حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: عُنيتُ مذْ أحْكَمتُ تَدبيري. وعرَفْتُ قَبيلي منْ دَبيري. بأنْ أُصْغيَ إلى العِظاتِ. وأُلْغيَ الكَلِمَ المُحْفِظاتِ. لأتحلّى بمَحاسِنِ الأخْلاقِ. وأتخلّى ممّا يَسِمُ بالإخْلاقِ. وما زِلتُ آخُذُ نفْسي بهذا الأدَبِ. وأُخْمِدُ بهِ جمْرَةَ الغضَبِ. حتى صارَ التطبُّعُ فيهِ طِباعاً. والتكلّفُ لهُ هوًى مُطاعاً. فلمّا حللْتُ بالرَّيّ. وقد حللْتُ حِبى الغَيّ. وعرَفْتُ الحَيَّ منَ اللّيّ. رأيتُ به ذاتَ بُكرةٍ. زُمرةً في إثْرِ زُمرَةٍ. وهمْ مُنتَشِرونَ انتِشارَ الجرادِ. ومُستَنّونَ استِنانَ الجِيادِ. ومتواصِفونَ واعِظاً يقصِدونَهُ. ويُحِلّون ابنَ سَمْعونَ دونَهُ. فلمْ يتكاءدْني لاستِماعِ المَواعِظِ. واختِبارِ الواعِظِ. أنْ أُقاسيَ اللاّغِطَ. وأحتمِلَ الضّاغِطَ. فأصْحبْتُ إصْحابَ المِطْواعَةِ. وانخرطْتُ في سِلْكِ الجَماعَةِ. حتى أفضيْنا إلى نادٍ حشَد النّبيهَ والمغْمورَ. وفي وسَطِ هالَتِهِ. ووسْطِ أهِلّتِهِ. شيخٌ قد تقوّس واقْعَنْسَسَ. وتقلْنَسَ وتطلّسَ. وهوَ يصدَعُ بوعْظٍ يشْفي الصّدورَ. ويُلينُ الصّخورَ. فسمِعْتُهُ يقولُ. وقدِ افتَتَنَتْ بهِ العُقولُ: ابنَ آدمَ ما أغْراكَ بما يغُرُّك. وأضْراكَ بما يضُرُّك! وألْهجكَ بما يُطْغيكَ. وأبهجَكَ بمنْ يُطريكَ! تُعْنى بما يُعَنّيكَ. وتهمِلُ ما يعْنيكَ. وتنزِعُ في قوْسِ تعدّيكَ. وترْتَدي الحِرْصَ الذي يُرْديكَ! لا بالكَفافِ تقْتَنِعُ. ولا منَ الحَرامِ تمْتَنِعُ. ولا للعِظاتِ تستَمِعُ. ولا بالوَعيدِ ترْتَدِعُ! دأبُكَ أنْ تتقلّبَ معَ الأهْواء. وتخبِطَ خبْطَ العَشْواء! وهمُّكَ أن تدأبَ في الاحتِراثِ. وتجْمَعَ التُراثَ للوُرّاثِ! يُعجِبُك التّكاثُرُ بما لدَيكَ. ولا تذكُرُ ما بينَ يدَيْكَ. وتسعى أبداً لغارَيْكَ. ولا تُبالي ألَكَ أمْ علَيكَ! أتظُنّ أنْ ستُترَكُ سُدًى. وأن لا تُحاسَبَ غداً؟ أم تحْسَبُ أنّ الموتَ يقبَلُ الرُّشَى. أو يُميّزُ بين الأسدِ والرّشا؟ كلاّ واللهِ لنْ يدفَعَ المَنونَ. مالٌ ولا بَنونَ! ولا ينفَعُ أهلَ القُبورِ. سِوى العمَلِ المبْرورِ! فطوبى لمَنْ سِمعَ ووَعى. وحقّقَ ما ادّعى! ونهى النّفْسَ عنِ الهوَى. وعلِمَ أنّ الفائِزَ منِ ارْعَوى! وأنْ ليسَ للإنسانِ إلا ما سَعى. وأنّ سعيَهُ سوفَ يُرى. ثمّ أنشدَ إنْشادَ وجِلٍ. بصوتٍ زجِلٍ: لعَمرُكَ ما تُغني المَغاني ولا الغِنى إذا سكنَ المُثري الثّرَى وثوَى بـهِ
فجُدْ في مَراضي اللهِ بالمالِ راضِياً بما تقْتَني مـنْ أجـرِهِ وثـوابِـهِ
وبادِرْ بهِ صرْفَ الزّمـانِ فـإنّـهُ بمِخلَبِهِ الأشْغـى يغـولُ ونـابِـهِ
ولا تأمَنِ الدهْرَ الخؤونَ ومَـكـرَهُ فكمْ خامِلٍ أخْنى عـلـيهِ ونـابِـهِ
وعاصِ هوى النّفسِ الذي ما أطاعَهُ أخو ضِلّةٍ إلا هوى من عِقـابِـهِ
وحافِظْ على تقْوى الإلهِ وخـوفِـهِ لتنْجوَ مما يُتّقى مـنْ عِـقـابِـهِ
ولا تلهُ عن تَذكارِ ذنبِـكَ وابـكِـهِ بدمعٍ يُضاهي المُزْنَ حالَ مَصابِهِ
ومثّلْ لعينَيْكَ الحِـمـامَ ووقْـعَـهُ وروْعَةَ مَلْقاهُ ومطْعَـمَ صـابِـهِ
وإنّ قُصارى منزِلِ الحيّ حُـفـرَةٌ سينْزِلُها مُستَنْزَلاً عـن قِـبـابِـهِ
فَواهاً لعبْدٍ ساءهُ سـوءُ فـعـلِـهِ وأبدى التّلافي قبلَ إغلاقِ بـابِـهِ
قال: فظلّ القوْمُ بينَ عَبْرَةٍ يُذْرونَها. وتوْبَةٍ يُظهِرونَها. حتى كادَتِ الشمْسُ تَزولُ. والفَريضَةُ تَعولُ. فلمّا خشعَتِ الأصْواتُ. والتأمَ الإنْصاتُ. واستكَنّتِ العبَراتُ. والعِباراتُ. وبرزَ الواعِظُ يتهادَى بينَ رفقَتِهِ. ويتباهَى بفوْزِ صفْقَتِهِ. واعْتَقَبْتُهُ أخطو مُتَقاصِراً. وأُريهِ لمْحاً باصِراً. فلمّا اسْتَشَفّ ما أُخْفيهِ. وفطِنَ لتقلُّبِ طرْفي فيهِ. قال: خيرُ دَليلَيكَ منْ أرشَدَ. ثمّ اقتربَ مني وأنشدَ: أنا الذي تعرِفُـهُ يا حـارِثُ حِدْثُ مُلوكٍ فكِهٌ مُنـافِـثُ
أُطرِبُ ما لا تُطرِبُ المَثالِثُ طوْراً أخو جِدّ وطوْراً عابِثُ
ما غيّرَتْني بعْـدَكَ الـحَـوادِثُ ولا التَحى عودي خطْبٌ كارِثُ
ولا فَرى حـدّيَ نـابٌ فـارِثٌ بلْ مِخلَبي بكُلّ صيْدٍ ضابِـثُ
وكلّ سرْحٍ فيهِ ذِئْبـي عـائِثُ حتى كأنـي لـلأنـامِ وارِثُ
سامُهُمُ وحـامُـهُـمُ ويافِـثُ
قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فقلتُ لهُ: تاللهِ إنّكَ لأبو زيدٍ. ولقدْ قُمتَ للهِ ولا عَمرَو بنَ عُبَيدٍ. فهشّ هَشاشَةَ الكريمِ إذا أُمّ. وقال: اسمَعْ يا ابنَ أُمّ. ثمّ أنشأ يقولُ: علـيْكَ بـالـصّـدْقِ ولـوْ أنّـهُ أحرَقَكَ الصّدقُ بنـارِ الـوَعـيدْ
وابْغِ رِضَى اللهِ فأغْبـى الـوَرى منْ أسخَطَ الموْلَى وأرضى العَبيدْ
ثمّ إنّه ودّعَ أخدانَهُ. وانطلَقَ يسحَبُ أرْدانَهُ. فطلبْناهُ منْ بعْدُ بالرَّيّ. واستَنْشَرْنا خبرَهُ منْ مَدارِجِ الطّيّ. فما فينا مَنْ عرَفَ قرارَهُ. ولا دَرى أيُّ الجَرادِ عارَهُ.
حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: عُنيتُ مذْ أحْكَمتُ تَدبيري. وعرَفْتُ قَبيلي منْ دَبيري. بأنْ أُصْغيَ إلى العِظاتِ. وأُلْغيَ الكَلِمَ المُحْفِظاتِ. لأتحلّى بمَحاسِنِ الأخْلاقِ. وأتخلّى ممّا يَسِمُ بالإخْلاقِ. وما زِلتُ آخُذُ نفْسي بهذا الأدَبِ. وأُخْمِدُ بهِ جمْرَةَ الغضَبِ. حتى صارَ التطبُّعُ فيهِ طِباعاً. والتكلّفُ لهُ هوًى مُطاعاً. فلمّا حللْتُ بالرَّيّ. وقد حللْتُ حِبى الغَيّ. وعرَفْتُ الحَيَّ منَ اللّيّ. رأيتُ به ذاتَ بُكرةٍ. زُمرةً في إثْرِ زُمرَةٍ. وهمْ مُنتَشِرونَ انتِشارَ الجرادِ. ومُستَنّونَ استِنانَ الجِيادِ. ومتواصِفونَ واعِظاً يقصِدونَهُ. ويُحِلّون ابنَ سَمْعونَ دونَهُ. فلمْ يتكاءدْني لاستِماعِ المَواعِظِ. واختِبارِ الواعِظِ. أنْ أُقاسيَ اللاّغِطَ. وأحتمِلَ الضّاغِطَ. فأصْحبْتُ إصْحابَ المِطْواعَةِ. وانخرطْتُ في سِلْكِ الجَماعَةِ. حتى أفضيْنا إلى نادٍ حشَد النّبيهَ والمغْمورَ. وفي وسَطِ هالَتِهِ. ووسْطِ أهِلّتِهِ. شيخٌ قد تقوّس واقْعَنْسَسَ. وتقلْنَسَ وتطلّسَ. وهوَ يصدَعُ بوعْظٍ يشْفي الصّدورَ. ويُلينُ الصّخورَ. فسمِعْتُهُ يقولُ. وقدِ افتَتَنَتْ بهِ العُقولُ: ابنَ آدمَ ما أغْراكَ بما يغُرُّك. وأضْراكَ بما يضُرُّك! وألْهجكَ بما يُطْغيكَ. وأبهجَكَ بمنْ يُطريكَ! تُعْنى بما يُعَنّيكَ. وتهمِلُ ما يعْنيكَ. وتنزِعُ في قوْسِ تعدّيكَ. وترْتَدي الحِرْصَ الذي يُرْديكَ! لا بالكَفافِ تقْتَنِعُ. ولا منَ الحَرامِ تمْتَنِعُ. ولا للعِظاتِ تستَمِعُ. ولا بالوَعيدِ ترْتَدِعُ! دأبُكَ أنْ تتقلّبَ معَ الأهْواء. وتخبِطَ خبْطَ العَشْواء! وهمُّكَ أن تدأبَ في الاحتِراثِ. وتجْمَعَ التُراثَ للوُرّاثِ! يُعجِبُك التّكاثُرُ بما لدَيكَ. ولا تذكُرُ ما بينَ يدَيْكَ. وتسعى أبداً لغارَيْكَ. ولا تُبالي ألَكَ أمْ علَيكَ! أتظُنّ أنْ ستُترَكُ سُدًى. وأن لا تُحاسَبَ غداً؟ أم تحْسَبُ أنّ الموتَ يقبَلُ الرُّشَى. أو يُميّزُ بين الأسدِ والرّشا؟ كلاّ واللهِ لنْ يدفَعَ المَنونَ. مالٌ ولا بَنونَ! ولا ينفَعُ أهلَ القُبورِ. سِوى العمَلِ المبْرورِ! فطوبى لمَنْ سِمعَ ووَعى. وحقّقَ ما ادّعى! ونهى النّفْسَ عنِ الهوَى. وعلِمَ أنّ الفائِزَ منِ ارْعَوى! وأنْ ليسَ للإنسانِ إلا ما سَعى. وأنّ سعيَهُ سوفَ يُرى. ثمّ أنشدَ إنْشادَ وجِلٍ. بصوتٍ زجِلٍ: لعَمرُكَ ما تُغني المَغاني ولا الغِنى إذا سكنَ المُثري الثّرَى وثوَى بـهِ
فجُدْ في مَراضي اللهِ بالمالِ راضِياً بما تقْتَني مـنْ أجـرِهِ وثـوابِـهِ
وبادِرْ بهِ صرْفَ الزّمـانِ فـإنّـهُ بمِخلَبِهِ الأشْغـى يغـولُ ونـابِـهِ
ولا تأمَنِ الدهْرَ الخؤونَ ومَـكـرَهُ فكمْ خامِلٍ أخْنى عـلـيهِ ونـابِـهِ
وعاصِ هوى النّفسِ الذي ما أطاعَهُ أخو ضِلّةٍ إلا هوى من عِقـابِـهِ
وحافِظْ على تقْوى الإلهِ وخـوفِـهِ لتنْجوَ مما يُتّقى مـنْ عِـقـابِـهِ
ولا تلهُ عن تَذكارِ ذنبِـكَ وابـكِـهِ بدمعٍ يُضاهي المُزْنَ حالَ مَصابِهِ
ومثّلْ لعينَيْكَ الحِـمـامَ ووقْـعَـهُ وروْعَةَ مَلْقاهُ ومطْعَـمَ صـابِـهِ
وإنّ قُصارى منزِلِ الحيّ حُـفـرَةٌ سينْزِلُها مُستَنْزَلاً عـن قِـبـابِـهِ
فَواهاً لعبْدٍ ساءهُ سـوءُ فـعـلِـهِ وأبدى التّلافي قبلَ إغلاقِ بـابِـهِ
قال: فظلّ القوْمُ بينَ عَبْرَةٍ يُذْرونَها. وتوْبَةٍ يُظهِرونَها. حتى كادَتِ الشمْسُ تَزولُ. والفَريضَةُ تَعولُ. فلمّا خشعَتِ الأصْواتُ. والتأمَ الإنْصاتُ. واستكَنّتِ العبَراتُ. والعِباراتُ. وبرزَ الواعِظُ يتهادَى بينَ رفقَتِهِ. ويتباهَى بفوْزِ صفْقَتِهِ. واعْتَقَبْتُهُ أخطو مُتَقاصِراً. وأُريهِ لمْحاً باصِراً. فلمّا اسْتَشَفّ ما أُخْفيهِ. وفطِنَ لتقلُّبِ طرْفي فيهِ. قال: خيرُ دَليلَيكَ منْ أرشَدَ. ثمّ اقتربَ مني وأنشدَ: أنا الذي تعرِفُـهُ يا حـارِثُ حِدْثُ مُلوكٍ فكِهٌ مُنـافِـثُ
أُطرِبُ ما لا تُطرِبُ المَثالِثُ طوْراً أخو جِدّ وطوْراً عابِثُ
ما غيّرَتْني بعْـدَكَ الـحَـوادِثُ ولا التَحى عودي خطْبٌ كارِثُ
ولا فَرى حـدّيَ نـابٌ فـارِثٌ بلْ مِخلَبي بكُلّ صيْدٍ ضابِـثُ
وكلّ سرْحٍ فيهِ ذِئْبـي عـائِثُ حتى كأنـي لـلأنـامِ وارِثُ
سامُهُمُ وحـامُـهُـمُ ويافِـثُ
قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فقلتُ لهُ: تاللهِ إنّكَ لأبو زيدٍ. ولقدْ قُمتَ للهِ ولا عَمرَو بنَ عُبَيدٍ. فهشّ هَشاشَةَ الكريمِ إذا أُمّ. وقال: اسمَعْ يا ابنَ أُمّ. ثمّ أنشأ يقولُ: علـيْكَ بـالـصّـدْقِ ولـوْ أنّـهُ أحرَقَكَ الصّدقُ بنـارِ الـوَعـيدْ
وابْغِ رِضَى اللهِ فأغْبـى الـوَرى منْ أسخَطَ الموْلَى وأرضى العَبيدْ
ثمّ إنّه ودّعَ أخدانَهُ. وانطلَقَ يسحَبُ أرْدانَهُ. فطلبْناهُ منْ بعْدُ بالرَّيّ. واستَنْشَرْنا خبرَهُ منْ مَدارِجِ الطّيّ. فما فينا مَنْ عرَفَ قرارَهُ. ولا دَرى أيُّ الجَرادِ عارَهُ.