الدين الحق هو اسم لكل شيء يعبد الله به، وهو واحد لأنه نزل من عند الإله الواحد، ولكن عند تناول البشر، لهذا الدين وتطبيقه في حياتهم يختلف مأخذ كل منهم له وطريقة تطبيقه ويرجع هذا الاختلاف إلى ثلاثة عوامل:
(1) العامل الأول: أن الدين رغم وحدته ألا أنه يتفرع إلى عناصر متعددة، ففيه الجانب الاعتقادي والعبادات والمعاملات والأخلاق وكل شخص يأخذ من هذه الجوانب بقدر يختلف عن الشخص الآخر.
(2) العامل الثاني: أن الإنسان رغم فرديته الظاهرة ألا أنه يتكون من عناصر ونشاطات متعددة اختلف وصفها وتطبيقها الصحيح حسب الاتجاهات والمدارس النفسية ففيه اللا شعوري، وما تحت الشعور والشعور وفيه ألهو والانا الأعلى(في نظر مذهب التحليل النفسي) وفيه ذات الطفل وذات اليافع وذات الوالد(في نظر مذهب التحليل التفاعلات لاريك بارن) وفيه الذات المثالية والذات الواقعية والاذات الحقيقية(حسب رؤية كارين هورني) وحتى في النظرة الدينية نجد أن الانسان فيه النفس الأمارة بالسوء والنفس اللوامة والنفس المطمئنة.
(3) العامل الثالث: يتميز الدين الإسلامي بتعدد مستوياته والتي يرقي فيها الانسان من مستوى إلى آخر في خط تصاعدي كلما اجتهد في فهم وتطبيق هذا الدين، وهذه المستويات هي الاسلام والأيمان والإحسان (كما ورد في الحديث الذي رواه عمر رضي الله عنه)، أذن فنحن أمام إنسان متعدد العناصر(رغم وحدته الظاهرة) يتفاعل مع دين متعدد الفروع والمستويات(رغم وحدته الحقيقية أساسا ومصدرا) ومن هنا ينشأ الاختلاف في الخبرات الدينية من شخص لآخر، وهو ما نراه في اختلاف درجة ونوعية تدين الأشخاص ولكي نفهم أكثر مصدر هذا التنوع فلا بد أن نعرف أن نشاطات الانسان النفسية يمكن حصرها في ثلاث دوائر: دائرة المعرفة ودائرة العاطفة (الانفعال أو الشعور) ودائرة السلوك (الإرادة والفعل) ومن هذا التعدد نورد النماذج التالية من الخبرة الدينية (التدين) التي نراها في حياتنا اليومية.
1. التدين المعرفي: الفكري: وهنا ينحصر التدين في دائرة المعرفة حيث نجد الشخص يعرف الكثير من أحكام الدين ومفاهيمه ولكن هذه المعرفة تتوقف عند الجانب العقلاني الفكري ولا تتعداه إلى دائرة العاطفة أو السلوك فهي مجرد معرفة عقلية وبعض هؤلاء الأشخاص ربما يكونون بارعين في الحديث عن الدين أو الكتابة فيه وهم مع هذا لا يلتزمون بتعاليمه في حياتهم اليومية
2. التدين العاطفي(الحماسي): وفي هذه الحالة نجد أن الشخص يبدي عاطفة جارفة وحماسا كبيرا نحو الدين، ولكن هذا لا يواكبه معرفة جيدة بأحكام الدين ولا سلوكا ملتزما بقواعده، وهذا النوع ينتشر في الشباب خاصة حديثي التدين. وهي مرحلة يجب إكمالها بالجانب المعرفي والجانب السلوكي حتى لا تطيش أو تتطرف أو تنمحي.
3. التدين السلوكي(تدين العبادة): وهنا تنحصر مظاهر التدين في دائرة السلوك، حيث نجد أن الشخص يقوم بأداء العبادات والطقوس الدينية ولكن بدون معرفة كافية بحكمتها وأحكامها وبدون عاطفة دينية تعطي لهذه العبادات معناها الروحي، ولكن فقط يؤدي هذه العبادات كعادة اجتماعية تعودها وهذا النوع يمكن أن يكتمل ويرشد بإضافة الجانب المعرفي وأيقاظ الجانب الروحي.
4. التدين النفعي(المصلحي): فى هذه الحالة نجد أن الشخص يلتزم بالكثير من مظاهر الدين الخارجية للوصول إلى مكانة اجتماعية خاصة أو تحقيق أهداف دنيوية شخصية وهؤلاء الناس أصحاب هذا النوع من التدين(أو التظاهر بالتدين) يستغلون احترام الناس للدين ورموزه فيحاولون كسب ثقتهم ومودتهم بالتظاهر بالتدين والشخص في هذه الحالة يسخر الدين لخدمته وليس العكس، وتجده دائما حيث توجد المكاسب والمصالح الدنيوية الشخصية وتفتقده في المحن والشدائد.
5. التدين التفاعلي(تدين رد الفعل): نجد هذا النوع من التدين في الأشخاص الذين قضوا حياتهم بعيدا عن الدين يلهون ويمرحون ويأخذون من متع الدنيا وملذاتها بصرف النظر عن الحلال والحرام، وفجأة نتيجة تعرض شخص من هؤلاء لموقف معين أو حادث معين، نجده قد تغير من النقيض إلى النقيض، فيبدأ في الالتزام بالكثير من مظاهر الدين، ويتسم تدينه بالعاطفة القوية والحماس الزائد، ولكن مع هذا يبقي تدينه سطحيا تنقصه الجوانب المعرفية والروحية العميقة، وفي بعض الأحيان يتطرف هذا الشخص في التمسك بمظاهر الدين حفاظا على توازنه النفسي والاجتماعي وتخفيفا للشعور بالذنب الذي يلهب ظهره وهذا النوع لا بأس به إذا وجد المجتمع المتقبل والمرشد لهذا الشخص التائب المتحمس ليكمل طريقة ويصعد مدارج السالكين برفق ورؤية.
6. التدين الدفاعي(العصابي): قد يكون الدين دفاعا ضد الخوف أو القلق أو الشعور بالذنب أو تأنيب الضمير أو دفاعا ضد القهر والإحباط، وفي هذه الحالة يلجأ الفرد الى التدين ليخفف من هذه المشاعر ويتخلص منها، وكلما زادت هذه المشاعر قوة كلما كان اتجاهه للدين أقوى، ولا باس في ذلك ألا أن هذا التدين تنقصه الجوانب الروحية وجوانب المعاملات والنواحي الأخلاقية في الدين. ويحدث هذا النوع أيضا في بعض الأشخاص الذين يشعرون بالعجز في مواجهة متطلبات احتماءا به في مواجه الصعوبات التي عجزوا عن مواجهتها وإيثارا للراحة في سبيل بعض المفاهيم شبه الدينية، فنجد الشخص من هؤلاء قد أهمل دراسته أو عمله أو مسئولياته وتفرغ لممارسة بعض الشعائر الدينية التي لا تتطلب جهدا أو مشقة وهدفه(غير المعلن) من ذلك هو تغطية قصوره وعجزه والهرب من المواجهة الحقيقية مع الواقع.
7. التدين المرضي(الذهاني): نواجه هذا النوع أثناء عملنا في العيادات والمستشفيات النفسية في بعض المرضى مع بدايات الذهان (المرض العقلي) حيث يلجأ المريض الى التدين في محاولة منه لتخفيف حدة التدهور والتناثر المرضي ولكن الوقت يكون قد الوقت قد فات فتظهر أعراض المرض العقلي مصطبغة ببعض المفاهيم شبه الدينية الخاطئة، فيعتقد المريض ويعلن أنه ولي من أولياء الله أو أنه نبي بعث لهداية الناس، أو أنه المهدي المنتظر ويتصرف على هذا الأساس وعلى الرغم من فشل هذه المحاولة المرضية ألا أنها دليل على دور الدين في المحافظة على الشخصية في مواجهة التدهور والتناثر وبمعني آخر نقول: أن التدين دفاع نفسي صحي ولكن بشرط أن يكون في الوقت المناسب وبطريقة منهجية مناسبة.
8. التطرف: وهو يعني الغلو في جانب أكثر من جوانب الدين بما يخرج الشخص عن الحدود المقبولة التي يقرها الشرع ويجمع عليها علماء الدين
ويمكن تقسيم التطرف إلى أنواع:
(1) التطرف الفكري: حيث يصعب النقاش مع هذا الشخص حول ما توصل أليه من أفكار وينغلق على فكرة فلا يقبل فكر أو رأيا آخر( أسامة الشربيني 1989).
(2) التطرف العاطفي: وقد يكون التطرف في مجال العاطفة حيث تصبح عواطف الشخص كلها متركزة على الجوانب الدينية ويصبح شديد الحساسية من هذه الناحية شديد المبالغة في الانفعال بها.
(3) التطرف السلوكي: وهنا نجد الشخص يبالغ مبالغة شديدة في أداء الشعائر الدينية الظاهرية بما يخرجه عن الحدود المقبولة شرعا وكأن هذه الشعائر هدف في حد ذاتها لذلك نجد أن هذه الشعائر تخلو من معناها الروحي بل إن التطرف في مجال الفعل قد لا ينتهي عند حدود تصرفاته الشخصية، بل يتجاور ذلك الى مجتمعه، فيقوم بإلزام الآخرين لكي يسلكوا مثله وإذا أبو ذلك ربما يقوم بالاعتداء عليهم.
10- التدين الأصيل: وهذا هو النوع الأمثل من الخبرة الدينية حيث يتغلغل الدين الصحيح في دائرة المعرفة ودائرة العاطفة ودائرة السلوك فنجد الشخص يملك معرفة دينية كافية وعميقة وعاطفة دينية تجعله يحب دينه ويخلص له مع سلوك يوافق كل هذا وهنا يكون الدين هو الفكرة المركزي المحركة والموجهة لكل نشاطات هذا الشخص (الخارجية والداخلية) ونجد قوله متفقا مع عمله وظاهرة متفقا مع باطنه في انسجام تام وهذا الشخص المتدين تدينا نجده يسخر نفسه لخدمة دينه وليس العكس وإذا وصل الانسان لهذا المستوى من التدين الأصيل شعر بالآمن والطمأنينة والسكينة ووصل إلى درجة من التوازن النفسي تجعله يقابل المحن والشدائد بصبر ورضى وإذا قابلت هذا الشخص وجدته هادئا سمحا راضيا متزنا في أقواله وأفعاله ووجدت نفسك تتواصل معه في سهولة ويسر وأمان.
وبعد هذا الاستعراض لتلك الأنواع من الخبرة الدينية ربما يسأل سائل كيف نفرق الأنواع المرضية من الأنواع الصحية في الخبرة الدينية؟ وللإجابة على هذا التساؤل نقول: إن هذا الأمر ليس سهلا في كل الأحيان ولكن هناك صفات عامة تميز التدين المرضي (أو المنقوص) نذكرها فيما يلي:
تضخيم قيمة اللفظ على حساب المعنى، وإعلاء قيمة المظاهر الخارجية للدين على حساب المعني الروحي العميق للدين، وإعاقة النمو النفسي والاجتماعي والروحي، واعاقة التكامل الشخصي والانشقاق بين ما يبديه الشخص من مظهر ديني وبين ما يضمره من أفكار وأحاسيس والميل للاغتراب بعيدا عن حقيقة الذات والتعصب والتشدد خارج الحدود المقبولة شرعا، وتضخيم ذات الشخص وتعظيمها والرغبة في السيطرة القهرية على فكر ومشاعر وسلوك الآخرين ثم الرفض الصلب والعنيد لأي رأي آخر مع القدرة على تحمل المناقشة الموضوعية.
وأخيرا تحقير الذات وما يستتبع ذلك من الميل إلى السلبية والهروب من مواجهة الواقع.