حكى الحارث بن همام ، قال: سمرت بالكوفة، في ليلة أديمها ذو لونين، وقمرها كتعويذة من لجين، مع رفقةٍ غذوا بلبان البيان، وسحبوا على سحبان ذيل النسيان، وما فيهم إلا من يحفظ عنه ولا يحتفظ منه، ويميل الرفيق إليه ولا يمل عنه، فأستهوانا السمر إلى غرب القمر وغلب السهر، فلما روق الليل البهيم، ولم يبقى إلا الهويم، سمعنا من الباب نبأة مستنبحٍ، ثم تلتها صكةُ مستفتح، فقلنا من الملم، في الليل المدلهم، فقال:

يا أهل ذا المغنى وقيتم شراً *** ولا لقيتم ما بقيتم ضراً

قد دفع الليل الذي أكفهرا *** إلى ذراكم شَعِثاً مغبرا

أخا سِفارٍ طال واسبطرا *** حتى أنثنا محقوقفاً مصفرا

مثل الهلال الأفق حين إفترا *** وقد عرا فناءكم معترا

وأمكم دون الأنام طراً *** يبغي قرى ومنكم مستقرا

فدونكم ضيفاً قنوعاً حرا *** يرضى بما أحلو لي وما مرا

وينثني عنكم وينبث البرا

قال الحارث بن همام: فلما خلبنا بعذوبة نطقه، وعلمنا ما وراء برقه، إبتدرنا فتح الباب، وتلقيناه بالترحاب، وقلنا للغلام هيأ هيأ، وهلم وتهيأ، فقال الضيف والذي أحلني ذراكم، لا لا تلمظت بقراكم، أو تضمنوا لي أن لا تتخذوني كلا، ولا تجشموا لأجلي كلاً، فرب كلةٍ هاضت الآكل وحرمته مآكل، وشر الأضياف من سام التكليف وآذى المضيف، خصوصاً إذ يتعلق بالأجسام، ويقضي إلى الأسقام، وما قيل في المثل الذي سار سائره خير العشاء سوافره إلا ليعجل التعشي ويجتنب أكل الليل الذي يعشي، اللهم إلا أن تقد نار الجوع، وتحول دون الهجوع.

(قال) فكأنه أطلع على إرادتنا فرمى عن قوس عقيدتنا، لا جرم أنا آنسناه بالتزام الشرط، وأثنينا على خُلقه السبط، ولما أحضر الغلام، وماراج وأذكى بيننا السراج، تأملته فإذا هو أبو زيد. فقلت لِصحابي: ليهنئكم الضيف الوارد بل المغنم البارد. فإن يكن أفل قمر الشِعرى، فقد طلع قمر الشِعرا، وأستتر بدر النثرة فقد تبلج بدر النثر، فسرة حُميا المسرة فيهم، وطارت السِنة عن مآقيهم، ورفضوا الدعة التي كانو نووها، وتابوا إلى نشر الفكاهة بعد ما طووها، وأبو زيدٍ مكب على إعمال يديه، حتى إذا أسترفع ما لديه قلنا له: أطرفنا بغربية من غرائب أسمارك، وعجيبة من عجائب أسفارك؟

فقال: لقد بلوت من العجائب ما لم يره الراؤون، ولا رواه الروون، وأن من أعجبها ما عاينته الليلة قبيل أنتيابكم ومصيري إلى بابكم.

فأستخبرناه عن طرفة مراه في مسرح مسراه، فقال: إن مرامي الغربة لفظتني إلى هذه التربة، وأنا ذو مجاعةٍ وبؤسى وجرابٍ كفؤاد أم موسى، فنهضت حين سجى الدجى على ما بي من الوجى، لأرتاد مضيفاً أو أقتاد رقيفاً. فساقني حادي السّغب، والقضاء المكنى أبا العجب، إلى أن وقفت على باب دارٍ فقلت على بدارٍ (شعر):

حييتم يا أهل هذا المنزل *** وعشتم في خضل عيشٍ خضل

ما عنكم لأبن سبيلٍ مرملٍ *** نضو سرىً خابط أليل أليل

جوى الحشى على الطوى مشتمل *** ما ذاق مذ يومين طعم مأكل

ولا له في أرضكم موئل *** وقد دجى جنح الظلام المسبل

وهو من الحيرة في تململ *** فهل بهذا الربع عذب المنهل

يقول لي ألق عصاك وأدخل *** وأبشر ببشرٍ وقرىً معجل

قال: فبرز إلي جوذر، عليه شوذر وقال (شعر):

وحرمة الشيخ الذي سن القرى *** وأسس المحجوج في أم القرى

ما عندنا لطارقٍ إذا عرا *** سوى الحديث والمُناخ في الذرى

وكيف يقري من نفى عنه الكرى *** طوى برى أعظُمه لما أنبرى

فما ترى فيما ذكرت ما ترى؟

فقلت: ما أصنع بمنزلٍ قفرٍ ومنزلٍ حِلفِ فقرٍ، ولكن يا فتى ما أسمك فقد فتتني فهمك، فقال أسمي زيد ومنشئي فيد، ووردت هذه المدرة أمس، مع أخوالي من بني عبس.

فقلت زدني إضاحاً زادك الله صلاحاً، عشت ونعشت. فقال: أخبرتني أمي برة، وهي كأسمها برة، أنها نكحت عام الغارة بماوان رجلاً من سراة سروج وغسان، فلما أنس منها الإثقال، وكان باقعةً على ما يقال، ظعن عنها سراً وهلم جراً، فما يعرف أحي هو فيتوقع أم أودع اللحد البلقع.

قال أبو زيد: فعلمت بصحة العلامات أنه ولدي، وصدفني عن التعرف إليه صفر يدي، ففصلت عنه بكبد مرضوضة ودموعٍ مفضوضةٍ، فهل سمعتم ي أولي الألباب بأعجب من هذا العجاب؟

فقالنا: أثبتوها في عجائب الأتفاق، وخلدوها في بطون الأوراق، فما سير مثلها في الآفاق.

فأحضرنا الدواة وأساودها، ورشقنا الحكاية على ما سردها، ثم أستنبطناه عن مرتآه، في أستضمام فتاه، فقال: إذا ثقل ردني، خف علي أن أكفل أبني.

فقلنا: أن كان يكفيك نصاب من المال، ألفناه لك في الحال. فقال: وكيف لا يقنعني نصاب، وهل يحتقر قدره إلا مصاب. (قال الراوي): فألتزم كل منا قسطاً وكتب له به رقطاً. فشكر عند ذلك الصنع وأستنفد في الثناء الوسع، حتى أننا أستطلنا القول وأستققلنا الطول، ثم أنه نشر من وشي السمر ما أزرى به محبر، إلى أن أطل التنوير وجشر الصبح المنير، فقضيناها ليلة غابت شوائبها إلى أن شابت ذوائبها، وكمل سعودها إلى أن أنفطر عودها، ولما ذر قرن الغزالة، وقال أنهض بنا لنقبض الصلات ولنستنضر الإحالات. فقد أستطارت صدوع كبدي من الحنين إلى ولدي، فوصلت جناحه حتى سنيت نجاحه، فحين أحرز العين في صرته برقت اسارير مسرته، وقال لي: جزيت خيراً عن خطا قدميك والله خليفتي عليك. فقلت: أريد أن أتعبك لأشاهد ولدك النجيب وأنافثه لكي يجيب، فنظر إلي نظرة الخادع إلى المخدوع وضحك حتى تغرغرت مقلتاه بالدموع، ثم أنشد:

يا من تظني السراب ماءً *** لما رويت الذي رويتُ

ما خلت أن يستسر مكري *** وأن يخيل الذي عنيت

والله ما برة بعرسي *** ولا لي أبن به أكتنيت

وأنما لي فنون سحرٍ *** أبدعت فيها وأقتديت

لم يحكها الأصمعي فيما *** حكى ةلا حكاها الكميت

تخذتها وصلة إلى ما *** تجنيه كفي متى أشتهيت

ولو تعافيتها لحالت *** حالي ولم أحوِ ما حويت

فمهد العذر أو فسامح *** أن كنت أجرمت أو جنيت

ثم أنه ودعني ومضى، وأودع قلبي جمر الغضى