانى في حب الله وطاعته، كثير البكاء والخوف من الله، لا يكف عن البكاء ويقول: يا ليتني كنت رمادًا تذروه الرياح. [ابن سعد].
    بعثه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى البصرة، ليعلم أهلها أمور دينهم، وفي البصرة أقبل عليه أهلها يتعلمون منه، وكانوا يحبونه حبًّا شديدًا، لورعه وتقواه، وزهده، حتى قال الحسن البصري وابن سيرين -رضي الله
    عنهما-: ما قدم البصرة من أصحاب رسول الله ( أحد يفضل عمران بن حصين.
    ولاه أمير البصرة أمر القضاء مدة من الزمن، ثم طلب من الأمير أن يعفيه من القضاء، فأعفاه، فقد أراد ألا يشغله عن العبادة شاغل حتى ولو كان ذلك الشاغل هو القضاء. ولما وقعت الفتنة بين المسلمين وقف عمران بن حصين محايدًا لا يقاتل مع أحد ضد الآخر، وراح يدعو الناس أن يكفوا عن الاشتراك في تلك الحرب، ويقول: لأن أرعى غنمًا على رأس جبل حتى يدركني الموت، أحب إليَّ من أن أرمي في أحد الفريقين بسهم، أخطأ أم أصاب. وكان يوصي من يلقاه من المسلمين قائلاً: الزم مسجدك، فإن دُخل عليك فالزم بيتك، فإن دخل عليك بيتك من يريد نفسك ومالك فقاتله.
    ويضرب عمران بن حصين أروع مثل في الصبر وقوة الإيمان، وذلك حين أصابه مرض شديد ظل يعاني منه ثلاثين عامًا، لم يقنط ولم ييأس من رحمة الله، وما ضجر من مرضه ساعة، ولا قال: أف قط، بل ظل صابرًا محافظًا على عبادة الله، قائمًا وقاعدًا وراقدًا وهو يقول: إن أحب الأشياء إلى نفسي أحبها إلى الله. وأوصى حين أدركه الموت قائلاً: من صرخت عليَّ، فلا وصية لها. وظل عمران بن حصين بالبصرة حتى توفي بها عام (52هـ) وقيل: ( 53هـ).


    المجدع في الله
    عبد الله بن جحش

    إنه الصحابي الجليل عبد الله بن جحش -رضي الله عنه-، ابن عمة رسول الله (، وأخو السيدة زينب بنت جحش زوج رسول الله (، كان من السابقين إلى الإسلام، حيث أسلم قبل دخول النبي ( دار الأرقم بن أبي الأرقم.
    وقد عذب عبد الله في سبيل الله، إلى أن خرج مهاجرًا إلى الحبشة مع المسلمين المهاجرين إليها فرارًا بدينه، ثم دعاه الحنين إلى مكة فعاد إليها مع العائدين من الحبشة، وظل بها صابرًا على ما يلاقيه من أذى، حتى أذن الله للمسلمين بالهجرة إلى المدينة، فسارع بالهجرة تاركًا في مكة دارًا عظيمة البنيان، تطل على الكعبة، فهجم المشركون على داره وباعوها وقبضوا ثمنها، ولما علم قومه بذلك تأثرت نفوسهم، وغضبوا غضبًا شديدًا، فطمأنهم النبي (، ودعا الله أن يعوضهم دارًا خيرًا منها في الجنة ففرحوا بذلك.
    وبعد أن استقر المقام بالنبي ( في المدينة، بعث سرية من المسلمين لترصُّد عير قريش القادمة من الشام وتعرف أخبارها، وقال للصحابة الذين تجهزوا لهذه السرية: (لأبعثن عليكم رجلا أصبركم على الجوع والعطش)، ثم اختار الرسول ( عبد الله بن جحش، وجعله أميرًا على أول سرية يبعثها، وأعطاه كتابًا، وطلب منه ألا يفتحه إلا بعد أن يسير بأصحابه يومين، وسار عبد الله بالسرية.
    وبعد يومين فتح الرسالة فإذا مكتوب فيها: (إذا نظرت في كتابي هذا؛ فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها قريشًا وتعلم لنا أخبارهم). وعندما قرأ عبد الله الرسالة تهلل وجهه بالفرح، وقال: سمعنا وأطعنا، والتفت إلى أصحابه وأخبرهم الخبر، وقال لهم: نهاني رسول الله أن استكره أحدًا منكم، فمن كان يريد الشهادة ويرغب فيها؛ فلينطلق معي، ومن كره ذلك فليرجع. [ابن هشام].
    ولما وصلوا إلى المكان الذي وصفه لهم رسول الله (، ترصدوا لعير قريش حتى قدمت وفيها أربعة من الكفار، فاستشار عبد الله بن جحش أصحابه في قتالهم، فوافقوا على ذلك، فهجموا على المشركين، وقتلوا واحدًا، وأسروا اثنين، و فرَّ الرابع، وكان ذلك في آخر يوم من شهر جمادى الآخرة، وأول ليلة من شهر رجب (أحد الأشهر الحرم).
    وأشاعت قريش أن رسول الله ( يأمر أصحابه بالحرب في الأشهر الحرم، فحزن الرسول ( لذلك، وعاتب
    عبد الله بن جحش وأصحابه، لكن الله سبحانه أنزل في ذلك قرآنًا، قال تعالى: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل}
    [البقرة: 217].
    ففرح عبد الله وأصحابه ببراءة الله لهم، وكان عبد الله قد غنم في هذه السرية، فقسم الغنائم، وأعطى للرسول ( خمس الغنيمة، ولم تكن آية الأنفال قد نزلت، فكان عبد الله أول من أعطى الخمس لرسول الله في الإسلام، ثم أنزل الله بعدها قوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول} [الأنفال: 41]، ثم جاءت غزوة بدر فأبلى فيها عبد الله بلاء حسنًا، وأظهر شجاعة وفروسية، حتى تحقق نصر الله للمسلمين. [ابن هشام].
    وفي غزوة أحد، وقف عبد الله بن جحش مع سعد بن أبي وقاص يستعدان للمعركة، وكل منهما يدعو ربه، فدعا سعد ربه أن يرزقه رجلاً شديدًا يقتله في سبيل الله، ويأخذ غنيمته، فأمن عبد الله على دعاء سعد، وتوجَّه هو إلى ربه في دعاء خاشع قال فيه: اللهم ارزقْني رجلاً شديدًا حرده (بأسه)، أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يأخذني (يقتلني) فيجدع (يقطع) أنفي وأذني، فإذا لقيتك غدًا (يوم القيامة) قلت: من جَدَعَ أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك (، فتقول: صدقت.
    وأمن سعد على دعائه، ثم انطلقا إلى ساحة القتال، وعلم الله فيه صدق النية وإخلاص القلب والرغبة الحقيقية في الاستشهاد في سبيل الله، فاستجاب دعاءه، فقاتل في سبيل الله، وأظهر الشجاعة والبسالة، حتى إن سيفه كسر من كثرة قتله للمشركين، فأعطاه الرسول ( عرجون نخلة (العرجون أصل الأقرع التي تجمع البلح)، فتحول هذا العرجون الضعيف في يده سيفًا صارمًا
    يقاتل به الأعداء، وبعد طول قتال رزقه الله الشهادة في سبيله؛ حيث هجم عليه أحد المشركين، وضربه بسيفه ضربة شديدة؛ فاضت بعدها روحه إلى بارئها، ثم قام هذا المشرك بقطع أنفه وأذنه، فسُميَّ المجدَّع في الله (أي المقطوع الأنف والأذن). ولما رآه سعد بن أبي وقاص على تلك الهيئة قال: كانت دعوته خيرًا من دعوتي.
    وكان عمره آنذاك بضعًا وأربعين سنة، ودفن -رضي الله عنه- بجوار أسد الله حمزة في قبر واحد، بعد أن صلَّى عليه رسول الله (.


    داعية في الإسلام
    عمير بن وهب

    إنه عمير بن وهب -رضي الله عنه-، كان واحدًا من قادة قريش، وبطلاً من أبطالها، كان حادَّ الذكاء، وداهية حرب، طلب منه أهل مكة يوم بدر أن يستطلع لهم عدد المسلمين الذين خرجوا مع الرسول ( للقائهم، ويعرف مدى استعدادهم.
    فانطلق هذا الداهية يترقب حول معسكر المسلمين، ثم رجع يقول لقومه: إنهم ثلاثمائة رجل، أو يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً، وكان تقديره صحيحًا، ثم سأله قومه: هل وراءهم مدد أم لا؟ فقال: لم أجد وراءهم شيئًا، ولكنى رأيت قومًا وجوههم كوجوه الحيات، لا يموتون حتى يقتلوا منا أعدادهم، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم.
    والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم، فإذا أصابوا منكم مثل عددهم، فما خير العيش بعد ذلك؛ فانظروا رأيكم. فتأثر عدد من زعماء قريش بكلامه، وكادوا يجمعون رجالهم ويعودون إلى مكة بغير قتال، لولا أن أبا جهل أيقظ في نفوس الكفار نار الحقد، وأشعل نار الحرب، ولما نشبت المعركة
    كان عمير بن وهب أول من رمى بنفسه عن فرسه بين المسلمين، وانتهت
    المعركة بانتصار المسلمين على قريش، وعادت قوات قريش إلى مكة تجر
    خيبتها وراءها.
    وبعد بدر، أقبل عمير بن وهب على ابن عمه صفوان بن أمية وهو جالس في حجر الكعبة، وأخذا يتذكران ما حل بأهل مكة يوم بدر، فقال صفوان: قبح الله العيش بعد قتلى بدر، فقال عمير: صدقت، والله ما في العيش خير بعدهم، ولولا ديْن عليَّ لا أملك قضاءه، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدى؛ لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي عنده علة (سببًا) أعتكُّ بها عليه: أقول: قدمت من أجل ابني هذا الأسير، وكان ابنه وهب قد أسر يوم بدر، ففرح صفوان وقال له: عليَّ دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أواسيهم وأرعاهم.
    فقال عمير لصفوان: اكتم خبري أيامًا حتى أصل إلى المدينة، ثم جهز عمير سيفه وسنَّه، وجعله حادًا، ووضع عليه السم، ثم انطلق حتى وصل إلى المدينة، وربط راحلته عند باب المسجد، وأخذ سيفه، وتوجه إلى رسول الله (، فرآه عمر بن الخطاب، فأسرع إلى رسول الله ( وقال: يا نبي الله، هذا عدو الله عمير بن وهب جاء رافعًا سيفه، لا تأمنه على شيء، فقال ( لعمر: (أدخله عليَّ).
    فخرج عمر، وأمر بعض الصحابة أن يدخلوا إلى رسول الله ( ويحترسوا من عمير، وأمسك عمر بثياب عمير، ودخل به، فقال ( لعمر: (تأخَّر عنه (أي اتركه وابتعد عنه))، وقال لعمير: (اقترب يا عمير)، فاقترب عمير من الرسول (، وقال: انعموا صباحًا (وهى تحية الجاهلية)، فقال له (: (قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة).
    ثم سأله (: (فما جاء بك يا عمير؟) فقال عمير: جئت لهذا الأسير عندكم (يقصد ابنه وهبًا)، تفادونا في أسرانا، فإنكم العشيرة والأهل، فقال النبي (: (فما بال السيف في عنقك؟) قال عمير: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئًا؟! إنما نسيته في عنقي حين نزلت، ثم قال الرسول (: (أصدقني يا عمير، ما الذي جئت له؟) فقال عمير: ما جئت إلا في طلب أسيري.
    فقال الرسول (: (بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في حجر الكعبة، ثم قلت: لولا دين عليَّ وعيال عندي؛ لخرجت حتى أقتل محمدًا، فتحمل لك صفوان ذلك، والله حائل (مانع) بينك وبين ذلك)، فقال عمير: أشهد أنك رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، كنا يا رسول الله نكذبك بالوحي، وبما يأتيك من السماء، وإن هذا الحديث كان بيني وبين صفوان في الحجر، لم يطلع عليه أحد، فأخبرك الله به، فالحمد لله الذي هداني للإسلام، ففرح المسلمون بإسلام عمير فرحًا شديدًَا. فقال الرسول ( لأصحابه: (علموا أخاكم القرآن، وأطلقوا أسيره) [ابن هشام وابن جرير].
    هكذا أسلم عمير بن وهب، وأصبح واحدًا من أولئك الذين أنعم الله عليهم بالهدى والنور، يقول عنه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عندما أسلم: والذي نفسي بيده، لخنزير كان أحب إلي من عمير حين طلع علينا (حين رآه في المدينة وهو قادم على الرسول ( ليقتله)، ولهو اليوم أحب إلي من بعض ولدي.
    وبعد أيام قليلة، ذهب إلى رسول الله ( قائلاً: يا رسول الله، إني كنت جاهدًا على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله، وإني أحب أن تأذن لي فألحق بقريش، فأدعوهم إلى الإسلام، لعل الله أن يهديهم، فأذن له الرسول (.
    وفي الوقت الذي آمن فيه عمير بالمدينة، كان صفوان يقول لقريش: أبشروا بفتح يأتيكم بعد أيام ينسيكم وقعة بدر. وكان صفوان يخرج كل صباح إلى مشارق مكة يسأل القوافل القادمة من المدينة: ألم يحدث بالمدينة أمر؟ هل قتل محمد؟ وظل على هذا النحو حتى قال له رجل قدم من المدينة: لقد أسلم عمير. فغضب صفوان أشد الغضب، وحلف أن لا يكلم عميرًا أبدًا، ولا يعطي له ولا لأولاده شيئًا.
    وعاد عمير بن وهب إلى مكة مسلمًا، وراح يدعو كل من يقابله من أهل مكة إلى الإسلام، فأسلم على يديه عدد كبير، ورأى صفوان بن أمية، فأخذ ينادي عليه، فأعرض عنه صفوان، فسار إليه عمير وهو يقول بأعلى صوته: يا صفوان أنت سيد من سادتنا، أرأيت الذي كنا عليه من عبادة حجر والذبح له؟ أهذا دين؟ اشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله. فلم يردَّ عليه بكلمة.
    وفي يوم فتح مكة، لم ينس عمير صاحبه وابن عمه صفوان بن أمية، فراح يدعوه إلى الإسلام، فشد صفوان رحاله نحو جدة، ليذهب منها إلى اليمن، وصمم عمير أن يسترد صفوان من يد الشيطان بأية وسيلة، وذهب إلى الرسول ( مسرعًا، وقال له: يا نبي الله، إن صفوان بن أمية سيد قومه قد خرج هاربًا منك، ليقذف بنفسه في البحر فأمنه (أي أعطه الأمان)، فقال النبي (: (قد أمنته)، فقال عمير: يا رسول الله، أعطني آية (علامة) يعرف بها أمانك، فأعطاه الرسول ( عمامته التي دخل بها مكة.
    فخرج عمير بها حتى أدرك صفوان وهو يريد أن يركب البحر. فقال: يا صفوان فداك أبي وأمي، الله الله في نفسك أن تهلكها، هذا أمان رسول الله ( قد جئتك به. فقال له صفوان: ويحك، اغرب عني فلا تكلمني، فقال عمير: أي صفوان، فداك أبي وأمي، إن رسول الله ( أفضل الناس، وأبر الناس، وأحلم الناس، عزه عزك، وشرفه شرفك. فقال صفوان: إني أخاف على نفسي، فقال عمير: هو أحلم من ذاك وأكرم.
    فرجع معه وذهبا إلى رسول الله (، فقال صفوان للنبي (: إن هذا يزعم أنك قد أمنتني. فقال الرسول (: (صدق)، فقال صفوان: فاجعلني فيه (أي في الإيمان) بالخيار شهرين. فقال الرسول (: (بل لك تسير أربعة أشهر) [ابن هشام].
    وتحققت أمنية عمير وأسلم صفوان، وسَعِد عمير بإسلامه، وواصل عمير بن وهب مسيرة في نصرة الإسلام، حتى أصبح من أحب الناس إلى رسول الله (، ونال عمير احترام خلفاء الرسول ( وعاش
    عمير بن وهب حتى خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.


    عدو النفاق والمنافقين
    عبد الله بن عبد الله بن أُبي

    إنه عبد الله بن عبد الله بن أُبي بن سلول -رضي الله عنه-، كان من فضلاء الصحابة وخيارهم، شهد بدرًا وأحدًا والغزوات كلها مع رسول الله (، وكان اسمه الحُباب فلما أسلم سماه رسول الله ( عبد الله.
    وأبوه عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، وكان أبوه سيد الخزرج، وكانت قبيلة الخزرج قد اجتمعت على أن يتوجوه ملكًا عليهم قبل بعثة الرسول (، فلما بعث النبي (، وانتشرت أخبار الدين الجديد إلى يثرب، سارع الأنصار إلى الإسلام، وبذلك ضاعت الفرصة من يد ابن سلول، وظل حاقدًا على الرسول ( وعلى الإسلام والمسلمين، وأصبحت داره منذ تلك اللحظة مقرًا للمنافقين واليهود والمشركين، يدبرون فيها المؤامرات ضد الإسلام، ويخططون فيها لقتل النبي (.
    وخلال هذه الأحداث لم يقف عبد الله بن عبد الله مكتوف الأيدي، بل أنكر على أبيه ما يفعله، وحاول مرارًا أن يمنعه عن أفعاله ولكن دون جدوى، وفشلت محاولات عبد الله بن عبد الله في أن يجعل أباه مؤمنًا صادق الإيمان، ولما يئس من أبيه ترك الدار، واتخذ لنفسه دارًا أخرى يعبد الله فيها بعيدًا عن بيت النفاق والحقد والحسد.
    وكان الرسول ( يحب عبد الله بن عبد الله حبًّا شديدًا، ويعرف له إخلاصه وصدق إيمانه، بل ويقربه منه، ويجعله من خاصة أنصاره. وكثرت مؤامرات عبد الله بن أبي رأس المنافقين، وأخذت صورًا كثيرة، والرسول ( يأمر أصحابه بالصبر عليه.
    وفي غزوة بدر حارب عبد الله بن عبد الله في سبيل الله، وأبلى بلاءً حسنًا، وجاءت غزوة أحد تلك الغزوة التي رجع فيها عبد الله بن أبي بن سلول إلى المدينة بثلث جيش المسلمين حتى كاد ابنه عبد الله أن يجن.
    وفي غزوة بني المصطلق، حاول رأس النفاق عبد الله بن أبي أن يوقع بين الأنصار والمهاجرين ثم قال: والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز (أي هو) منها الأذل (يقصد بذلك الرسول وأصحابه). فعلم الرسول ( بما قاله ابن أبى، ورجع إلى المدينة فلقيه أسيد بن حضير، فقال رسول الله ( له: (أما بلغك ما قال صاحبك ابن أبي بن سلول؟ زعم أنه إذا قدم المدينة سيخرج الأعز منها الأذل)، فقال أسيد: فأنت يا رسول الله العزيز وهو الذليل.
    ولما علم عبد الله بن أبي بن سلول أن رسول الله ( قد بلغه ما قاله أسرع إليه ليعتذر له، ويقسم أنه لم يقل هذا، وسرعان ما نزل القرآن بعد ذلك ليكشف عن كذب هذا المنافق، فقال تعالى: {يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن أكثر الناس لا يعلمون1} [المنافقون: 8].
    ثم قام عبد الله بن أبي بن سلول ليركب ناقته ويعود إلى بيته، فأمسك ابنه عبد الله بناقته وأراد أن يقتله، فمنعه المسلمون من ذلك، فقال لهم: والله لا أفارقه حتى يقول لرسول الله هو الأعز، وأنا الأذل.
    ثم ذهب عبد الله إلى رسول الله ( وقال له: يا رسول الله، بلغني أنك تريد قتل أبي، فوالذي بعثك بالحق، لئن شئت أن آتيك برأسه لأتيتك، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري، فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل مؤمنًا بكافر فأدخل النار. فقال رسول الله (: (بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقى معنا) [ابن هشام].
    ثم مات رأس المنافقين، وهدأت نفس عبد الله بن عبد الله، ثم جاء إلى رسول الله ( فسأله أن يعطيه قميصه ليكفن فيه أباه، فأعطاه الرسول ( القميص، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله (، فقال: يا رسول الله، أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ فقال الرسول (: (إنما خيرني الله فقال: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} [التوبة: 80] وسأزيد على سبعين).
    فقال عمر: إنه منافق، فصلى عليه الرسول ( إكرامًا لابنه، فأنزل الله عز وجل: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون} [التوبة: 84]. (متفق عليه).
    واستمر عبد الله مع رسول الله ( في غزواته، طالبًا الشهادة ليسجل في التاريخ صفحة مضيئة بعد ما أنفق معظم ماله في سبيل الله. ولما توفي النبي ( فحزن عبد الله حزنًا شديدًا. وجاءت حروب الردة ليقاتل فيها عبد الله بكل فدائية وإخلاص، ويدخل وسط جيوش الأعداء في معركة اليمامة يضرب يمينًا وشمالاً، فيلتف حوله المشركون، ويضربوه حتى يسقط شهيدًا -رضي الله عنه-.


    أول من صلى تجاه الكعبة
    البراء بن معرور

    إنه البراء بن معرور الخزرجي الأنصاري -رضي الله عنه-، أمه الرباب بنت النعمان، وكنيته أبو بشر، أسلم وهو في المدينة قبل أن يهاجر إليها النبي (، وكان سيد الأنصار وكبيرهم، وأحد الذين بايعوا النبي صلى
    الله عليه وسلم في بيعة العقبة الأولى، وكان نقيبًا لبني سلمة، وأول من أوصى بثلث ماله.
    وخرج البراء يومًا مع نقباء الأنصار إلى مكة، وفي الطريق حان وقت الصلاة، وكانت قبلة المسلمين في ذلك الوقت ناحية بيت المقدس، فقال البراء لمن معه من المسلمين: يا هؤلاء، قد رأيت أن لا أدع هذه البنية (يقصد الكعبة) مني بظهر (وراء ظهري)، وأن أصلي إليها (أي اتجه نحوها). فقال له أصحابه: والله ما بلغنا أن رسول الله ( يصلي إلا إلى الشام (يقصد بيت المقدس)، وما نريد أن نخالفه، فقال البراء: إني لمصلٍّ إلى الكعبة. فقالوا له: ولكنا لا نفعل.
    فكان البراء -رضي الله عنه- إذا حضرت الصلاة يصلي ناحية الكعبة، وباقي أصحابه يتجهون ناحية بيت المقدس، وظلوا على هذه الحال حتى وصلوا مكة، وكانوا يعيبون على البراء صلاته ناحية الكعبة حتى إنه شك فيها، وخاف أن يكون بفعله هذا قد خالف الله ورسوله (.
    ولما وصل الأنصار إلى مكة أسرع البراء إلى رسول الله ( وقال له: يا نبي الله، إني خرجت في سفري هذا، وقد هداني الله للإسلام، فرأيت أن لا أجعل هذه البنية (الكعبة) مني بظهر (وراء ظهري) فصليت إليها، وقد خالفني أصحابي في ذلك، حتى وقع في نفسي شك من ذلك، فماذا ترى يا رسول الله؟ فقال له رسول الله (: (لقد كنت على قبلة لو صبرت عليها)، ثم أمره أن يصلي ناحية بيت المقدس، فاستجاب البراء لأمر الرسول (. [أحمد].
    ثم عاد البراء إلى المدينة، وهناك مرض مرض الموت، فقال لأهله قبل أن يموت: استقبلوا بي ناحية الكعبة، فلما فارق الحياة وضعوه نحو الكعبة، فكان بذلك أول من استقبل الكعبة بوجهه حيًّا وميتًا حتى جاء أمر الله بتغيير القبلة إلى الكعبة.
    ومات البراء بن معرور -رضي الله عنه- في شهر صفر قبل قدوم النبي ( بشهر، فلما قدم النبي ( المدينة أتى قبره ومعه أصحابه فكبر وصلى عليه.


    خطيب الأنصار
    ثابت بن قيس

    إنه ثابت بن قيس -رضي الله عنه-، خطيب الأنصار، وخطيب رسول الله (. فعندما قدم النبي ( المدينة، قام ثابت خطيبًا، وقال: نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأولادنا، فما لنا؟ قال: (الجنة). قالوا: رضينا. [الحاكم].
    ولما قدم وفد تميم، وافتخر خطيبهم بأمور، قال النبي ( لثابت: (قم، فأجب خطيبهم) فقام، فحمد الله وأبلغ، وسرَّ رسول الله ( والمسلمون بمقامه. [ابن هشام].
    وكان ثابت جهوري الصوت، فلما نزل قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} [الحجرات: 2]. جلس في بيته يبكي، وقال: أنا من أهل النار، فافتقده النبي (، فأرسل من يأتيه بخبره، فذهب إليه رجل وعلم منه الأمر، ثم رجع إلى النبي ( وأخبره، فقال (: (اذهب إليه، فقل له: إنك لست من أهل النار، ولكن من أهل الجنة) _[متفق عليه].
    ولما نزل قوله تعالى: {إن الله لا يحب كل مختال فخور} [لقمان: 88] أغلق ثابت داره على نفسه وجلس يبكي، وغاب عن النبي ( مدة، فعلم ( بأمره فدعاه إليه وسأله، فقال ثابت: يا رسول الله إني أحب الثوب الجميل والنعل الجميل، وقد خشيت أن أكون بهذا من المختالين، فقال (: (يا ثابت، أما ترضى أن تعيش حميدًا، وتقتل شهيدًا، وتدخل الجنة) [الحاكم].
    وفي معركة اليمامة، كان ثابت يلبس ثوبين أبيضين، وعندما رأى المسلمين قد تأثروا بهجوم جيش مسيلمة، صاح فيهم قائلاً: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله (، بئس ما عودتم أقرانكم، وبئس ما عودتم أنفسكم، اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء (المشركين)، وأعتذر من صنيع هؤلاء (المسلمين)، ثم أخذ يقاتل هو وسالم مولى أبي حذيفة حتى قتل. [البخاري].
    وبعد أن استشهد مرَّ به رجل من المسلمين، فأخذ درعه الثمينة، فبينما رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه، فقال له: إني أوصيك بوصية فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه، ثم قص عليه الأمر، ثم قال له: فأت خالدًا -وكان قائدًا للجيش-، فمره فليبعث من يأخذها، فإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله ( فقل له: إن علي من الدين كذا وكذا، فليقم بسداده.
    فلما استيقظ الرجل أخبر خالدًا، فأرسل خالد من يأتي بالدرع فوجدها، ولما رجع المسلمون إلى المدينة قص الرجل رؤياه على أبي بكر، فأنجز وصية ثابت، ولا نعلم أحدًا أجيزت وصيته بعد موته سوى ثابت بن قيس. [الحاكم والهيثمي].


    الكريم بن الكريم
    قيس بن سعد

    إنه قيس بن سعد بن عبادة -رضي الله عنه-، الذي نشأ في بيت كريم صالح من أكرم بيوت العرب وأعرقها نسبًا، فأبوه هو الصحابي الجليل سعد بن عبادة سيد الخزرج، وقد تربى قيس منذ الصغر على الشجاعة والكرم، حتى صار يضرب به المثل في جوده وكرمه.
    وذات مرة جاءت امرأة عجوز تشكو فقرها إلى قيس، فقال لخدمه: املئوا بيتها خبزًا وسمنًا وتمرًا. [ابن عساكر]، وكان قيس يطعم الناس في أسفاره مع النبي (، وكان إذا نفد (انتهى) ما معه يستدين وينادي في كل يوم: هلموا إلى اللحم والثريد. [ابن عساكر].
    باع تجارة بتسعين ألفا، ثم أمر من ينادي بالمدينة: من أراد القرض فليأت، فجاء إليه أناس كثيرون، أقرضهم أربعين ألفًا وتصدق بالباقي، وذات يوم أصابه مرض فقل عواده وزواره، فسأل زوجته: لم قل عوادي؟ فأجابت: لأنهم يستحيون من أجل دينك فأمر مناديًا ينادي: من كان عليه دين فهو له، فأتى الناس يزورونه حتى هدموا درجة كانوا يصعدون عليها إليه.
    وكان -رضي الله عنه- يقول: اللهم ارزقني مالاً وفعالاً (كرمًا) فإنه لا يصلح الفعال إلا بالمال. [ابن عساكر].
    وجاءه كثير بن الصلت فطلب منه ثلاثين ألفًا على سبيل القرض، فأعطاه إياها، ولما ردها إليه رفض قيس أن يقبلها، وقال: إنا لا نعود في شيء أعطيناه.
    واشترك قيس مع ثلاثمائة صحابي في غزوة سيف البحر بقيادة
    أبي عبيدة بن الجراح، فأصابهم فيها جوع شديد، وفنى ما معهم من زاد، فقام قيس فذبح ثلاثة جمال له، وبعد مدة ذبح ثلاثة أخرى، ثم ذبح لهم ثلاثة أخرى، حتى نهاه أبو عبيدة عن ذلك حين رزق الله الجيش بحوت كبير ظلوا يأكلون منه ثمانية عشر يومًا، وعندما عادوا للنبي ( وذكروا له ذلك، قال عن قيس: (أما إنه في بيت جود) [ابن عساكر].
    وتحدث أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- عن كرم قيس وسخائه، فقالا: لو تركنا هذا الفتى لسخائه لأهلك (قضى على) مال أبيه، فلما سمع سعد ذلك قام عند النبي ( فقال: من يعذرني من ابن أبي قحافة (أبي بكر) وابن الخطاب، يُبَخِّلان عليَّ ابني. وكان قيس يتمتع بالذكاء وحسن التدبير وسلامة التفكير.
    وكان قيس ملازمًا للنبي ( حتى قال عنه أنس: كان
    قيس بن سعد بن عبادة من النبي ( بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير. [البخاري والترمذي].
    وقد عرف بشجاعته وبسالته وإقدامه، فكان حاملا للواء الأنصار مع رسول الله (، وشهد مع الرسول الغزوات، وأخذ النبي ( الراية يوم فتح مكة من أبيه سعد وأعطاها لابنه قيس؛ حيث كان بطلاً قويًّا وفارسًا مقدامًا ومجاهدًا عظيمًا.
    وجاهد قيس مع الخلفاء الراشدين، ووقف مع الإمام علي بن أبي طالب في معركة صفين والجمل والنهروان، ورأى أن الحق في جانبه، وقد ولاه الإمام علي -رضي الله عنه- حكم مصر، ثم استدعاه منها وجعله على قيادة جيشه، ولما استشهد الإمام علي بايع ابنه الحسن -رضي الله عنه- وقاد خمسة آلاف رجل لحرب معاوية، لكن الحسن آثر أن يحقن دماء المسلمين فتفاوض مع معاوية وبايعه على الخلافة، وتنازل عنها، فرجع قيس إلى المدينة، وجمع قومه وخطب فيهم وقال:
    إن شئتم جالدت بكم حتى يموت الأعجل منا، وإن شئتم أخذت لكم أمانًا، فاختار جنوده الأمان وقالوا: خذ لنا أمانًا. فأخذ لهم الأمان من معاوية.
    [ابن عساكر].
    وقد كان قيس بن سعد -رضي الله عنه- معروفًا بالذكاء والدهاء، وكان يقول عن نفسه: لولا أني سمعت رسول الله ( يقول: المكر والخديعة في النار لكنت من أمر هذه الأمة.
    وروى قيس كثيرًا من أحاديث رسول الله ( وروى عنه جماعة من الصحابة والتابعين. وعاش قيس في المدينة، حتى توفي -رحمه الله- في آخر خلافة معاوية.



    الملك العادل
    النجاشي

    إنه النجاشي حاكم الحبشة وملكها، واسمه أصحمة -رضي الله عنه- وللنجاشي قصة عجيبة، ففي إحدى الليالي قام بعض المتآمرين بقتل والده ملك الحبشة، واستولوا على عرشه، وجعلوا على الحبشة ملكًا آخر، لكنهم لم يهنأوا بفعلتهم، فقد ظل ابن الملك المقتول يؤرقهم، فخافوا أن ينتقم منهم عندما يكبر، فقرروا أن يبيعوه في سوق العبيد، وبالفعل نفذوا مؤامرتهم، وباعوا ذلك الغلام لأحد تجار الرقيق.
    وفي إحدى الليالي خرج الملك الغاصب فأصابته صاعقة من السماء فوقع قتيلاً، فسادت الفوضى في بلاد الحبشة وبحثوا عمن يحكمها، وأخيرًا هداهم تفكيرهم إلى أن يعيدوا ابن الملك الذي باعوه في سوق الرقيق لأنه أحق الناس بالملك، وبعد بحث طويل وجدوه عند أحد التجار، فقالوا له: رد إلينا غلامنا ونعطيك مالك. فرده إليهم.
    فقاموا على الفور بإعادته وأجلسوه على العرش، وألبسوه تاج الملك، لكنهم أخلفوا عهدهم مع التاجر ولم يعطوه ماله، فقال التاجر إذن أدخل إلى الملك، وبالفعل دخل إليه وأخبره بما كان، فقال لهم الملك الجديد: إما أن تعطوا التاجر حقه، وإما أن أرجع إليه، فسارعوا بأداء المال للتاجر. [ابن هشام].
    وبعد سنوات من حكمه، انتشر عدله، وذهبت سيرته الطيبة إلى كل مكان، وسمع بذلك المسلمون في مكة، فهاجروا إليه فرارًا بدينهم من أذى المشركين واضطهادهم، لكن الكفار لم يتركوهم يهنئون في دار العدل والأمان، فأرسلوا إلى النجاشي عمرو بن العاص، وهو داهية العرب، وعبد الله بن أبي ربيعة بالهدايا العظيمة حتى يسلمهما المسلمين الذين جاءوا يحتمون به، ودخل عمرو، وعبد الله، وقدَّما الهدايا إلى النجاشي، وطلبا منه أن يسلمهما المسلمين، فرفض النجاشي ذلك إلا بعد أن يسمع الطرف الآخر.
    فبعث إلى المسلمين رسولا يطلب منهم الحضور، لمقابلة النجاشي، فوقفوا أمامه، وكان جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- ابن عم الرسول ( أميرهم والمتحدث عنهم، فسأله النجاشي: ما الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في دينى، ولا في دين أحد من الأمم؟ فرد عليه جعفر قائلاً: أيها الملك إنا كنا قومًا أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ويأكل القوي منا الضعيف، وكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته، فدعانا إلى الله نعبده ونوحده، ونقيم الصلاة، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وحسن الجوار (وعدد أمور الإسلام) فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه، فبغى علينا قومنا، وعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأصنام، فلما قهرونا خرجنا إليك، واخترناك على من سواك، ورجونا ألا نظلم عندك.
    فقال له النجاشي: هل معك شيء مما جاء به رسولكم عن الله قال: نعم. قال: فاقرأ عليَّ. فقرأ جعفر -رضي الله عنه- من أول سورة مريم، فبكى النجاشي عندما سمع القرآن حتى بلَّ لحيته، وبكى الحاضرون من الأساقفة النصارى (رجال الدين المسيحيين)، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة . [أحمد وابن هشام].
    ثم اتجه النجاشي إلى عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، فقال لهما: انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكما أبدًا ولا أكاد، ثم رد عليهما الهدايا. وعاش المؤمنون في أمان على أرض الحبشة وحفظ لهم النجاشي حقهم. وأسلم النجاشي وشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
    ولقد وكله النبي ( في أمر زواجه بالسيدة أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان بن حرب -رضي الله عنها-، وكانت قبل ذلك زوجة لعبيد الله بن جحش، لكنه ضل ودخل في النصرانية، ومات على شركه، فأرسل النجاشي إلى أم حبيبة بعد انقضاء عدتها بأن الرسول ( يطلبها للزواج، فسعدت أم حبيبة ووكَّلت قريبًا لها هو الصحابي خالد بن سعيد ليكون وليها في الزواج._[ابن سعد].
    وقام النجاشي بأداء المهر عن رسول الله ( وكان أربعمائة دينار، ولما هاجر الرسول إلى المدينة، وظهر دين الله، قال جعفر بن أبي طالب للنجاشي: إن صاحبنا (يقصد النبي () قد خرج إلى المدينة، وانتصر على المشركين، وقد أردنا الرحيل إليه فزودنا، فقال النجاشي: نعم، فأعطاهم ما يكفيهم في سفرهم ويزيد، ثم قال لجعفر: أخبر صاحبك بما صنعت إليكم، وهذا رسولي معك وأنا أشهد ألا إله إلا الله وأنه رسول الله، فقل له: يستغفر لي، ولولا ما أنا عليه من الملك لأتيت إليه، وقبلت قدمه.
    وجاء وفد المؤمنين إلى المدينة، ففرح بهم الرسول ( وسمع من جعفر، ثم قام وتوضأ ودعا ثلاث مرات: (اللهم اغفر للنجاشي)، فيقول المسلمون آمين، ثم قال جعفر لرسول النجاشي: انطلق فأخبر صاحبك بما رأيت. [الطبراني].
    ولما مات النجاشي قال الرسول ( لأصحابه: (إن أخاكم قد مات بأرض الحبشة)، فخرج بهم إلى الصحراء وصفهم صفوفًا ثم صلى عليه صلاة الغائب. [متفق عليه]، وكان ذلك في شهر رجب (9هـ).


    أول شهداء الأنصار
    عمير بن الحمام

    إنه الصحابي الكريم عمير بن الحمام الأنصاري -رضي الله عنه-، وقد شهد عمير غزوة بدر الكبرى مع الرسول (. وفي بداية المعركة وقف الرسول ( خطيبًا في الناس يحثهم على الجهاد، ويحرضهم عليه وعلى بذل النفس في سبيل الله، فقال: (لا يتقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه). فلما اقترب المشركون، قال (: (قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض).
    فقال عمير -رضي الله عنه-: يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟
    فقال الرسول (: (نعم). فقال عمير: بخٍ بخ.
    فقال الرسول (: (ما يحملك على قولك بخٍ بخٍ؟) فقال عمير: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها.
    فقال له الرسول (: (فإنك من أهلها).
    فأخرج عمير من جعبة سهامه بعض التمرات، وأخذ يأكل، ثم قال لنفسه: لئن أنا حييت (عشت) حتى آكل تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة، فقام ورمى ما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل. [مسلم]. فكان عمير -رضي الله عنه- بذلك أول شهيد للأنصار قتل في سبيل الله.


    الصادق
    عمير بن سعد

    إنه عمير بن سعد بن عبيد الأنصاري -رضي الله عنه-، الذي بايع الرسول ( وهو ما زال غلامًا، وأبوه هو الصحابي الجليل سعد القارئ
    -رضي الله عنه-.
    ومنذ أسلم عمير وهو عابد لله سبحانه، تجده في الصف الأول في الصلاة والجهاد، وما عدا ذلك فهو معتكف في بيته، لا يسمع عنه أحد، ولا يراه الناس إلا قليلاً، اشتهر بالزهد والورع، كان صافي النفس، هادئ الطبع، حسن الصفات، مشرق الطلعة، يحبه الصحابة ويأنسون بالجلوس معه.
    وذات يوم، سمع عمير زوج أمه الجلاس بن سويد -وكان له كالأب ينفق عليه- وهو يقول: إن كان محمد حقًّا لنحن شر من الحمير. فغضب الغلام غضبًا شديدًا، وامتلأ قلبه غيظًا وحيرة ، ثم قال لجلاس: والله يا جلاس إنك لمن أحب الناس إليَّ وأحسنهم عندي يدًا، وأعزهم عليَّ أن يصيبه شيء يكرهه، ولقد قلت الآن مقالة لو أذعتها عنك لآذتك، ولو صَمَتُّ عليها ليهلكن ديني، وإن حقَّ الدين لأولى بالوفاء، وإني مُبْلغٌ رسول الله ( ما قلت.
    فقال الجلاس له: اكتمها عليَّ يا بني، فقال الغلام: لا والله. ومضى إلى رسول الله ( وهو يقول: لأبلِّغنَّ رسول الله ( قبل أن ينزل الوحي يُشْرِكني في إثمك.
    فلما وصل الغلام إلى رسول الله ( أخبره بما قاله جلاس، فأرسل الرسول ( في طلب الجلاس، فلما جاء الجلاس ذكر له الرسول ( ما قاله الغلام، فأنكر وحلف بالله أنه ما قال ذلك.
    فأنزل الله قرآنًا يؤكد صدق الغلام، ويفضح الجلاس ويحفظ للغلام مكانته عند الرسول (، فقال تعالى: {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرًا لهم وإن يتولوا يعذبهم عذابًا أليمًا في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير} [التوبة: 74].
    فاعترف الجلاس بما قاله الغلام، واعتذر عن خطيئته، وتاب إلى الله، وحسن إسلامه، وما سمع الغلام من الجلاس شيئًا يكرهه بعدها، ثم أخذ النبي ( أذن الغلام، وقال: (وفَتْ أُذُنُك يا غلام، وصدَّقَك ربك)
    [عبد الرزاق].
    ويواصل عمير حياته على هذه الحال حتى تأتي خلافة الفاروق عمر بن الخطاب
    -رضي الله عنه-، ويبدأ في اختيار ولاته وأمرائه، وفق دستوره الذي أعلنه في عبارته الشهيرة: أريد رجلاً إذا كان في القوم، وليس أميرًا عليهم بدا (ظهر) وكأنه أميرهم، وإذا كان فيهم وهو عليهم أمير، بدا وكأنه واحد منهم، أريد واليًا لا يميز نفسه على الناس في ملبس، ولا في مطعم، ولا في مسكن .. يقيم فيهم الصلاة، ويقسم بينهم بالحق، ويحكم فيهم بالعدل، ولا يغلق بابه دون حوائجهم. وعلى هذا الأساس اختار عمر بن الخطاب عميرًا ليكون واليًا على حمص، وحاول عمير أن يعتذر عن هذه الولاية، لكن عمر بن الخطاب ألزمه بها.
    وذهب عمير إلى حمص، وبقى فيها عامًا كاملا دون أن يرسل إلى أمير المؤمنين بالمدينة، بل لم يصل إلى أمير المؤمنين منه أية رسالة، فأرسل إليه عمر -رضي الله عنه- ليأتي إليه، وجاء عمير وشاهده الناس، وهو يدخل المدينة وعليه آثار السفر، وهو يحمل على كتفيه جرابًا وقصعة (وعاء للطعام) وقربة ماء صغيرة، ويمشي في بطء شديد من التعب والجهد.
    ولما وصل إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قال له: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فرد عمر السلام ثم قال له: ما شأنك يا عمير؟ فقال عمير: شأني ما ترى، ألست تراني صحيح البدن، طاهر الدم، معي الدنيا (يقصد أنه يملك الدنيا كلها)؟ فقال عمر: وما معك؟ قال عمير: معي جرابي أحمل فيه زادي، وقَصْعَتي آكل فيها وأغسل فيها رأسي، وإداوتي أحمل فيها وضوئي وشرابي، وعصاي أتوكأ عليها، وأجاهد بها عدوًا إن عَرَض (ظهر)، فوالله ما الدنيا إلا تَبعٌ لمتاعي. فقال عمر: أجئت ماشيًا؟ قال عمير: نعم.
    فقال عمر: أَوَلَمْ تَجدْ من يعطيك دابة تركبها؟ قال عمير: إنهم لم يفعلوا، وإني لم أسألهم. فقال عمر: فماذا عملت فيما عهدنا إليك به؟ قال عمير: أتيت البلد الذي بعثتني إليه، فجمعت صُلَحَاء أهله، ووليتُهم جَبايَة فيئهم (جمع صدقاتهم) وأموالهم، حتى إذا جمعوها وضعتها، ولو بقى لك منها شيء لأتيتك به، فقال عمر: فما جئتنا بشيء ؟ قال عمير: لا. فصاح عمر وهو فخور سعيد: جدِّدوا لعمير عهدًا، ولكن عميرًا رفض وقال في استغناء عظيم: تلك أيام خَلَتْ، لا عَمِلتُ لك، ولا لأحد بعدك.
    فأي صنف من الرجال كان عمير بن سعد؟ لقد كان الصحابة على صواب حين وصفوه بأنه نسيج وحده (أي شخصيته متميزة فريدة من نوعها)، وكان عمر محقًّا أيضًا حينما قال: وددت لو أن لي رجالاً مثل عمير بن سعد أستعين بهم على أعمال المسلمين.
    لقد عرف عمير مسئولية الإمارة، ورسم لنفسه وهو أمير حمص واجبات الحاكم المسلم وها هو ذا يخطب في أهل حمص قائلاً: ألا إن الإسلام حائط منيع، وباب وثيق، فحائط الإسلام العدل، وبابه الحق، فإذا نُقِضَ (هُدِمَ) الحائط، وخطم الباب، استفتح الإسلام، ولا يزال الإسلام منيعًا ما اشتد السلطان، وليست شدة السلطان قتلاً بالسيف، ولا ضربًا بالسوط، ولكن قضاءً بالحق، وأخذًا بالعدل. وظل عمير بن سعد رضي الله عنهما مقيمًا بالشام حتى مات بها في خلافة عمر، وقيل في خلافة عثمان.


    خير الرجالين
    سلمة بن الأكوع

    إنه الصحابي الجليل سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه-، الذي يقول: رأيت الذئب قد أخذ ظبيًا، فطلبته حتى نزعته منه. فقال الذئب: ويحك! مالي ولك؟ عمدت إلى رزق رزقنيه الله، ليس من مالك فتنـزعه مني! فتعجب سلمة، وصاح: أيا عباد الله، ذئب يتكلم إن هذا لعجب. فقال الذئب: أعجب من هذا أن النبي ( في أصول النخل يدعوكم إلى عبادة الله، وتأبون إلا عبادة الأوثان. فقال
    سلمة: فلحقت برسول الله ( فأسلمت. [ابن عبد البر].
    وكان سلمة -رضي الله عنه- من أصحاب بيعة الرضوان الذين بايعوا رسول الله ( على الموت يوم الحديبية، وشارك مع الرسول ( في غزواته، يقول سلمة: غزوت مع رسول الله ( سبع غزوات، وخرجت فيما بعث من البعوث سبع غزوات. [متفق عليه]، وقال عنه ابنه إياس: ما كذب أبي قط.
    وكان من أمهر رماة السهام، شجاعًا، فقد خرج مع رباح غلام النبي ( بالإبل لتشرب، فهجم عليهم عيينة بن حصن وبعض المشركين، فقتلوا راعي الإبل، وأخذوا يطاردون الإبل أمامهم ليأخذوها، فلما رآهم سلمة قال لرباح: يا رباح اركب على هذا الفرس، وأعطه لطلحة بن عبيد الله فإنه فرسه، وأخبر رسول الله ( أن المشركين هجموا على الإبل، وسوف أقاتلهم حتى تأتوا إليَّ.
    ثم صعد أعلى جبل، وأخذ ينادي بأعلى صوته: يا صباحاه، ثلاث مرات، فسمع المشركون الصوت، وتوجهوا نحوه، وهم لا يرونه، فأخذ يرميهم بالنبال والسهام، ثم أظهر لهم نفسه وأخذ يقول: أنا ابن الأكوع، واليوم يوم الرضع (هلاك اللئام). فانشغل المشركون به، وتركوا الإبل، وإذ بالمقداد بن الأسود، والأخرم الأسدي
    وأبو قتادة قد أقبلوا على فرسانهم، فظن المشركون أنهم جيش المسلمين كله، فتصدى سلمة والأخرم للمشركين، وتبع أبو قتادة الفارين منهم، ووصل إليهم الرسول ( ومعه خمسمائة مائة فارس، فلما علم بما فعله سلمة وأبو قتادة قال: ( كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا (أي مشاتنا) سلمة [مسلم].
    ولما أحس سلمة أن أبواب الفتنة قد ظهرت بعد قتل عثمان رحل إلى الربذة، وتزوج بها، وولد له فيها، وكان يقول: كنا إذا رأينا الرجل يلعن أخاه رأينا أنه قد أتى بابًا من أبواب الكبائر.
    وفي أواخر أيامه حنَّ إلى المدينة فسافر إليها زائرًا، فبقى فيها ليالي حتى مات بها، وكان ذلك في سنة (74)هـ، ودفن بها.


    صاحب العصا المضيئة
    عباد بن بشر

    إنه عباد بن بشر -رضي الله عنه-، أحد الأنصار الذي أسلموا على يد
    مصعب بن عمير -رضي الله عنه- قبل هجرة الرسول ( إلى المدينة، وشهد عباد مع الرسول ( الغزوات كلها وأبلى فيها بلاء حسنا، وهو من الذين قتلوا اليهودي كعب بن الأشرف الذي كان يؤذي النبي ( ويضايقه ويحرض قومه على أذاه، فخلصوا الإسلام من شروره.
    وقالت السيدة عائشة -رضي الله عنها- عن عباد: ثلاثة من الأنصار لم يكن أحد يعتد عليهم فضلاً كلهم من بني عبد الأشهل؛ أسيد بن حضير وسعد بن معاذ
    وعباد بن بشر. [ابن إسحاق والحاكم].
    وكانت عصاه تضيء له إذا خرج من عند رسول الله ( إلى بيته ليلاً، ودعا له النبي ( قائلاً: (اللهم اغفر له) [البخاري].
    وعرف عباد بشجاعته وفروسيته وقوته في الحرب، وقد أظهر مواقف بطولية كثيرة تدل على حبه للجهاد ورغبته في الشهادة في سبيل الله، ويحكى أنه بعد غزوة ذات الرقاع نزل رسول الله ( وصحابته في مكان يبيتون فيه، واختار الرسول ( نفرًا للحراسة ومنهم عمار بن ياسر وعباد بن بشر، وبينما هما يحرسان قال عباد لعمار: أي الليل تحب أن تحرس، أوله أم آخره؟
    فقال عمار: بل آخره، فنام عمار، ووقف عباد يصلي بجواره، فجاء رجل من العدو فرأى عبادًا يصلي؛ فأخرج سهما ثم رمى به عبادا، فأصابه في جسده، فنزعه عباد، وظل واقفا يصلي فرماه الرجل بسهم ثان، فنزعه عباد -أيضًا-، وظل يصلي فرماه الرجل بسهم آخر فنزعه عباد، وواصل صلاته حتى أتمها، ثم أيقظ عمارا فهرب الرجل.
    ونظر عمار إلى عباد فوجد دماءه تسيل، فقال له: سبحان الله: أفلا أيقظتني أول ما رماك؟ فقال عباد: كنت أقرأ سورة الكهف في صلاتي، فلم أحب أن أقطعها حتى أنتهي منها، فلما تابع عليَّ الرمي ركعت فآذنتك، وأيم الله لولا أن أضيع ثغرًا (أترك مكانًا) أمرني رسول الله ( بحفظه لآثرت الموت على أن أقطع تلك الآيات التي كنت أتلوها.
    وظل عباد بن بشر -رضي الله عنه- يجاهد ويغزو في سبيل الله ونصرة دينه حتى جاءت معركة اليمامة في عهد أبى بكر الصديق -رضي الله عنه-، فخرج مع المسلمين لمحاربة المرتدين وقتال مسيلمة الكذاب ومن معه.
    ويحكى أن عبادًا نام في الطريق بعض الوقت ثم استيقظ فرحًا مستبشرًا لأنه رأى في منامه رؤيا لم تلبث أن تحققت مع طلوع الشمس على أرض المعركة، وحكى عباد تلك الرؤيا لأبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، فقال له: لقد رأيت في منامي كأن السماء قد فرجت (فتحت) لي، ثم دخلت فيها ثم أطبقت عليّ، فهي إن شاء الله الشهادة، فقال له أبو سعيد: خيرًا والله رأيت.
    وبدأت معركة اليمامة واشتد القتال، وكاد المسلمون أن ينهزموا فصاح عباد بأعلى صوته في الأنصار قائلاً: حطموا جفون السيوف (أي: كسروا أغمادها حتى لا تعود إليها مرة ثانية)، وتميزوا من الناس (أي: ابعدوا عن الناس حتى تظهر بطولتكم فيكون ذلك حافزًا على القتال)، وأخلصونا أخلصونا (أي أخلصوا في الحرب والقتال).
    ثم انطلق أربعمائة رجل من الأنصار، وكان في مقدمتهم عباد بن بشر
    والبراء بن مالك، وهجموا على باب الحديقة التي كان يختفي فيها مسيلمة وبعض أنصاره.
    وتذكر عباد قول النبي (: الأنصار شعار، والناس دثار.[مسلم] (بمعنى أنهم بطانة النبي (، وخاصته دون سائر الناس)، فقاتل عباد بشجاعة حتى رزقه الله -عز وجل- الشهادة في تلك المعركة، وكان ذلك في العام الثاني عشر من الهجرة.
    وقد وجد في جسده جراحات كثيرة حتى أن الصحابة لم يعرفوه، ولم يعرفه إلا صديقه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- بعلامة فيه كان يعرفها، وحينئذ كان عباد قد بلغ من العمر خمسًا وأربعين سنة، فرضى الله عنك ورحمك يا عباد.


    ظليل الملائكة
    عبد الله بن عمرو بن حرام

    إنه عبد الله بن عمرو بن حرام -رضي الله عنه-، أحد الأنصار السبعين الذين بايعوا الرسول ( يوم بيعة العقبة الثانية، واختاره النبي ( نقيبًا على قومه بني سلمة، وكان ملازمًا لرسول الله ( في المدينة واضعًا نفسه وماله وأهله في خدمة الإسلام.
    وشهد عبد الله بدرًا، وقاتل يومها قتال الأبطال، وفي غزوة أحد أحس عبد الله أنه
    لن يعود من هذه الغزوة، وكان بذلك فرحًا مستبشرًا، فنادى ابنه جابر بن عبد الله
    -رضي الله عنه-، وقال له: إني لا أراني إلا مقتولاً في هذه الغزوة، بل لعلي سأكون أول شهدائها من المسلمين، وإني والله لا أدع (أترك) أحدًا بعدي أحب إليَّ منك بعد رسول الله (، وإن علي دينًا، فاقض عني ديني، واستوص بإخوتك خيرًا.
    ثم قاتل -رضي الله عنه- قتال المجاهدين حتى سقط شهيدًا على أرض المعركة. وبعد انتهاء القتال، أخذ المسلمون يبحثون عن شهدائهم، وذهب جابر بن عبد الله يبحث عن أبيه، فوجده بين الشهداء، وقد مثل به المشركون كما مثلوا بغيره من شهداء المسلمين.
    ووقف جابر وبعض أهله يبكون على شهيدهم، فمرَّ بهم رسول الله (، فسمع صوت أخته تبكي، فقال لها: (تبكيه أو لا تبكيه، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه [متفق عليه].
    يقول جابر: لقيني رسول الله (، فقال: "يا جابر، مالي أراك منكرًا مهتمًّا؟" قلت: يا رسول الله، استشهد أبي، وترك عيالاً وعليه دين، فقال الرسول (: "ألا أخبرك أن الله كلم أباك كفاحًا (أي مواجهة ليس بينهما حجاب)، فقال: يا عبدي سلني أعطك، فقال، أسألك أن تردني إلى الدنيا فأقتل
    فيك ثانيًا، فقال الله له: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون، فقال عبد الله:
    يا رب، أبلغ من ورائي، فأنزل الله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله
    أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون. فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون
    بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون}
    [آل عمران: 196-197]._[الترمذي وابن ماجه].
    وبعد مرور ست وأربعين سنة على دفنه، نزل سيل شديد غطى أرض القبور، فسارع المسلمون إلى نقل جثث الشهداء، وكان جابر لا يزال حيًّا، فذهب مع أهله لينقل رفات أبيه عبد الله بن عمرو ورفات زوج عمته عمرو بن الجموح، فوجدهما في قبرهما نائمين كأنهما ماتا بالأمس لم يتغيرا.


    الآمن التائب
    صفوان بن أمية

    إنه صفوان بن أمية -رضي الله عنه-، أحد فصحاء العرب، وواحد من أشراف قريش في الجاهلية، قُتل أبوه أمية بن خلف يوم بدر كافرًا، وقُتل عمه أبي بن خلف يوم أحد كافرًا بعد أن صرعه النبي (، وكان صفوان واحدًا من المشهورين في إطعام الناس في قريش حتى قيل: إنه لم يجتمع لقوم أن يكون منهم مطعمون خمسة إلا لعمرو بن عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف.
    وكان صفوان من أشد الناس عداوة وكرهًا للنبي ( وأصحابه قبل أن يدخل في الإسلام، أسلمت زوجته ناجية بنت الوليد بن المغيرة يوم فتح مكة، وظل هو على كفره وعداوته للإسلام حتى منَّ الله عليه بالإسلام، فأسلم وحست إسلامه.
    وقد جلس صفوان يوماً في حجر الكعبة بعد غزوة بدر، وأخذ يتحدث مع
    عمير بن وهب عما حدث لقريش في بدر، ورأى صفوان أن صديقه عميرًا يريد الذهاب لقتل الرسول ( ولكنه لا يملك، فساعده في تحقيق ذلك. وذهب عمير إلى المدينة مصممًا على قتل محمد (، ولكن شاء الله أن يسلم عمير، وخاب ظن صفوان.
    وجاء فتح مكة، فهرب صفوان في شعب من شعاب مكة، فعلم بذلك
    عمير بن وهب الذي ظل محافظًا على صداقته لصفوان، فذهب إلى النبي ( وقال: يا رسول الله، إن صفوان بن أمية سيد قومه، خرج هاربًا ليقذف نفسه في البحر؛ خوفًا منك فأمنه (أي أعطيه الأمان) فداك أبي وأمي، فقال الرسول (: (قد أمِّنته)، فخرج عمير من عند رسول الله ( مسرعًا إلى الشعب الذي اختبأ فيه صفوان.
    فلما رآه صفوان قال له: يا عمير ما كفاك ما صنعت بي، قضيت عنك دينك، وراعيت عيالك على أن تقتل محمدًا فما فعلت، ثم تريد قتلي الآن، فقال عمير:
    يا أبا وهب، جعلت فداك، جئتك من عند أبر الناس، وأوصل الناس، قد أمّنك رسول الله (، فقال صفوان: لا أرجع معك حتى تأتيني بعلامة أعرفها، فرجع عمير إلى النبي (، وقال له ما يريده صفوان، فأعطاه الرسول ( عمامته، فأخذها عمير وخرج إلى صفوان، وقال له: هذه عمامة رسول الله يا صفوان، فعرفها صفوان، وعلم أن النبي ( قد أمّنه. ثم قال له عمير: إن رسول الله ( يدعوك أن تدخل في الإسلام، فإن لم ترض؛ تركك شهرين أنت فيهما آمن على نفسك لا يتعرض لك أحد.
    وخرج صفوان مع عمير حتى وصلا إلى المسجد، وإذا برسول الله ( وصحابته يصلون العصر، فوقف صفوان بفرسه بجانبهم، وقال لعمير: كم يصلون في اليوم والليلة؟، فقال عمير: خمس صلوات، فقال صفوان: يصلى بهم محمد؟ قال عمير: نعم.
    وبعد أن انتهت الصلاة وقف صفوان أمام الرسول ( وناداه في جماعة من الناس، وقال: يا محمد، إن عمير بن وهب جاءني ببردك، وزعم أنك دعوتني إلى القدوم عليك فإن رضيت أمرًا، وإلا سيرتني شهرين، فقال له رسول الله (: (أنزل أبا وهب)، فقال صفوان: لا والله حتى تبين لي، قال:
    (انزل، بل لك تسير أربعة أشهر)، فنزل صفوان، وأخذ يروح ويعود بين المسلمين وهو مشرك. [ابن عساكر].
    ويوم حنين، طلب منه الرسول ( أن يعيره سلاحًا، فقال له صفوان: طوعًا أم كرهًا يا محمد؟ فقال له النبي (: (بل طوعًا، عارية مضمونة أردها إليك)، فأعاره صفوان مائة درع وسيف، وأخذها المسلمون وخرجوا إلى الحرب وهو معهم. [أحمد]، فانتصروا وجمعوا من الغنائم الكثير، وأخذ صفوان يطيل النظر في بعض الغنائم كأنها أعجبته، وكان النبي ( يلاحظ ما في عينيه، فقال له النبي (: (يعجبك هذا؟) قال: نعم. قال: (هو لك)، فقال: ما طابت نفس أحد بمثل هذا، إلا نفس نبي! أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله. [ابن عساكر].
    قال صفوان: لقد أعطاني رسول الله ( ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليّ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ. [مسلم].
    وظل صفوان مقيمًا في مكة يعبد الله، ويقيم تعاليم الإسلام، وذات يوم، قابله رجل من المسلمين وقال له: يا صفوان، من لم يهاجر هلك، ولا إسلام لمن لا هجرة له، فحزن صفوان أشد الحزن، وخرج إلى المدينة مهاجرًا، فنزل عند العباس بن عبد المطلب، فأخذه العباس إلى رسول الله (، فسأله رسول الله: ما جاء بك يا أبا وهب؟، فقال صفوان: سمعت أنه لا دين لمن لم يهاجر، فتبسم النبي ( له وقال: ( ارجع أبا وهب إلى أباطح مكة، فلا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية) [متفق عليه]، فاطمأن صفوان لذلك القول، ورجع إلى مكة وهو مستريح الصدر.
    وشارك صفوان في الفتوحات الإسلامية في عهد أمير المؤمنين عمر وعهد
    عثمان بن عفان -رضي الله عنهما- وظل صفوان يجاهد في سبيل الله حتى اشتاقت روحه إلى لقاء ربها، فمات بمكة سنة (42 هـ) في أول خلافة معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-، وقد روى كثيرًا من أحاديث رسول الله (، وروى عنه الصحابة والتابعون -رضي الله عنهم-.


    صاحب الرؤيا الصادقة
    عمرو بن مرة

    إنه الصحابي الجليل عمرو بن مرة الجهني -رضي الله عنه-، وكان عمرو قد خرج مع قومه بني غطفان يومًا حاجًّا إلى مكة في الجاهلية، فرأى في منامه وهو بمكة نورًا ساطعًا من الكعبة أضاء كل ما حولها حتى أضاء جبل يثرب، وأضاء قصور الحيرة والمدائن، وسمع صوتًا وسط النور يقول: انقشعت الظلماء، وسطع الضياء، وبعث خاتم الأنبياء، ظهر الإسلام، وكسرت الأصنام، ووصلت الأرحام. فاستيقظ فزعًا، ثم نادى على قومه، وحكى لهم رؤيته ثم قال لهم: والله ليحدثن في هذا الحي من قريش حدث.
    وبعد أن عاد إلى بلده، سمع أن رجلا من قريش اسمه محمد يدعو إلى عبادة الله الواحد الأحد، فأسرع إلى مكة، وقابل الرسول (، وأخبره بالرؤيا التي رآها في منامه، فقال له رسول الله (: (يا عمرو بن مرة أنا النبي المرسل إلى العباد كافة، أدعوهم إلى الإسلام، وآمرهم بحقن الدماء، وصلة الأرحام، وعبادة الله وحده، ورفض الأصنام)، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، آمنت بكل ما جئت به من حلال وحرام، وإن رغم ذلك كثير من الأقوام.
    [الطبراني وابن عساكر].
    ثم طلب عمرو من النبي ( أن يأذن له بالرجوع إلى قومه ليدعوهم إلى الإسلام، فأذن له الرسول (، وقال له: (عليك بالرفق والقول السديد، ولا تكن فظًّا ولا متكبرًا ولا حسودًا) [الطبراني وابن عساكر وأبو نعيم].
    ورجع عمرو إلى قومه، وأخذ يدعوهم إلى الإسلام، ثم قال لهم: يا بني رفاعة، بل يا معشر جهينة، إني رسول رسول الله إليكم، أدعوكم إلى الإسلام، وأخذ يعدد لهم خصال الإسلام، فقام رجل من قومه وقال له: يا عمرو بن مرة، أمر الله عيشك
    (أي جعله مُرًّا، أتأمرنا برفض آلهتنا، وأن نفرق جمعنا، ونخالف دين آبائنا إلى ما يدعونا إليه هذا القرشي من أهل تهامة؟ لا حبًّا ولا كرامة.
    فقال له عمرو: الكاذب منا أمرَّ الله عيشه، وأبكم لسانه وأكمه أسنانه. فاستجاب الله له، ولم يمت هذا الرجل حتى عمي، وصمَّ، وفسد عقله. وظل عمرو يدعو قومه حتى أسلم منهم عدد كبير، فذهب بهم إلى النبي (، فرحب بهم النبي (، وكتب لهم كتابًا، أوصاهم فيه بالزكاة والصلاة والصدقة. [الترمذي وأحمد].
    وظل عمرو مع النبي ( يشارك في الغزوات، ولم يتخلف عن معركة خاضها المسلمون، وشارك في حروب الردة، وفي الفتوحات الإسلامية، وتوفي -رضي الله عنه- في خلافة معاوية.


    صاحب الصوت الندي
    سالم بن معقل

    إنه الصحابي الجليل سالم بن مَعْقِل -رضي الله عنه-، كان في الجاهلية عبدًا لأبي حذيفة بن عتبة، فأسلما معًا، وكان أبو حذيفة يتبناه ويعامله كابنه، فكان يسمى سالم بن أبي حذيفة، فلما أبطل الإسلام التبني، قيل: سالم مولى أبي حذيفة، وزوَّجه أبو حذيفة من ابنة أخيه فاطمة بنت الوليد. وهاجر سالم إلى المدينة، وكان يستمع إلى النبي ( وهو يقرأ القرآن ويأخذه عنه، حتى صار من حفاظ القرآن وممن يؤخذ عنهم القرآن، بل كان من الأربعة الذين أوصى النبي ( بأخذ القرآن منهم، فقال: (خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبى بن كعب) [متفق عليه].
    وعن عائشة قالت: استبطأني رسول الله ذات ليلة، فقال: ما حَبَسَكِ؟ قلت: إن في المسجد لأحسن مَن سمعتُ صوتًا بالقرآن، فأخذ رداءه، وخرج يسمعه، فإذا هو سالم مولى أبي حذيفة. فقال: (الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك) [أحمد والحاكم].
    ولما هاجر مع المسلمين إلى المدينة كان يؤم المسلمين للصلاة بمسجد قباء وفيهم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وذلك قبل أن يهاجر النبي (، وكان عمر -رضي الله عنه- يكثر من الثناء عليه حتى أنه تمنى أن يكون حيًّا فيوليه الخلافة من بعده.
    وعرف سالم بالصدق والشجاعة، واشترك مع الرسول ( في غزوة بدر وغيرها من الغزوات، وخرج في السرية التي بعثها رسول الله ( إلى بني جذيمة بقيادة خالد بن الوليد، وحينما رأى سالم خالدًا يأمر بقتال هذه القبيلة دون أن يأمره الرسول ( بذلك ثار واعترض عليه ومعه بعض الصحابة، ولما عادوا أيدهم الرسول ( في ذلك. وظل سالم يجاهد مع رسول الله ( حتى توفى.
    وشارك سالم وأبو حذيفة مع الجيوش الإسلامية التي وجهها الصديق أبو بكر لمحاربة المرتدين عن الإسلام، فكان في مقدمة الجيش المتوجه إلى اليمامة لمحاربة مسيلمة الكذاب، وكان يصيح قائلاً: بئس حامل القرآن أنا لو هوجم المسلمون من قِبَلي، ثم اندفع في قتال المرتدين حاملاً راية الإسلام، بعد أن استشهد حاملها زيد بن الخطاب، ومَنَّ الله على جنوده بالنصر، وأصيب سالم بضربة قاتلة، فأسرع المسلمون إليه، والتفوا حوله فسألهم عن أخيه في الله ومولاه أبي حذيفة، فأخبروه بأنه قد استشهد ولقى ربه، فطلب منهم أن يضعوه بجواره؛ حتى يموتا معًا، ويبعثا معًا. فقالوا له: إنه إلى جوارك يا سالم، ففاضت روحه إلى الله لينعم بالشهادة.


    المجير
    أبان بن سعيد

    إنه أبان بن سعيد بن العاص -رضي الله عنه-، وكان إسلامه عندما سار رسول الله ( إلى الحديبية، فخرج إليه المشركون، واتفقوا على الصلح، وعاد رسول الله ( إلى المدينة، فتبعه أبان فأسلم وحسن إسلامه.
    وكان أبان قد خرج يومًا إلى الشام في تجارة له قبل إسلامه، فلقى راهبًا، وحكى له ما يفعله الرسول ( بمكة، وما يدعيه من أن أرسله الله رسولا مثلما أرسل موسى وعيسى من قبل، فقال له الراهب: وما اسم هذا الرجل؟ فقال له أبان: محمد، فقال الراهب: إني أصفه لك، وذكر الراهب صفة النبي (، ونسبه، وسنَّه، فقال أبان: هو كذلك، فقال الراهب: والله ليظهرنَّ على العرب، ثم ليظهرن على الأرض، ثم قال لأبان: أَقْرِئ الرجل الصالح السلام.
    ولما عاد أبان إلى مكة جمع قومه، وذكر لهم ما حدث بينه وبين الراهب، وكَفَّ عن إيذاء النبي ( والمسلمين، ولكنه بقى على كفره حتى صلح الحديبية. وشهد أبان -رضي الله عنه- مع رسول الله ( غزوة حنين في العام السابع للهجرة، وبعد أن استقرت الدولة الإسلامية، وفتحت مكة، جعل رسول الله ( أبان بن سعيد واليًا على البحرين، وظل بها حتى توفي رسول الله (، فتركها ورجع إلى المدينة.
    وأراد أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- أن يولى أبان بن سعيد مرة ثانية، فرفض ذلك وقال: لا أعمل لأحد بعد رسول الله (.
    وكان لسعيد بن العاص والد أبان ثمانية أولاد نجباء، منهم ثلاثة ماتوا على الكفر، وخمسة أدركوا الإسلام وصحبوا النبي (، وهم: خالد، وعمرو، وأبان، والحكم، وسعيد.
    وفي يوم صلح الحديبية بعث رسول الله ( عثمان بن عفان إلى قريش بمكة، فأجاره أبان بن سعيد، وحمله على فرسه حتى دخل مكة وقال: اسلك في مكة حيث شئت آمنًا.
    واستشهد -رضي الله عنه- في معركة اليرموك في جمادى الأولى سنة (13 هـ) في خلافة أبي بكر الصديق، وبداية خلافة عمر -رضي الله عنهما-.
    التعديل الأخير تم بواسطة ToRrEs10 ; 07-14-2010 الساعة 10:23 AM

  2. #2

    افتراضي رد: الصحابة رضوان الله عليهم

    بآرٍڪْ آلِلِه فيًڪْ وَعّآفآڪْ وَرٍعّآڪْ
    وَسّلِمڪْ وَحفظڪْ عّلِـﮯ مجهوَدِڪْ آلِرٍآئعّ
    تِسّتِآهلِ خمسّ نجوَم وَآڪْثرٍ
    وَآنآ بآنتِظآرٍ جدِيًدِ طرٍوَحآتِڪْ
    تِقبلِ مرٍرٍرٍوَرٍرٍرٍيً

    ~ ^


  3. #3

    افتراضي رد: الصحابة رضوان الله عليهم

    الْلَّهُمَّ يَا مَنْ إِذَا أَرَادَ أَمْراً أَنْ يَقُوْلَ لَهُ كُنْ فَيَكُوْنُ
    الْلَّهُمَّ قُلِ لأُمْنِيَاتِيّ كُوْنِيْ يَا قَرِيْبْ يَا مُجِيْبَ الْدُّعَاءِ
    الْلَّهُمَّ آَمِيْنَ آَمِيْنَ

المواضيع المتشابهه

  1. سلسلة قصص الانبياء جميعا .. رضوان الله عليهم
    بواسطة وليد18 في المنتدى المنتدى إلاسلامي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 05-07-2017, 09:10 AM
  2. مشاركات: 20
    آخر مشاركة: 09-25-2010, 01:37 AM
  3. تحية طيبة الى الأدارة والى العضاء والتكرم عليهم بطلب صغير؟؟؟؟؟؟
    بواسطة mori_1aya في المنتدى قسم المواضيع المخالفة والمكررة
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 07-02-2010, 10:45 PM
  4. حكم من يسب الصحابة (رضي الله عنهم )أجمعين
    بواسطة مسترحسحوس في المنتدى المنتدى إلاسلامي
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 01-28-2010, 10:35 AM
  5. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 12-26-2009, 01:34 AM

المفضلات

أذونات المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •