حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: احتَجْتُ إلى الحِجامَةِ. وأنا بحَجْرِ اليَمامةِ. فأُرشِدْتُ إلى شيخٍ يحْجُمُ بلَطافَةٍ. ويسفِرُ عنْ نَظافَةٍ. فبعَثْتُ غُلامي لإحْضارِهِ. وأرْصَدْتُ نفْسي لانتِظارِهِ. فأبْطأ بعْدَما انطلَقَ. حتى خِلتُهُ قد أبَقَ. أو ركِبَ طبَقاً عنْ طبَقٍ. ثمّ عادَ عوْدَ المُخفِقِ مسْعاهُ. الكَلِّ على موْلاهُ. فقُلْتُ لهُ: ويلَكَ أبُطْءَ فِنْدٍ. وصُلودَ زَندٍ؟ فزَعَم أنّ الشيخَ أشْغَلُ من ذاتِ النِّحْيَيْنِ. وفي حربٍ كحَرْبِ حُنَينٍ. فعِفتُ المَمْشى إلى حجّامٍ. وحِرْتُ بين إقدامٍ وإحْجامٍ. ثمّ رأيتُ أنْ لا تعْنيفَ. على منْ يأتي الكَنيفَ. فلمّا شهِدْتُ موسِمَهُ. وشاهدْتُ مِيسَمَهُ. رأيتُ شيْخاً هيئَتُهُ نَظيفَةٌ. وحركَتُهُ خَفيفَةٌ. وعليْهِ منَ النّظارَةِ أطْواقٌ. ومنَ الزِّحامِ طِباقٌ. وبينَ يَدَيْهِ فتًى كالصَّمْصامَةِ. مُستَهدِفٌ للحِجامَةِ. والشيخُ يقولُ له: أراكَ قد أبرَزْتَ راسَكَ. قبلَ أن تُبرِزَ قِرْطاسَكَ. ووَلّيتَني قَذالَكَ. ولمْ تقُلْ لي ذا لَكَ. ولستُ ممّنْ يبيعُ نقْداً بدَينٍ. ولا يطلُبُ أثَراً بعدَ عينٍ. فإنْ أنتَ رضَخْتَ بالعَينِ. حُجِمْتَ في الأخدَعَينِ. وإنْ كُنتَ ترى الشُحّ أوْلى. وخزْنَ الفَلْسِ في النّفْسِ أحْلى. فاقْرأ عبَسَ وتولّى. واغْرُبْ عني وإلا. فقالَ الفتَى: والذي حرّمَ صوْغَ المَينِ. كما حرّمَ صيْدَ الحرَمَينِ. إني لأفْلَسُ منِ ابنِ يوْمَينِ. فثِقْ بسَيلِ تلْعَتي. وأنْظِرْني إلى سَعَتي. فقالَ لهُ الشيخُ: ويْحَكَ إنّ مثَلَ الوُعودِ. كغرْسِ العودِ! هوَ بينَ أن يُدرِكَهُ العطَبُ. أو يُدرَكُ منهُ الرُّطَبُ. فما يُدْرِيني أيَحْصُلُ منْ عودِكَ جَنًى. أم أحصُلُ منهُ على ضنًى؟ ثمّ ما الثّقَةُ بأنّكَ حينَ تبتَعِدُ. ستَفي بما تعِدُ؟ وقد صارَ الغدْرُ كالتّحْجيلِ. في حِليَةِ هذا الجيلِ. فأرِحْني باللهِ منَ التّعذيبِ. وارْحَلْ إلى حيثُ يَعْوي الذّيبُ. فاسْتَوى الغُلامُ إليْهِ. وقدِ استوْلى الخجَلُ علَيْهِ. وقال: واللهِ ما يَخيسُ بالعهْدِ. غيرُ الخَسيسِ الوغْدِ. ولا يرِدُ غَديرَ الغَدْرِ. إلا الوَضيعُ القدْرِ. ولوْ عرَفْتَ منْ أنا. لما أسمَعْتَني الخَنا. لكنّكَ جهِلْتَ فقُلْتَ. وحيثُ وجَبَ أنْ تسْجُدَ بُلْتَ. وما أقبَحَ الغُربَةَ والإقلالَ. وأحسَنَ قوْلَ منْ قال:

إنّ الغَريبَ الطّويلَ الذّيلِ ممتَهَـنٌ *** فكيفَ حالُ غَريبٍ ما لـهُ قـوتُ

لكنّهُ ما تَشينُ الـحُـرُّ مـوجِـعَةٌ *** فالمِسكُ يُسحَقُ والكافورُ مَفتـوتُ

وطالَما أُصْليَ الياقوتُ جمرَ غضًى *** ثمّ انطَفى الجمرُ والياقوتُ ياقوتُ

فقالَ لهُ الشيخُ: يا ويلَةَ أبيكَ. وعوْلَةَ أهليكَ! أأنْتَ في موقِفِ فخْرٍ يُظهَرُ. وحسَبٍ يُشهَرُ. أم موقِفِ جِلْدٍ يُكشَطُ. وَقَفاً يُشْرَطُ؟ وهبْ أنّ لكَ البيتَ. كما ادّعَيتَ. أيَحْصُلُ بذلِكَ. حَجْمُ قَذالِكَ؟ لا واللهِ ولوْ أنّ أباكَ أنافَ. على عبْدِ مُنافٍ. أو لخالِكَ دانَ. عبدُ المَدانِ. فلا تضْرِبْ في حَديدٍ بارِدٍ. ولا تطْلُبْ ما لسْتَ لهُ بواجِدٍ. وباهِ إذا باهَيْتَ بموجودِكَ. لا بحُدودِكَ. وبمَحْصولِكَ. لا بأصولِكَ. وبصِفاتِكَ. لا برُفاتِكَ. وبأعْلاقِكَ. لا بأعْراقِكَ. ولا تُطِعِ الطّمَعَ فيُذِلَّكَ. ولا تتّبِعِ الهَوى فيُضِلّكَ. وللهِ القائلُ لابنِهِ:

بُنيّ استَقِمْ فالعُـودُ تَـنـمـي عُـروقُـهُ *** قَويماً ويغْشاهُ إذا ما الـتَـوى الـتّـوَى

ولا تُطِعِ الحِرْصَ المُـذِلّ وكـنْ فـتًـى *** إذا التَهَبتْ أحشاؤهُ بـالـطّـوى طـوَى

وعاصِ الهَوى المُرْدي فكم من محَـلِّـقٍ *** إلى النّجْمِ لمّا أنْ أطاعَ الـهَـوى هـوَى

وأسعِفْ ذوي القُربى فـيقـبُـحُ أن يُرى *** على من إلى الحرّ اللُّبابِ انضوى ضوَى

وحافِظْ علـى مَـنْ لا يخـونُ إذا نَـبـا *** زمانٌ ومن يرْعى إذا ما الـنـوى نـوَى

وإنْ تقتدرْ فاصْفحْ فلا خيرَ فـي امـرِئٍ *** إذا اعتلَقتْ أظفارُهُ بـالـشّـوى شَـوى

وإيّاكَ والشّكـوى فـلـمْ تـرَ ذا نُـهًـى *** شكا بل أخو الجهل الذي ما ارعوى عوى

فقالَ الغُلامُ للنّظّارَةِ: يا للعَجيبةِ. والطُرفَةِ الغَريبةِ! أنْفٌ في السّماء. واسْتٌ في الماء! ولفْظٌ كالصّهْباء. وفِعْلٌ كالحَصْباء! ثمّ أقبلَ على الشيخِ بلِسانٍ سَليطٍ. وغيظٍ مُستَشيطٍ. وقال: أفٍّ لكَ منْ صوّاغٍ باللّسانِ. روّاغٍ عنِ الإحْسانِ! تأمُرُ بالبِرّ. وتعُقّ عُقوقَ الهِرّ. فإنْ يكُنْ سبَبُ تعنُّتِكَ. نَفاقَ صنعَتِكَ. فرَماها اللهُ بالكَسادِ. وإفْسادِ الحُسّادِ. حتى تُرى أفرَغَ منْ حَجّامِ ساباطَ. وأضيَقَ رِزْقاً منْ سمّ الخِياطِ. فقال لهُ الشيخُ: بلْ سلّطَ اللهُ عليْكَ بَثْرَ الفَمِ. وتبيُّغَ الدّمِ. حتى تُلْجأ إلى حجّامٍ عظيمِ الاشْتِطاطِ. ثَقيلِ الاشْتِراطِ. كَليلِ المِشْراطِ. كثيرِ المُخاطِ والضُّراطِ. قال: فلمّا تبيّنَ الفتى أنهُ يشْكو إلى غيْرِ مُصَمَّتٍ. ويُراوِدُ استِفْتاحَ بابٍ مُصْمَتٍ. أضْرَبَ عنْ رجْعِ الكَلامِ. واحتفَزَ للقيامِ. وعلِمَ الشيخُ أنهُ قدْ ألامَ. بما أسمَعَ الغُلامَ. فجنَحَ إلى سِلمِهِ. وبذَلَ أنْ يُذعِنَ لحُكمِهِ. ولا يَبْغي أجْراً على حَجْمِهِ. وأبى الغُلامُ إلاّ المَشْيَ بدائِهِ. والهرَبَ منْ لِقائِهِ. وما زالا في حِجاجٍ وسِبابٍ. ولِزازٍ وجِذابٍ. إلى أن ضجّ الفَتى منَ الشِّقاقِ. وتَلا رُدنُهُ سورَةَ الانشِقاقِ. فأعْوَلَ حينئِذٍ لوَفارَةِ خُسرِهِ. وانعِطاطِ عِرْضِهِ وطِمْرِهِ. وأخذَ الشيخُ يعتَذِرُ منْ فرَطاتِهِ. ويُغيِّضُ منْ عبَراتِهِ. وهوَ لا يُصْغي إلى اعتِذارِهِ. ولا يقصِّرُ عنِ استِعْبارِهِ. إلى أنْ قالَ لهُ: فَداكَ عمُّكَ. وعدَاكَ ما يغُمُّكَ! أما تسْأمُ الإعْوالَ. أما تعرِفُ الاحتِمالَ. أمَا سمِعْتَ بمَنْ أقالَ. وأخذَ بقولِ منْ قال:

أخمِدْ بحِلمكَ مـا يُذكـيهِ ذو سـفَـهٍ *** من نارِ غيظكَ واصْفَحْ إن جنى جانِ

فالحِلمُ أفضَلُ ما ازْدانَ اللّبـيبُ بـهِ *** والأخذُ بالعَفوِ أحْلى ما جَنـى جـانِ

فقال لهُ الغُلام: أمَا إنّكَ لو ظهرْتَ على عيْشيَ المُنكَدِرِ. لعَذَرْتَ في دمْعيَ المُنهَمِرِ. ولكِنْ هانَ على الأملَسِ ما لاقَى الدّبِرُ. ثمّ كأنّهُ نزَعَ إلى الاستِحْياء. فأقْلَعَ عنِ البُكاء. وفاء إلى الارْعِواء. وقال للشيخِ: قدْ صِرْتُ إلى ما اشتَهَيْتَ. فارْقَعْ ما أوْهَيتَ. فقال: هيْهاتَ شغلَتْ شِعابي جَدوايَ. فشِمْ بارِقَ سِوايَ. ثمّ إنهُ نهضَ يستَقْري الصّفوفَ. ويستَجْدي الوُقوفَ. ويُنشِدُ في ضِمْنِ ما هوَ يطوفُ:

أُقسِمُ بالبـيتِ الـحـرامِ الـذي *** تهْوي إليْهِ الزُمَرُ المُحـرِمَـهْ

لوْ أنّ عِندي قُـوتَ يومٍ لَـمـا *** مسّتْ يَدي المِشْراطَ والمِحجَمهْ

ولا ارتضَتْ نفْسي التي لمْ تـزَلْ *** تسْمو إلى المجْدِ بهذي السِّـمَـهْ

ولا اشْتَكى هذا الفتـى غِـلـظَةً *** منّي ولا شاكَتْهُ مـنّـي حُـمَـهْ

لكِنْ صُروفُ الدّهرِ غادَرْنـنـي *** كخابِطٍ في اللّيلَةِ المُـظـلِـمَـهْ

واضْطَرّني الفقْرُ إلى مـوقِـفٍ *** منْ دونِهِ خوْضُ اللّظى المُضرَمه

فهـلْ فـتًـى تُـدرِكُـــهُ رِقّةٌ *** عليّ أو تعطِـفُـهُ مَـرْحَـمَـهْ

قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فكُنتُ أوّلَ منْ أوى لبَلْواهُ. ورقّ لشَكْواهُ. فنفَحْتُهُ بدِرْهَمَينِ. وقلتُ: لا كانا ولوْ كانَ ذا مَيْنٍ! فابتهَجَ بباكُورَةِ جَناهُ. وتفاءلَ بهِما لغِناهُ. ولمْ تزَلِ الدّراهِمُ تنْهالُ عليْهِ. وتنْثالُ لديْهِ. حتى آلَ ذا عيشَةٍ خضْراء. وحَقيبةٍ بجْراء. فازْدهاهُ الفرَحُ عندَ ذلِكَ. وهنّأ نفْسَهُ بما هُنالِكَ. وقال للغُلام: هَذا ريْعٌ أنتَ بَذرُهُ. وحلَبٌ لكَ شطرُهُ. فهلُمّ لنَقتَسِمَ. ولا نحْتَشِمْ. فتقاسَماهُ بينَهُما شقَّ الأبلَمَةِ. ونهَضا مُتّفِقَي الكَلِمَةِ. ولمّا انتظَمَ بينهُما عقْدُ الاصْطلاحِ. وهمّ الشيخُ بالرّواحِ. قُلتُ له: قدْ تبوّغَ دَمي. ونقلْتُ إليْكَ قدَمي. فهلْ لكَ أن تحْجُمَني. وتُكفْكِفَ ما دهَمَني؟ فصوّبَ طرْفَهُ وصعّد. ثمّ ازْدَلَفَ إليّ وأنشدَ:

كيفَ رأيتَ خُدْعَتـي وخـتْـلـي *** وما جرى بيْني وبينَ سـخْـلـي

حتى انثَنَيْتُ فائِزاً بـالـخـصْـلِ *** أرْعى رياضَ الخِصْبِ بعدَ المحلِ

باللهِ يا مُهجةَ قلْـبـي قـلْ لـي *** هلْ أبصرَتْ عيناكَ قطُّ مثـلـي

يفتَـحُ بـالـرُقـيَةِ كـلَّ قُـفْـلِ *** ويستَبي بالسّحْـرِ كـلَّ عـقْـلِ

ويعجِنُ الجِـدّ بـمـاء الـهـزْلِ *** إنْ يكُنِ الإسكَنـدَريُّ قـبْـلـي

فالطّلُّ قـد يبْـدو أمـامَ الـوَبْـلِ *** والفضْلُ للـوابِـلِ لا لـلـطّـلِّ

قال: فنبّهَتْني أُرجوزَتُهُ عليْهِ. وأرَتْني أنهُ شيخُنا المُشارُ إليهِ. فقرّعْتُهُ على الابتِذالِ. والاتِحاقِ بالأرْذالِ. فأعْرضَ عمّا سمِعَ. ولمْ يُبَلْ بِما قُرّعَ. وقال: كُلَّ الحِذاء يحْتَذي الحافي الوَقِعُ. ثمّ قاصاني مُقاصاةَ المُهانِ. وانطلَقَ هوَ وابنُهُ كفَرَسيْ رِهانٍ.